الأمين العام المساعد للأمم المتحدة والمدير المساعد لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومدير المكتب الإقليمي لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي للدول العربية، عبدالله الدردري، يرى أن “عالمنا متعدد الأزمات”، ويتضمن أمورا تدعو إلى التشاؤم وأخرى تدعو إلى التفاؤل، وأن “منطقتنا تدرك هشاشتها”.
وقــــــال الدردري في حديثــــــه إلى “المجـــــلة” إنه قبــــل أربعــــين ســـــنـــــة كــــانت لــــدى دول أميـــــركا اللاتينيـــــــة وأفــــريقيا وجنــــوب آســـــيا وشــــــرق آســــيا، التحديات الاقتصادية والاجتمــــــــاعيــــة ذاتــــها المـــــوجودة في العــــالم العربي، و“هي تجــــــاوزت هذه المواضيـــــــع ونــــحن في المنطقة ما زلنا تقـــــــريبا نراوح مكاننا”، ذلك أن “تحــــديات التنميـــــة في العالــــم أعادت ترســــيخ فكـــــرة أن المنطقـــــة لم تتحــــــرك كثيــــــرا، تحــــــركت إلى الوراء في كثيـــــر من المحــــــاور ولكـــــــن التحــــــرك إلى الأمــــــام بــــــشـــــكل عـــــام مــــحــــدود للــــغــــــاية”.
وتجنب إصدار “حكم أخلاقي” على “الربيع العربي” بعد 12 سنة ويترك هذا لـ“التاريخ”، لكنه يقول: “ما يهم الآن، ألا نعيد تكرار الأخطاء”، لافتا إلى بعض الجوانب الإيجابية بينها وجود “إدراك لحجم المشاكل”.
وتوقف الدردري عند التغييرات الحاصلة في السعودية، مشيرا إلى “التقاطعات” بين رؤية الأمم المتحدة لأهداف التنمية في 2030، و“رؤية 2030” في السعودية.
وهنا نص الحديث الذي أجرته “المجلة” عبر تطبيق “تيمز” في 19 يوليو/تموز:
* تواجه المنطقة العربية تحديات كثيرة. وإضافة إلى التحديات السياسية، هناك تحديات دائمة ومستدامة لها علاقة بالفقر وتحدي الجفاف. ما أولويات “برنامج الأمم المتحدة الإنمائي”، وما برنامجكم للتعاطي مع هذه التحدياتفي المنطقة العربية؟
– منذ أربعين سنة، تتحدث المنطقة العربية عن تحديات الجفاف والفقر وتراجع فرص العمل وعدم الكفاءة في النشاط الاقتصادي وعدم تنافسية الاقتصادات التي تعاني منها المنطقة. ثم جاء تقرير التنمية الإنسانية العربية الأول في عام 2002 ليضيف لتلك التحديات ثلاثة نواقص أساسية: النقص في الحرية والنقص في تمكين المرأة والنقص في المعرفة.
وقبل أربعين سنة واجهت دول أميركا اللاتينية ودول أفريقيا جنوب الصحراء ودول جنوب وشرق آسيا التحديات الاقتصادية والاجتماعية ذاتها، ولكن معظمها تجاوز تلك التحديات بينما نحن في المنطقة العربية ما زلنا تقريبا نراوح مكاننا، إذ أكد تقرير تحديات التنمية في العالم الذي أصدرته “لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا” (اسكوا) في العام 2022 أن تحرك المنطقة إلى الأمام كان محدودا للغاية بشكل عام، بل إنها تحركت إلى الوراء في بعض المحاور. وهو شيء مؤسف أننا لا زلنا نواجه التحديات ذاتها وأن حواراتنا حول التنمية التي كنا نجريها منذ 30 و40 سنة ما زالت تناقش المواضيع ذاتها.
واليوم نفكر في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي كيف يمكن لنا أن نوظف ما ننفقه في المنطقة العربية بما يناهز مليار دولار أميركي سنويا- وهو رقم زهيد نسبيا مقارنة مع احتياجات المنطقة- ليكون عاملا محفزا للتغيير التحولي ولتعزيز الحوار التنموي وتطوير آليات مواجهة فعالة لتلك التحديات، وعلى رأسها تحدي المناخ كأولوية كبرى. فقد يفاجئك أن تعرف أن عدد اللاجئين والنازحين بسبب المناخ على مستوى العالم هو اليوم أكثر من عدد اللاجئين والنازحين بسبب النزاعات، بل إن معظم النزاعات اليوم ترتبط بالصراع على الموارد الطبيعية التي أثر المناخ عليها.
