«كلَّما تمَّ إبداعُ المَفاهيمِ في مكانٍ وزمانٍ ما، فإنَّ العمليَّة المُؤدِّية إليهِ ستُسمِّى دائماً فلسفة».
جيل دولوز
يُعرَّف الإسلام لغوياً بأنه الاستسلام لأمر الله والانقياد لأوامره والخضوع لنواهيه، وهذا المعنى المُعجميّ لا يحصرُ دلالتَه بالدين الإسلامي فحسب، غير أنَّ الإسلام اصطلاحاً هو اسم علم يُشير تحديداً إلى الدِّين الذي جاء به النبي محمد (ص).
وإذا كان الدين الإسلامي مُنقسماً إلى فروع فقهية كثيرة، وإلى مذاهب عدة، فإنَّ «الأسلَمة» هي مصطلحٌ سياسي وإعلامي وأكاديمي يعني تلكَ الحركات التغييرية الدينية/السياسيَّة التي تسعى إلى إخضاع المجتمع للشريعة الإسلامية بوصفها نظاماً أخلاقياً ودينياً مُستقىً من القرآن الكريم على نحوٍ رئيس، حيث تؤمنُ تلك الحركات أنَّ الإسلام هو نظام سياسي واجتماعي واقتصادي وقانوني يصلُح لبناء الحُكم ومؤسَّسات الدولة.
وقد ظهر هذا المصطلح أول مرَّة في مصر أثناء حقبة أبناء محمد علي، كرَدِّ فعلٍ على «خطر» التَّغريب والعلمنة ومنظومات الدولة الحديثة، ولذلكَ يَتّهمُ أعداءُ «الأسلمة»، أو بالأحرى أعداءُ «الإسلام السياسي» حركاتِه بأنَّها حركات استبدادية تهدفُ إلى تأسيس أنظمةٍ ثيوقراطيَّة شموليَّة ناهِضَة على إيديولوجيا دينية.
على أيِّ حال، يُميِّزُ كثيرٌ من الباحثين العرب والأجانب في الشأن الإسلامي، ولاسيما المُتخصِّصونَ منهم بحركات «الأسلَمة»، بين تلك الحركات وتوجُّهاتِها وتنوُّعها تبعاً للأزمنة وتحوُّلاتِها السياسية والاجتماعية، وتبعاً للأمكنة وخُصوصياتِ الدول الجيوسياسية، وأيضاً تبعاً لاختلاف رؤى المُنظِّرين لها. في حين إنَّ قسماً غير قليل من الباحثين يرى أنَّ الاختلافات بينها جزئية، وأنَّ التطابُق الفكري والإيديولوجي والخطابي هو الأصل فيها.
قولٌ في مصطلح «ما بعد الأسلَمة»
أوَّلُ من استخدمَ مُصطلَح «ما بعد الأسلَمة» هو عالم الاجتماع السياسي آصف بيات، حيثُ وظَّفَهُ في حقل العلوم السياسية للإشارة إلى «اتِّجاه» نحو «إعادة علمنة الإسلام»، بعد أنْ استنفدتْ تجاربُ الإسلام السياسي والأسلَمة في اعتقاده مُمكناتِها الفاعلة، وطاقتها ورموزها ومصادر شرعيتها الجاذبَة.
على أن نُوضِحَ، في هذا السِّياق، أنَّ هذا المصطلح وما ينطوي عليه من مَحمول مفاهيمي مُقترَح، لا يعكسُ نزعةً مُعاديةً للإسلام؛ إنَّما يعكسُ دعوةً إلى إعادة إحياء «علم الدِّين» في إطارٍ مُعاصر ومُرتبط بقيَم الحداثة والديمقراطية ودمج المحتوى العقائدي «الشخصي» للإسلام بمبادئ الحرية الفردية والاختيار.
