إنّ الدارس للتاريخ العربي يلاحظ أنّ العالم العربي كان يسير نحو التفكك منذ القرن العاشر الميلادي تقريباً، وحتى في ظل الإمبراطورية العثمانية، التي يمكن القول إنها لعبت دوراً مزدوجاً، موحِّدا ومجزِّئا في الوقت نفسه، حيث ضمت أراضي السلطنة سلطة سياسية واحدة، لكنها قامت على أساس نمط من الإقطاع، يدعم التجزئة والتفتيت. ولكن لا بدَّ من القول إنّ التجزئة العربية قد اتخذت شكلاً محدداً في ظل السيطرة الاستعمارية.
لقد كانت التجزئة، قبل الاستعمار، تتصل بأسلوب إنتاج الاقتصاد الطبيعي أو شبه الطبيعي وعلاقات إنتاج بدائية. وأصبحت بعد الاستعمار ترتبط، بالدرجة الأولى وعلى نحو متزايد، بعلاقات عصر الإمبريالية – العلاقات الخارجية للدول العربية والعلاقات الداخلية التي أنشأتها الإمبريالية داخل كل بلد عربي – واتخذ البنيان الاقتصادي والاجتماعي السابق والمتحول مكانه في إطار هذه العلاقات.
كما أننا لاحظنا أنّ الفترة بين القرن العاشر والقرن الثامن عشر شهدت مرحلة انعدام المركز الذي يلقي بتأثيره على كل المناطق المحيطة، من خلال لعبه دوراً حضارياً يساهم في التطور العالمي. ولا بدَّ أن نلاحظ أنه كانت هناك حركتان متعاكستان: حركة انهيار العرب، وحركة تقدم أوروبا. أي حركة أفول الدور المركزي الذي لعبه العرب، وبداية الدور المركزي الأوروبي. في هاتين الحركتين المتعاكستين تحققت تجزئة العالم العربي، ووحدة الأمم الأوروبية.
أما في الطور الأخير من أزمة حركة التحرر الوطني العربية، خاصة منذ هزيمة يونيو/ حزيران 1967، فقد انتكست مسألة الوحدة العربية من مسألة الحفاظ على التجزئة إلى مرحلة اضطراب الوحدات الوطنية نفسها. وينطوي مشهد التجزئة هذا على مجمل السلبيات التي واكبت حالة التجزئة واستمرار منطقها، خاصة زيادة الاختراق الخارجي للمنطقة العربية. كما ينطوي على بعض الإيجابيات: انتشار التعليم، وارتفاع مستوى المعيشة، والاتساع في قاعدة الموارد، وبعض صور المقاومة لتردي الأوضاع. وربما يكون من أخطر نتائج مشهد التجزئة تَحَلُّلُ الهوية العربية عموماً، وتَحَلُّلُ بعض الهويات الوطنية خصوصاً، في اتجاه صعود الهويات الفرعية الدينية والمذهبية.
لقد تكونت بنية العالم العربي المعاصر خلال ثلاث مراحل: المرحلة العثمانية، ومرحلة الاستعمار الغربي، ومرحلة العهد الاستقلالي. ولا نبالغ إذا قلنا أنّ الاستقلال الوطني في العديد من الدول العربية لم يكن، في حقيقته، أكثر من تسوية وسطية قبل فيها المستعمِر بمنح هذه الدول استقلالها السياسي، مقابل تنازلات القيادات الوطنية عن مطلبها في الوحدة مع دول عربية أخرى. وإذا كانت تجربة سورية ولبنان، في مطلع أربعينيات القرن الماضي، هي التعبير الصريح عن هذه التسوية، حيث تنازل الوحدويون في البلدين عن الوحدة مقابل نيل البلدين استقلالهما، فإنّ تنازلات مماثلة – أقل صراحة – جرت في العديد من الدول العربية الأخرى.