فاليوم لم يعد بالإمكان أن نفكر بشكل منعزل بتحديات التنمية بحيث نناقش الاقتصاد بشكل منفرد والصحة بشكل منفرد والمناخ بشكل منفرد. هذا الكلام انتهى. لذلك نفكر في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي كيف يمكن لنا أن نصبح مركزا للتفكير المتعدد القطاعات، بما يُمكّننا من أن نقدم للدول الأعضاء حُزَم التعاون الفني التي تسمح لها بأن تطور مؤسساتها بحيث تكون قادرة على التعامل الفعال مع التحديات الراهنة. فبينما هذه التحديات بطبيعتها مترابطة فإن التعامل معها غالبا ما يتم عبر مؤسسات غير مترابطة، وبالتالي لا يمكن لوزارة ما أن تعالج قضايا مثل المناخ أو التنمية الاقتصادية أو غيرها من القضايا منفردة.
* تقرير التنمية البشرية وتقرير الإسكوا اللذين أشرت إليهما كانا بمثابة منعطف في التأريخ للعالم العربي، هل هناك رغبة في تقديم قراءة لماذا نحن في العالم العربي وفي هذه المنطقة التحديات لا تزال موجودة وبدل أن نعالجها نتراجع؟ هل هناك تحليل لنقوم بناء عليه بوضع خطط لمعالجة جذرية لهذه الأمور؟
– كل التقارير التي نتحدث عنها، بما في ذلك تقرير التنمية الإنسانية العربية المقبل الذي نشرع في الإعداد له الآن لينشر نهاية العام المقبل، تدور جميعها حول قضية ذات أهمية محورية في منطقتنا وهي الحوكمة. وفي إطار الحوكمة نهتم بشكل خاص بكفاءة المؤسسات وشفافيتها ونزاهتها، لأن المؤسسات في النهاية هي التي تترجم السياسات إلى ما ينفع الناس. وهي التي يجب أن تعبر عن أولويات الناس كما يعبرون عنها من خلال امتلاكهم لهذه المؤسسات.
فالآلية الأساسية في عملية التنمية هي تطوير السياسات وكيف يمكن ترجمتها إلى واقع يحسّن فرص العمل، ويعزز التنافسية وبيئة الاستثمار وإمكانية مكافحة الفساد وتخفيض نسبه. لذلك نركز على حوكمة المؤسسات وعلى تعزيز قدراتها، وشرعيتها في نظر الناس. فقد تكون المؤسسات شرعية لأنها أسست بموجب القانون لكننا نعيش اليوم في سياق لا تكفي فيه شرعية المؤسسات على الورق، ولكن الأهم هو شرعيتها في نظر الناس، ومصداقية هذه المؤسسات وقبول ما تنتجه من قبل الناس، ومدى قدرتها على قيادة عمليات تنموية متكاملة في سياقات الحاضر المتشابكة والمعقدة.
فنحن لا تنقصنا الموارد في أي بلد عربي، وليس فقط في الدول التي تملك موارد نفطية كبيرة. فلا يوجد بلد عربي فقير، هذا محسوم، من موريتانيا إلى الخليج لا يوجد بلد عربي فقير. ولكن هناك مستويات متفاوتة من الحوكمة ما بين الكفاءة وغيابها، تنعكس بدورها على النتائج التنموية التي نشهدها، سواء بالتقدم أو التراجع.