وفي هذا المنحى، قدَّمَ الفيلسوف علي حرب قراءةً جادَّةً في مفهوم ما بعدَ الأَسلَمة في كتابِهِ الجهاد وآخرته – ما بعد الأَسلَمة، مُركِّزاً على الاستثمار «الإرهابي» لفكرة «الجهاد»، وداعياً إلى مُراجَعةٍ نقدية جذرية وجريئة لخطابات الإسلام والأسلَمة القائمة على أُصوليَّةٍ أُحاديَّة تدَّعي امتلاك الحقيقة النهائية، وتُنتِجُ، في اعتقاده، العنفَ والتَّطرُّفَ وإقصاءَ الآخَر.
وقد جاءَ الحلّ عند حرب لاستئصال هذا الدّاء الأصولي التكفيري المُتعالي، عبر الالتحاق الحاسم بالفعل والنَّقدي التنويري لتخليق «ذاتٍ مُسلمة» تنتمي إلى حقبة ما بعد الأَسلَمة، بوصفها حقبةً يتحوَّلُ فيها الإسلام إلى مساحة تداولية وهوية مفتوحة وعابرة تساعدُ على المساهمة في صناعة الحضارة والكينونة والوجود في العصر. وهذا ما يجعل، في رأيه، الانتماءَ إلى ما بعد الأسلَمة انتماءً إلى حالة تغليب لغة المواطنة على لغة العقيدة، وذلك بواسطة نزع الأسلَمة من الإسلام، أو بمعنىً آخر بواسطة فصل الإسلام عن الأسلَمة.
وأستطيع أن أُذكِّر في هذا السِّياق، وعلى نحو سريع جداً، بالانتقادات التي وُجِّهَتْ، أو يمكن توجيهُها لعلي حرب؛ كالقول بتبنِّيه خطاباً استشراقياً أحادي البُعد، وبعزله ظاهرة الأسلَمة عن سياقات العولمة والسياسة والمال وصراعات النفوذ وإرادات القوى المختلفة، وسقوطه في ثقافوية راديكالية مُتطرفة أو مُتعالية ساكنة، نوعاً ما، ومُتناقضة مع توجُّهاته هو ذاته في كتاباتٍ وأدبياتٍ كثيرةٍ له، ومنها فكرتُه العميقة حول «تواطؤ الأضداد» التي غذَّت الأسلَمة نفسها.
نحْوَ مُقارَبة منهجية مُغايرة لمُصطلَحَي «الأسلَمة» و«ما بعدها»
لعل الشرح المُختصَر والمُختزَل السابق للدلالة المفهوميَّة التي بُنيَ عليها مُصطلَحا الأسلَمة وما بعد الأَسلَمة، يُمهِّدُ إلى حدٍّ معقولٍ لعرض اقتراحي الدلالي الخاص المتعلّق بهذين المفهومَين: وهو الاقتراح النَّاهض لديّ في التأسيس المنهجي على حفريات المعرفة ومفهوم الخطاب عند ميشيل فوكو، القائل بأنَّ «الخطابَ» هو مجموعة من الأدلَّة الموجودة في عباراتٍ تَنتسِبُ إلى نظام التَّكوُّن نفسه، إذ إنَّ تلكَ العبارات تنتمي إلى التشكيلة الخطابية نفسها التي تنطوي على قوانين تَشَكُّل وعناصر حضور تحكمُ الكتابة والفكر والنظريات في حقبةٍ مُحدَّدة ومُعيَّنة، وهذا ما يكشفه التحليلُ الأركيولوجي للخطاب انطلاقاً من الخلفية الجينالوجية المُتعلِّقة لدى نيتشه بموضوعتَي الأصل والحقيقة، بما هما نتاج صراع إرادات القوى.