ولا يستطيع أحدٌ الادعاء أنّ التجزئة وحدودها المرسومة وفق مبدأ تقاسم النفوذ من جهة، وضمانات تعميق التجزئة بالنزاعات المحلية والداخلية ولجم إمكانات الوحدة والتقدم من جهة ثانية، وحدود المصالح الإمبريالية ومصالح الفئات المرتبطة بها عضوياً من جهة ثالثة ” لا يستطيع أحد أن يدّعي أنّ هذه التجزئة هي نتاج انفجار البنية المحلية أو تفككها الناجم عن تناقضاتها الداخلية فقط. إنها بالأحرى عملية تقسيم وتقاسم ارتكزت بالطبع على واقع التأخر التاريخي للشعوب العربية “.
إذن من المؤكد أنّ التجزئة العربية هي نتاج فعل خارجي، يعبّر عن ويعكس الضرورة الخارجية، وما كان له أن يتحقق على هذا النحو لولا هشاشة وفوات البنية الداخلية، الناجمين عن الضرورة الداخلية، فالعامل الداخلي هو الحاسم في التقدم وفي التراجع على السواء.
ومما لاشكَّ فيه أنّ التاريخ العالمي المعاصر قد أخذ العرب موضوعاً ومادة له، خاصة حين فرض الاحتلال الأجنبي تعمّق اندماج العالم العربي في النظام العالمي، اقتصادياً واستراتيجياً، لا بشروطه ولمصلحته، بل بشروط المحتلين ولمصالحهم. وقد تفاوتت تداعيات ذلك من بلد عربي إلى آخر، طبقاً لعدة عوامل منها: طبيعة مرحلة التطور في كل بلد عشية الاحتلال الأوروبي، وحسب الدولة الأوروبية التي قامت بالاختراق، وأولوية أهدافها من احتلال البلد المعني. ففي الهلال الخصيب ووادي النيل والمنطقة المغاربية ” حيث كان هدف الاحتلال هو الحصول على المواد الخام الرخيصة، واحتكار الأسواق لبضائعها المصنعة، أدخلت القوى الأوروبية المحتلة الكثير من التغيّرات على نظام الإدارة الحكومية، والشؤون المالية، والضرائب، والنقل والمواصلات، وتطوير وسائل الري والزراعة الحديثة وتنظيم وتقنين الملكية الفردية. وقد أفادت هذه التطويرات فئات معينة من أهالي البلاد بالطبع. كما أنها تركت بنية أساسية لا بأس بها، بدأت بها معظم البلدان العربية دولها الوطنية بعد الاستقلال “.
وقد كان ثمن الجانب الإيجابي من هذه التغيّرات فادحاً، حيث كانت معظم التطويرات انتقائية، مما يخدم المصالح المباشرة للمحتل الأوروبي. وإضافة إلى ذلك، فإنّ هناك أقاليم جُزِّئتْ بشكل تعسفي صارخ. وكان إقليم الهلال الخصيب أكبر ضحية لهذا النوع من التشويه، فقد اصطُنعت فيه خمسة دول: العراق، وسورية، ولبنان، وفلسطين، والأردن.
لقد أدركت الدول الأوروبية الاستعمارية، منذ القرن التاسع عشر، أنّ أيَّ اتحاد عائق أساسي يضر بمصالحها التوسعية. ولذلك لجأت إلى أشكال متنوعة من المخططات المدروسة التي تقطع الطريق على إمكانية هذا الاتحاد، وتمهد للتدخل الأوروبي المباشر في شؤون هذه المنطقة، وأبرز تلك المخططات:
(1) – تشجيع التقاتل بين شعوب هذه المنطقة كما تجلى في حروب محمد علي والسلطنة العثمانية، والحرب العراقية – الإيرانية، والوصاية السورية على لبنان، والغزو العراقي للكويت، والغزو الأميركي للعراق، ومآلات ربيع الثورات العربية.
(2) – زرع كيان استيطاني صهيوني في فلسطين، يشكل قلعة متقدمة للقوى الإمبريالية، ويمنع – بالقوة – أمكانية أيَّ اتحاد في المنطقة.