* الأمم المتحدة تتعاطى مع الحكومات العربية الرسمية. كما ذكرتَ هناك تحديات كثيرة موجودة، وحقيقة بعضها مردّه غير سياسي. لكن في الوقت نفسه هناك أزمات سياسية في المنطقة، من سوريا إلى اليمن إلى ليبيا وغيرها، كيف تستطيع كبرنامج للأمم المتحدة أن تعمل على مواجهة هذه التحديات في بيئة سياسية في وقت أنت لا تريد فيه أن تكون منخرطا في الجو السياسي؟
– في المقام الأول نحن لسنا جهة سياسية ولا نشارك في قضايا مفاوضات السلام وغيرها من مثل تلك المواضيع. لكن دورنا كمنظمة تنموية هو أن نحافظ على حد أدنى من قدرة الشعوب على الصمود في مواجهة التحديات التنموية الضخمة. فعندما يكون هناك ملايين من البشر تسقط تحت خط الفقر لأسباب معظمها سياسي بالأصل، وليس بالضرورة بسبب النزاعات. مثلما في لبنان، حيث والحمد لله لا يوجد صراع مسلح اليوم، ولكن يرزح 90 في المئة من الشعب اللبناني تحت خط الفقر. لذلك لا بد لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي من أن يقوم ببناء قدرات المؤسسات الوطنية والمحلية. فعملنا اليوم يركز على العمل مع المحليات ليكون أكثر قربا من الناس لإيصال الدعم مباشرة لهم ولتحفيز قدراتهم الهائلة على الصمود والإبداع.
ولا شك أن الصراعات السياسية والنزاعات تخلق جوا غير مناسب للعمل التنموي، بل هي تخلق جوا خطيرا ضد التنمية، فنحن نعمل في مناطق فيها مخاطر عالية على العاملين لدينا إذ نعمل في مواقع نزاعات حامية وساخنة في كثير من الأحيان، ولكننا نبقى ونعمل.
وهنا يجب أن نميز بين عمليات صنع السلام بالمعنى التقليدي الذي يشمل المفاوضات، وعمليات بناء السلام والتي تعنى ببناء المقومات الاجتماعية والمؤسساتية والاقتصادية والتنموية التي تسمح لأفراد المجتمع بأن يشعروا أن هناك مستقبلا يجمعهم بما يشجعهم على أن يتجاوزوا النظر إلى ما هم فيه اليوم إلى مستقبل محتمل يمكن أن يجمعهم ويكون أكثر ازدهارا. هذه مساهمتنا في عملية صنع السلام، من خلال بناء السلام.
* ذكرت أن هناك أزمات في جميع الدول العربية ولكن ليست هناك مشكلة موارد، فالموارد متاحة من موريتانيا إلى الخليج. كنت في العراق أخيرا وأجريت سلسلة من الاجتماعات حتى إنك التقيت مع قيادات شبابية ولكننا نعرف أن العراق من الدول الغنية جدا ولديه موارد نفطية هائلة وموازنة هائلة. ما شعورك وأنت في بلد ثري بهذا القدر وتبحث موضوع التنمية؟
– شعور يدمي القلب، فالعراق مصنف دوليا ضمن فئة ما يسمى بالدول متوسطة إلى عالية الدخل، لكن جميع مؤشراتها التنموية، مثل الفقر والبطالة وغيرها، هي مؤشرات لدولة منخفضة الدخل أو أقل نموا. هذا التفاوت سببه 40 سنة من الحروب التي تكفي لتأخير أي عملية تنموية في أي بلد في العالم، ولكنه يعيدنا كذلك إلى أهمية الحوكمة. فالعراق ينفق موازنات هائلة. ولكن موازنته الأخيرة التي صدرت منذ أسابيع، تنفق معظم موارد الموازنة على توظيف أعداد هائلة جديدة في وظائف الدولة، بينما كان يمكن إنفاق هذه الأموال على مشاريع تنموية قادرة على تحويل شكل العراق، مثل مشاريع ترفع من كفاءة الاقتصاد والبنى التحتية وإدارة الموارد المائية.
فهل لك أن تتخيل أن العراق ذا النهرين يعاني من العطش؟ وهل من المعقول أن بلاد الرافدين بكل ما لديها من النفط تستورد الغاز لتوليد الطاقة الكهربائية؟ وهل من المعقول أن العراق بكل ثرواته ليس لديه كمية كافية من المشتقات النفطية؟ وأنه يعاني من انقطاع التيار الكهربائي لساعات وساعات؟ وهل من المعقول أن أهل جنوب العراق، الذين يعيشون فوق بحر من أغنى بحار النفط والغاز في العالم، يواجهون بطالة تصل إلى 60 في المئة؟
كل هذه الأسئلة تعيدنا إلى الحوكمة التي تصل ما بين موارد البلاد ونتائج التنمية فيها، وتبقى هي حلقة الوصل أو الآلية التي تترجم الموارد إلى نتائج. هذه الآلية كانت معطلة لفترة طويلة، بل ومسببة للكثير من التراجع.