ينهض تحليل الخطاب عند فوكو على تفكيك شروط إنتاج نظامٍ واقعيٍّ ما، بوصف تلك الشروط تُحوِّلُ الخطاب إلى بنيةٍ استهلاكية؛ وذلكَ بوصفها معرفةً سلطويةً مُهيمِنَة ومُنتشِرَة ضمن سردياتٍ كُبرى، ولهذا فكلُّ خطابٍ يُضمِرُ أزمةً معرفيَّة (إبستمي) تتمثَّلُ في محاولة هذا الخطاب أن يفرض سلطته على الذَّوات عبر استهلاكها له.
وفي هذا المنحى، لا يقوم مفهوم الخطاب عند فوكو على مركزية الذَّات، فالخطاب هو الذي يتكلَّم لا الإنسان، ذلك أنَّ انتشار الخطاب يتجاوزُ ثنائيَّة الدَّاخل والخارج، وتتمُّ عمليَّةُ إنتاج سلطته بوصفها حقيقةً/إرادةً/مُغيَّباً أو مَسكوتاً عنهُ ضمن «نسَقٍ» له طابع بنيوي غير مركزي.
مع العلم هنا، أنَّ فوكو لا يهتم في حفريَّاته المعرفية الهادفة إلى تفكيك الخطاب بما هو نسَقٌ بالتسلسل التاريخي للخِطابات؛ إنَّما بما هو قوانين تحكم وُجوداً ما عبر «التَّملُّك الاجتماعي» الذي يمارسه الخطاب حينما تُوظِّفُ مجموعةٌ مُهيمنةٌ (ما) عنصراً أو عناصرَ اجتماعيةً (ما) لتكون وسيلةً للربح عبر استثمار رأسِ المال الرمزي أو الثقافي في تحقيق منافع لتلك الجماعة المهيمنة.
لكنَّ هذا النهج الفوكويّ لا يمنعني، كما أظنُّ من جهتي، من توظيف الحفريَّات في تفكيك الخطابات في كينونتها الآنية وفي تتابعها الزمني في آنٍ معاً.
وهذا ما تنطوي عليهِ مُقاربتي لخطاب كل حركةٍ من حركتَي الموجتيْن العربيتيْن النَّهضويتيْن على حدة، من دون إغفال مسألة التسلسل الخطي التاريخي بينهما، وصولاً إلى تلمُّس معالم جديدةٍ لخطاب حقبة الموجة العربية النهضوية الثالثة بوصفها تُشكِّلُ وفق مفهومي الخاص والمُقترَح «حقبة ما بعد الأسلَمة».
في تحقيب حركتَي الموجتيْن العربيتيْن النهضويتيْن الحديثتيْن (حقبة الأَسلَمة)، يقوم اقتراحي من حيث المبدأ على القول بوجود ثلاثة عصور معرفية عربية حديثة لها خطاباتُها الكُلية المُهيمِنة؛ اثنان من هذه العصور يُشكِّلان حركتيْن أو موجتيْن عربيتيْن نهضويتيْن حديثتيْن انفتحتا وتعيَّنتا في القرنيْن الماضييْن، حيثُ تنتميان في جميع تياراتِهِما إلى حقبة عربية أدعوها بحقبة «الأسلَمة»، وحركة أو موجة عربية نهضوية ثالثة هي ما زالتْ في طور التَّشكُّل أو المشروع أو الطموح أو حتى الحَدْس، وأدعوها بحقبة «ما بعد الأسلَمة»، وهذا ما سأوضحه في السطور الآتية.
إن كل حقبةٍ من حقبتَي الأسلَمة تُشكِّلُ انفتاحَ نسَق وجودي عام/كلّي اشتركت فيه «الخطابات» بجملة من المُحدِّدات التكوينية وعناصر الحضور الواقعية، محكومَةً بعددٍ من المُنطلَقات والأفكار والمفاهيم والمُسَبَّقات والرؤى الأيديولوجية واليوتوبية التي نهَضَ عليها الإبستمي لتسويغ شرعية «تملُّكه الاجتماعي للذَّوات العربية» عبر توظيف رأس مال رمزي أو ثقافي كامن ومُلِحّ في أسئلة الوعي واللاوعي الجمعي العربي المُتعطِّش للنهضة والتقدم والحضارة والعودة إلى التاريخ والعصر.