(3) – استخدام القوة المسلحة للسيطرة على العالم العربي والتحكم بموارده الطبيعية كما تجلّى في مختلف أشكال الحماية، والوصاية، والانتداب، وإقامة القواعد العسكرية.
وغني عن التوكيد أنّ المواد الخام المكتشفة، ولاسيما النفط، شكلت حافزاً هاماً للإمبريالية كي تزيد من رقابتها على هذه المنطقة الاستراتيجية البالغة الأهمية من العالم. ويمكن تحديد عام 1840 كبداية لتبلور مشاريع التجزئة الاستعمارية في الهلال الخصيب، حين أسفر الصراع الفرنسي- البريطاني عن تقسيم جبل لبنان إلى قائم مقاميتين: مسيحية ودرزية. فقد بنى الفرنسيون مشروعهم الأساسي للتجزئة انطلاقاً من حمايتهم للأقليات المسيحية فيه، ولاسيما الكاثوليك والموارنة. في حين أنّ المشروع البريطاني بُني، في الجانب الأساسي منه، على دعم الحركة الصهيونية، وجمع شتات اليهود من العالم وإسكانهم في فلسطين بعد ترحيل سكانها العرب.
لقد شخّصت الدول الاستعمارية هذا الموضوع وبنت عليه سياساتها إزاء العالم العربــي ” فبعد أن اتخذت الإجراءات العملية في اتفاقية سايكس- بيكو ووعد بلفور وقامت الدول الوطنية، أصبحت مهمة تكريس التجزئة موكلة إلى النخب الحاكمة بدلاً من الدول الاستعمارية بصورة مباشرة. لذلك، نلاحظ أنّ الدول الاستعمارية انسحبت إلى الخلف واقتصر نشاطها على التوجيه غير المباشر والحماية للدولة الوطنية بشتى الوسائل وبدرجات متفاوتة حسب مقتضى الحال. ويُلاحَظُ أنّ هذه الدول التزمت التقليل من الكلام والتصريحات المعادية، غير أنّ مراكز البحوث في الجامعات والمستشرقين استمروا بالنهج القديم نفسه في التنظير المبطن للتجزئة وتعميق الحس الانقسامي عند المكوّنات الطائفية والقومية بهدوء وليس بصيغة هجوم واسع النطاق “.
وهكذا نلاحظ أنّ التجزئة العربية كانت إطار مشروع السيطرة الاستعمارية على المنطقة العربية ونقطة تقاطع شروطه ونتائجه. وإذا كان العنصر الاقتصادي شكل العنصر المقرر لوجهة السيطرة الاستعمارية العامة على المنطقة العربية، فقد تمت عملية تسييجه بانتدابات استعمارية عدة، وحضور عسكري مباشر، وبسلسلة معاهدات واتفاقات عسكرية، لضمان السيطرة على مراكز الإنتاج وعمليات النقل والتصدير. كما أنّ الاستعمار كان يرى في المنطقة العربية منطقة تلعب دور الممر الضروري لعلاقات النهب الاقتصادي لموارد المستعمرات في قارتي آسيا وأفريقيا، لما تتمتع به من موقع استراتيجي هام بفضل مضائقها وممراتها البحرية.
ونضيف إلى ذلك أنّ حصار الاتحاد السوفياتي كان يشكل هماً رئيسياً من هموم الاستراتيجية الاستعمارية، مما كان يرشح المنطقة العربية، في نظر الاستعمار، لدور متجدد لا يقل أهمية عن دورها التقليدي. إذ ” أنّ تشابك الحلقات الجغرافية والسياسية للمدى العالمي للسيطرة الاستعمارية كان يجعل من سلامة أية حلقة مشروطة بسلامة الحلقات التي تحيط بها. لذا كان من الطبيعي أن ينظر الاستعمار إلى المنطقة العربية على أنها موقع استراتيجي حيوي تتبدى أهميته أيضاً في كونه يشكل ظهر الاتحاد السوفياتي من وراء تركيا وإيران، ويشغل حيّزاً مهماً من شواطئ البحر الأبيض المتوسط “.
324 5 دقائق