لكن ما أثلج صدري في العراق، هو أنني سمعت كلاماً جديداً، ليس فقط من الشباب الذين أبهروني حقيقة- إذ وجدتهم واعدين جدا، متصلين بالتكنولوجيا فاهمين لها، ومتابعين لما يجري في العالم حولهم- ولكن أيضا من الحكومة التي سمعتها تتحدث لغة جديدة، لغة تتفهم آثار تغيّر المناخ وكيف يجب التعامل معها، لغة تتحدث عما يسمى التحول الطاقي، وتناقش بدائل التنويع الاقتصادي والابتعاد عن الاعتماد على النفط. هذا الكلام أسمعه لأول مرة في العراق بهذا الشكل المتجانس بين جميع الأطراف الذين تحدثت إليها، سواء كانت أطرافا حكومية أو من أطياف المجتمع العراقي أينما ذهبت، في بغداد وكربلاء وأربيل وكل مكان آخر. هذا الحوار التنموي الجديد وضع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي فجأة في قلب العملية التنموية في العراق ونحن فخورون بهذا الأمر، وسنبذل الغالي والرخيص حتى نتمكن من دعم هذا التحول في التفكير وفي آلية التخطيط وفي تطور قدرة المؤسسات على ترجمة هذه الثروات إلى نتائج يتمتع بها الشعب العراقي.
* أنت تتحاشى الحديث في السياسة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي غير سياسي، لكن أليس الحديث عن الحوكمة كلاما سياسيا؟
– كل ما نقوم به يمسّ السياسة وتمسّه السياسة بشكل أو بآخر، ولكننا نعمل في نطاق صلاحياتنا التنموية ونحن واثقون من أن هناك علاقة تبادلية بين ما نقوم به من عمل تنموي وبين الحياة السياسية. فالتحول السياسي-المتمثل في حكومة السيد شياع السوداني الذي يتحدث بهذه اللغة الجديدة- وليس الاقتصاد، هو ما فتح لنا نافذة الفرصة للعب هذا الدور الجديد في العراق الذي بدأنا نبلوره اليوم لرفع جاهزيتنا للاستفادة من نافذة الفرصة التي أتيحت. ونأمل أن يسهم نجاح عملنا التنموي في إطار هذا التوجه الجديد في تعزيز الاتجاه السياسي الذي يتبنى هذا التوجه.
* ماذا عن اللاجئين والنازحين، هناك طبعا المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين التي تتعاطى موضوع اللاجئين، لكن بالنسبة إلى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ما دوركم في التعاطي مع مسألة النازحين واللاجئين وهم كثر في منطقتنا العربية؟
– عمل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي يُعنى بالحراك السكاني داخل وخارج الدول. فأهم مصدر للتنمية الاقتصادية هو السكان. وفي حال النزاعات، عندما يتحرك ملايين البشر من مكان إلى آخر فمن شأن مثل ذلك التحرك أن يحدث خللا اقتصاديا كبيرا في البلدان المستقبِلة للوافدين، بما ينجم عنه من أعباء على الخدمات الأساسية، والموارد المائية، وموارد الطاقة، وغيرها. ولكن في نفس الوقت، قد تنجم عن هذا التحرك كذلك نتائج إيجابية لأن البلدان المستقبِلة يمكنها أن تستفيد من هؤلاء اللاجئين في تعزيز الموارد المتاحة لها وتعزيز قدرتها الإنتاجية.
أولا، دورنا كبرنامج إنمائي يركز على دعم الدول المستقبلة اللاجئين والمهجرين، لتعزيز قدراتها على الصمود والتعامل مع هذا التدفق من الناس، وهو ما نقوم به عالميا وفي منطقتنا.