وأعتقدُ أنَّ النَّسَقَ الوجودي العام (الكُلي) للخطاب في كل حقبةٍ من هاتين الحقبتيْن/الموجتيْن، وفي الحقبة/الموجة الثالثة أيضاً، تجلَّى وسيتجلَّى عبر ثلاثة أبعادٍ أو مستوياتٍ أو «خطاباتٍ جزئية»، هي:
1- خطاب/فكر الهُوِيَّة.
2- خطاب/فكر السياسة.
3- خطاب/فكر الإبداع.
وهاتان الموجتان النهضويتان هما:
أوَّلاً: موجة عصر النهضة/اليقظة العربية أو التنوير العربي/الحداثة الأولى (حقبة الأسلَمة الانفعالية/أو الإيديولوجيا بوصفها وجوداً بالقوة):
يُؤرَّخُ بدءُ حقبة اليقظة (التنوير العربي) عند معظم الباحثين بالحملة الفرنسيَّة على مصر والشام (حملة نابليون بونابرت 1798-1801 ميلادية)، وتتَّسِمُ الخطابات الجزئيَّة (خطابات فكر الهُويَّة وفكر السِّياسة وفكر الإبداع) فيها ببِنى وتكوينات دعَوتُها بـ«الأسلَمة الانفعالية»، والتي حكمت النَّسَق الوجودي العام/الكُلي للخطاب عبر صراع «تمركزي تطابُقي» لثنائيات كانت سائدة بين التَّناحُر والإقصاء والجدَل، هي:
1- الأنا/الشّرق، والآخَر/الغرب.
2- التراث/الماضي، والمُعاصَرة/الحاضر (التقليد والحداثة).
3- الاتِّباع والإبداع.
4- السلطة والدولة (المرجعيات المطلوبة أو المُفترَضة أو الضرورية أو اللازمة/المُلزِمة).
وسادَتْ أجوبةٌ عن هذه الثنائيات تُهيمِنُ عليها قيمٌ خطابيةٌ حديةٌ/تفاصُليةٌ ومركزيَّة/تطابُقيَّة، قائمةٌ في معظمها على مبادئ المنطق الأرسطي:
1- مبدأ الجوهر الثابت للهُوية.
2- مبدأ عدم التناقض (الوحدة المتماسكة والمُتعالية).
3- مبدأ الثالث المرفوع (إما/أو).
وهذا ما يُمكن وصفه بالخطاب الشمولي الأحادي المُنبثِق من فكر الثنائيات الجوهرانية المُتحفِّزة بمُسَبَّقاتٍ مركزية تطابقيةٍ لمواجهة الأسئلة الكيانية المُقلِقة عربياً.
ثانياً: موجة عصر الحداثة العربية/ما بعدَ اليقظة العربيَّة/الحداثة الثَّانية (حقبة الأسلَمة المُنظَّمة أو الإيديولوجيا بوصفها وجوداً بالفعل):
يميلُ مُعظَم الباحثين إلى تأريخ أو إرجاع إرهاصات هذهِ الحقبة إلى بدايات القرن العشرين، حيثُ نضُجَت مَعالِمُها، رُويداً رُويداً، مع بدء ما سُمِّيَ «استقلال» الدول العربية عن الاستعمار القديم، وصولاً إلى أواسط القرن العشرين. ففي هذهِ الحقبة (الأسلَمة المُنظَّمة)، انتقلت الأيديولوجيا من مرحلة الوجود الانفعالي بالقوة إلى الوجود المُنظَّم بالفعل، وحُكِمَتْ خطابات فكر الهوية وفكر السياسة وفكر الإبداع عبر الإجابة عن ثنائيات عصر اليقظة العربية (الأنا والآخَر، التراث والمُعاصَرة، الاتِّباع والإبداع، السلطة والدولة) بأنماط صراع إيديولوجي شمولي، تناحُري في الغالب وجدلي أحياناً، قائم لدى جميع التيارات على الإقصاء والتمركز الأحادي وجوهرانيَّة امتلاك معرفة الحقيقة النهضويَّة المُطابِقَة للمُسَبَّقات (الحل الحداثي السحري أو الحل السحري بنفي الحداثة).
وهكذا؛ لم تُغادرْ خطابات هذهِ الحقبة في نسقها الوجوديّ العام (الكُلِّيّ) المنطق الحدي التَّفاصُلي والتَّمركزي التطابقي القائم على مبادِئِ المنطق الأرسطيّ: «مبدأ الجوهر الثَّابت للهُوِيَّة، مبدأ عدم التَّناقُض/الوَحدة المُتماسكة والمُتعالية، مبدأ الثَّالث المرفوع: إمَّا/أو».
لهذا، أرى أنَّهُ ظلَّ المَنسيُّ أو المَسكوتُ عنهُ أو غيرُ المُفكَّرِ به في مُعظَم خطابات/أدبيَّات هاتيْن الحركتيْن/الموجتيْن النَّهضويتيْن العربيتيْن، وذلك إذا استعرنا من مارتن هايدجر مصطلح «نسيان الوُجود»، هو:
1- الوُجود الدِّيمقراطي التَّعددي التداولي في ظل صراع الهُوِيَّة والسياسة والإبداع على شرعية التَّملُّك الاجتماعي للذوات العربية القلقة والمُتعطِّشة لتخليق دول عصرية ودخول العصر الحديث.
2- وجود الذات الفردية الحرة في ظل ابتلاع مفاهيم إيديولوجية جوهرانية مركزية وشموليَّة/ قَبْليَّة الاختلاف والاستقلالية الإنسانية وأولوية الكينونة والابتكار والإبداع.
3- الوجود المُسَبَّق لمكبوتات عقدة النَّقص الحضاريّ (الصَّدمة الحضاريَّة) بوصفها مُسَبَّقات مَركزيَّة وتطابُقيَّة ميتافيزيقيَّة مَسكوتاً عنها أو غيرَ مُفكَّرٍ بها تحكَّمَتْ «قَبْليَّاً» بالخطابات، وبتأثراتها على الذَّوات الاجتماعية، بما هي أوَّلاً استجاباتٌ طبيعيَّة لشعور العرب بالتَّأخُّر الحضاري وبالجرح النَّرجسي، وبما هي ثانياً رأسُ المالِ الرَّمزيّ/الثَّقافيّ الذي وظَّفَتْهُ واستثمرَتْهُ النُّخبُ العربيَّة المُهيمِنة لتحقيق «التَّملُّك الاجتماعيّ» على الأفراد والجماعات.
وتبعاً لهذهِ «المَنسيَّات» الثَّلاث المَسكوت عنها في خطابات موجتَي النَّهضة العربيَّة (اليقظة والحداثة)، تبدو لي حتَّى ما دُعيَتْ بـ«التَّيَّارات التَّقدُّميَّة والحداثيَّة والعلمانيَّة» العربيَّة مُنطويةً في مُعظَمِها على «أُصوليَّاتٍ مَقلوبَةٍ» ذات بنى خطابيَّة/تبشيريَّة تدَّعي امتلاك الحقيقة الشُّموليَّة الحاسِمَة، والتي لا تختلِفُ في حفريَّات تكويناتها الأيديولوجيَّةِ المَركزيَّة، وفي مُسَبَّقاتِها الجوهرانيَّةِ التَّطابُقيَّة الميتافيزيقيَّةِ، عنِ تيَّارات الإسلام السِّياسيِّ، وهذا ما دعانِي إلى إجمالِها، نسبيَّاً، وفي إطارِها النَّسَقيّ العامّ، تحت عباءة خطاب حقبة الأسلَمة.
فالأسلَمة في اقتراحي، هُنا، ليسَتْ حكراً على «خطاب» نظَريَّات أو تيَّارات أو أحزاب الإسلام السِّياسيّ؛ إنَّما هي مُتأصِّلة في حقبتَي/موجتَي النَّهضة العربيَّة، حتَّى في مُعظَمِ خطابات التَّقدُّميِّين والقوميِّين واليساريِّين والعلمانيِّين والمُلحدين ووو……. إلخ، إنْ في فكرِ الهُوِيَّةِ، أو في فكر السِّياسةِ، أو في فكرِ الإبداعِ.
إذ لطالَما اشتغلَتْ تلكَ الخطابات المُؤدلَجة في تملُّكِها الاجتماعيّ على آليَّاتٍ أُصوليَّة شُموليَّة تمنحُها شرعيَّتَها انطلاقاً من مُصادَرَة الوُجودِ قَبْلِيَّاً، وطيِّهِ على «وحدة-ات»أيديولوجيَّةٍ جوهرانيَّةٍ ومَركزيَّة تطابُقيَّة مُتعاليةٍ ونهائيَّةٍ ومُغلَقةٍ.
نحو إطلاق مَشروع الموجة العربيَّة النَّهضويَّة الثَّالثة (حقبة ما بعد الأسلَمة)
لعلَّ استخدامي لمُصطلَح (ما بعدَ الأَسلَمة) بمحموله المَفهومي المُقترَح هُنا، يلتقي مع دلالة أيِّ مُصطلَحٍ (ما بعديٍّ) يُعبِّرُ عن أفول أو ضُمورِ توجُّهاتٍ أو رُؤىً أو بِنىً مَعرفيَّةً مُحدَّدةً، إلى حدٍّ ما، وبدءِ انفتاحِ عالَمٍ جديد ناهِضٍ على تحوُّلاتٍ عميقَةٍ وجديدةٍ ومُغايرةٍ في الخطابات.
وتأسيساً على هذا الفَهم، أفترِضُ أنَّ حقبة ما بعدَ الأَسلَمة، أو مشروع الموجة العربيَّة النَّهضويَّة الثَّالثة، ستنطوي على قطيعةٍ نسبيَّةٍ معَ حقبتَي أو موجتَي النَّهضة العربيَّة السَّابقتيْن (اليقظة والحداثة).
ومعنى ذلكَ، أنَّ «اختلافاً» ما ينبغي أن نتلمَّسه في النَّسَق الوُجوديّ العام/الكلي لخطابات فكر الهُويَّة وفكر السِّياسة وفكر الإبداع في هذهِ الحقبة الجديدة، وهو ما يُتوقَّعُ أنْ ينبسط في توضُّعٍ مفتوحٍ ومُغايِرٍ للتقابُل التقليدي الذي هيمن على الثنائيات الصراعية الشاغلة في حقبتي النَّهضة/الأسلَمة السَّابقتيْن؛ أي في ثنائيات: «الأنا والآخَر، التُّراث والمُعاصَرة، الاتِّباع والإبداع، السُّلطة والدَّولة»، وذلكَ بناءً على مُجاوَزة المنطق الميتافيزيقي البالي والمحمول على تفاضل حدي، وعلى مركزيةٍ مُطابِقَةٍ وقائمةٍ على جوهرانية أحادية وإقصائية مُتعالية وساكنة ومغلقة لا تكاد تغادِر شمولية المنطق الأرسطي (إما/أو)، والمُنطلقة، في أصلها الخطابي، من المُسَبَّقاتِ النرجسية التَّملُكيَّة المُتحفِّزة لمُواجهة الأسئلة الكيانية المُقلِقة عربياً.
ولعلَّ هذا المنحى يقودُ تلقائيَّاً إلى القول: إنَّ أحدَ الشُّروط (الضَّروريَّة والمحوريَّة) للحديث عن ولادة خطابٍ عربيٍّ نهضويٍّ جديدٍ (وأُعلِّقُ هُنا، جدَليَّاً، مُصطلَح: الحتميَّة)، يكمنُ في مُغادَرة أرض الميتافيزيقا (مُجاوَزتها) من بوابة مغادرة المُسَبَّقات المَركزيَّة والتَّطابُقيَّة لحقبتَي الأسلَمة، الانفعاليَّة والمُنظَّمة في آنٍ معاً؛ أي: من بوابة مغادرة المُسَبَّقات الإيديولوجية الموجودة بالقوة أو الموجودة بالفعل بما هي حامِلٌ خطابي لأفكارِ جوهرانيَّةِ امتلاكِ حقيقةِ المعرفة النَّهضويةِ المركزيةِ المُطابِقَة، والانهمام بالمَنسيَّات الثلاثة المسكوت عنها في خطابات موجتَي النَّهضة العربيَّة (اليقظة والحداثة):
1- الوجود الدِّيمقراطيّ التَّعدُّديّ التَّداوُليّ.
2- وجود الذَّات الفرديَّة الحُرَّة.
3- الوجود المُسَبَّق لمكبوتات عقدة النَّقص الحضاريّ.
وأعتقدُ أنَّ انفتاح نسقِ هذا التَّحوُّل/القطيعة النِّسبيَّة لحقبة عصر «ما بعدَ الأَسلَمة: الموجة العربيَّة النَّهْضويَّة الثَّالثة»، يبدأ انطلاقاً من مُحايثتيْن مُتزامنتيْن ومُتقاطعتيْن ومُرقَّدتيْن 1:
المُحايَثة الأولى: الانتقال إلى فعاليَّات خطاب مَعرفيّ جديد ينزاحُ عن أساليب وُجود حركتَي أو موجتَي النَّهضة العربيَّة السَّابقتيْن، غوصاً في عصر مَعرفيّ حضاريّ مُغايرٍ، تتحرك كينونتُه في مضمَار حرية ما بعد الإيديولوجيا أو ما بعد الجوهرانيَّة: اليوتوبيا الجديدة، بوصفِها فضاءً كيانيَّاً وُجوديَّاً تعدُّديَّاً يُغادِر الكيفيَّاتِ التَّقليديَّة لمُصادَرَةِ الوُجودِ قَبْلِيَّاً، والذي كان يتمُّ عبر طيِّه على الوحدة أو الوحدات المتماسكة للأُحاديَّات المركزيَّة المُطابِقَة ذات الصِّراعات الثُّنائيَّة التَّقابُليَّة المُسَبَّقة والمُتعالية والمُغلَقة. وهوَ الأمرُ الذي، قد ورُبَّما، يعبرُ بالعرب باتِّجاه افتتاح عصر النهضة العربية الأصيلة في خطابات فكر الهوية والسياسة والإبداع، وما تنطوي عليه هذه المسارات من بناء دول مُعاصرة ومُتقدِّمة ومُنتمية إلى التَّاريخ والعصر والحرية.
المُحايَثة الثَّانية: وهيَ المُحايَثة المُرتبِطة بطبيعة العصر الذي ينتمي إليهِ عربُ الآن؛ وهو العصر الذي أستطيع، إجرائياً، قسمَهُ قسميْن غير مُنفصليْن قطعاً، هُما:
1- عصر العربِ الخاص: وهو عصر الرَّبيع العربيّ وما بعدَهُ: أواخر العام 2010- بدايات العام 2011، والمُرتبِط جذريَّاً (عموديَّاً وأُفُقيَّاً) بالزَّمن الخطِّيّ لخطابات عصرَي النَّهضة العربيَّة (اليقظة والحداثة)، وإشكاليَّاتِهِما ومآلاتِهِما ونتائجِهِما.
2- عصرُ العربِ العامّ/العالَميّ الكونيّ: وهوَ عصرُ العولمة الرَّقميَّة والفضاء الافتراضي والسوشال ميديا والذكاء الاصطناعي، وما دُعيَ بخطابات عصر «ما بعد الحقيقة»، مع تحفُّظي، من حيثُ المبدأ، على هذا المُصطلَح ومَفاهيمِهِ السَّائِدَة، على الأقلّ من جهة ضرورة المُراجَعة والتَّفكيك والتَّعميق فيما بعد، وفي سياقٍ آخَر لا مجال للخوض به هنا.
ولعلَّ الانتماء إلى مُعطيات هذيْن العصريْن المُتمازجيْن والمُتفاعليْن جدَليَّاً بعُمقٍ، يعني الانتماء إلى هوية عُروبيَّة ثقافية عابِرَة للأجناس والإثنيات والطَّوائف والشُّوفينيَّة والأُصوليَّات والحُدود؛ أي: الانتماء إلى نسَقٍ وجودي/خطابي مفتوحٍ وباسِطٍ لهويةٍ معرفيةٍ حركيةٍ جدليةٍ مُتحوِّلةٍ ومتغيِّرةٍ وغير مُكبَّلةٍ أو مُصادَرَةٍ بالمُسَبَّقاتِ التَّقليديَّة المَركزيَّة والتَّطابُقيَّة الكابِحَةِ للحريات؛ أي: بما هي هويةٌ مُتخارِجةٍ بسيولةٍ وسلاسةٍ ورحابَةِ رُوحٍ وجُرأَةِ كينونَةٍ، نحو وفي الوجود والعالم والعصر ومُمكناتِ المجهول وابتكاراته المدهشة الجديدة والمُختلِفَة.
وقد كانت لي كتابات عدَّة سابقة 2 تدعو إلى تغييب/تحجيم الإيديولوجيا العربيَّة المُسَبَّقة والمُتعالية والمُغلَقة نرجسيَّاً ومركزيَّاً وتملُّكيَّاً، والانحياز أو الانزياح باتِّجاه حُضور هُوِيَّة عربيَّة ثقافيَّة ومَعرفيَّة يوتوبيَّة إبداعيَّة خلَّاقة وحُرَّة وقادِمة من المُستقبَل. وكان لي، أيضاً، في إحدى موادي السابقة عنِ الربيع العربي تنظيٌر حول مَسألة «ميلاد اللَّحظة الفلسفيَّة العربيَّة المُعاصِرَة» 3.
أخيراً، وليس آخِراً: يبقى اقتراحي الفكريّ هذا المَوسوم بِـ«ما بعدَ الأَسلَمة» مُحاولة أوَّليَّة طُموحُها تخليقُ فهمٍ وُجوديٍّ جادّ وجديد، وقابِلٍ للرَّبطِ بحركَيَّةِ الواقعِ العربيّ والعالَميّ، ما استطعتُ إلى ذلكَ سبيلاً. وهوَ الأمرُ الذي يتطلَّبُ، من قبَلِي أو من قبَلِ غيري، تحليلاً مُقارَناً ومُعمَّقاً ومُثابِرَاً لنماذِجَ خطابيَّة مُتنوِّعة للحقب الثَّلاث المعنيَّة هُنا.
… وقد، أو رُبَّما، يُساهمُ هذا العمل، في فتح أبواب التَّفكير والتَّأمُّل والحوار والتَّساؤل عن طُرُقٍ وطرائقَ فعَّالةٍ وفاعلةٍ لالتحاق العرب بالعصر، أمَلاً بانبعاثِ، أو بتأصيلِ حُضورِ مثل هذا الانبعاث المُفترَض وُجودُهُ على الأقلّ حدسيَّاً الآن لحركة الموجة العربيَّة النَّهضويَّة الثَّالثة، بأصالةٍ مُغايرَةٍ وبجسارةٍ مُجاوِزَةٍ ومُختلِفَةٍ هذهِ المرة.
المصدر: الجمهورية