ثانيا، قد تكون المعونات الإنسانية أول ما يتلقى اللاجئ بعد وصوله إلى بلد آخر، حيث تقوم منظمات الأمم المتحدة الإنسانية والمنظمات الدولية غير الحكومية بتقديم مثل تلك المعونات، ولكن إلى متى؟ فالبيانات تشير إلى أن تجربة اللجوء يطول أمدها اليوم في جميع أنحاء العالم، إذ لا يعود اللاجئ إلى بلده إلا بعد 26 سنة في المتوسط. فهل يمكن الاستمرار في تقديم مساعدات غذائية ومعونات إنسانية لمدة 26 سنة؟ أم هل يكون من الأنجع أن نقوم ببعض النشاطات الإنتاجية المدرّة للدخل التي تعزز من قدرة اللاجئ على الصمود كما تجعل منه مصدر فائدة ونمو للمجتمع المستقبِل له؟
وثالثا، ما نقدمه من دعم للمجتمعات المستقبِلة للاجئين، يخدم سكان تلك المجتمعات واللاجئين على حد سواء. فعلى سبيل المثل إذا ما تخيلنا قرية صغيرة عدد سكانها ألفا شخص يصبح عدد سكانها بين يوم وليلة خمسة آلاف شخص بسب موجات النزوح، بينما هي لا تملك الموازنات ولا القدرات على إدارة المياه والصرف الصحي والنفايات الصلبة. عملنا هنا يدعم قدرة المجتمعات المضيفة على توفير الخدمات الأساسية على نحو يساعد على خلق فرص للعمل. هذا العمل يخدم الجميع مستقبلين ولاجئين في الوقت ذاته.
* في السودان وسوريا تحديدا، ما أولويات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في ما يتعلق بموضوع اللاجئين؟
– بعيدا عما يحيط قضية اللاجئين السوريين اليوم من جدل كبير في عدد من البلدان تبقى القضية أن هناك ملايين من البشر تحركوا وأصبحوا يقطنون أماكن أخرى، وفي هذا السياق نطبق ما ذكرته: دعم المجتمعات المضيفة، ودعم اللاجئين لكي يكونوا منتجين، والتحول من المعونة الإنسانية البحتة إلى العمل التنموي.
في النهاية، حلم كل لاجئ طبعا هو العودة إلى وطنه، ولكن اللاجئ له الحق في أن يختار خيارات أخرى. فمن حقه مثلا أن يختار الذهاب إلى بلد لجوء نهائي ليتوطن فيه.
ولكن في البلدان المحيطة بسوريا والتي تستضيف حاليا العدد الأكبر من اللاجئين السوريين، هذه الدول عانت ما عانت وتحملت ما تحملت واستفادت أيضا في بعض المجالات من اللاجئين السوريين بطبيعة الحال، لأن اللاجئ السوري منتج وفعال وكفء ولا أحد منهم يجلس منتظرا المعونة. لذلك نأمل أن نرى، يوما ما، شكلا من التعافي في سوريا نفسها من شأنه أن يشكل عامل جذب اقتصادي لعودة الناس، أو على الأقل الذين ليست لديهم مشكلة بالمعنى السياسي أو الأمني أو غيره. ولكن الوقت ما زال مبكرا لهذا الحديث بشكل معمق، وإن كنا قد بدأنا بالفعل في التفكير بشكل جدي في موضوع “الإنعاش المبكر” في سوريا في حدود ما هو ممكن وفق محددات العمل الأممي في سوريا، واجتمعنا في بيروت مؤخرا مع فريق عملنا في سوريا لمناقشة عملنا في هذا المجال
* موضوع “التعافي المبكر”، جزء أساس لأن لديه مرجعية، فعلى الأقل هناك قرار دولي تحدث عن “التعافي المبكر”. هل يمكنك إعطاؤنا فكرة أكبر عن دور برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في هذا الموضوع المتعلق بسوريا وما تفعل تحديدا في هذا الموضوع؟
– لدينا برنامج في سوريا بقيمة حوالي 50 مليون دولار سنويا وهو رقم متواضع بالنسبة للاحتياجات طبعا، ومتواضع مقارنة بالمعونات الإنسانية التي وصلت إلى سوريا خلال الاثنتي عشرة سنة الماضية، ولكن اليوم هذه المعونات الإنسانية في تراجع فمن كان يقدم المعونة الإنسانية مشكورا لم يعد لديه المال الكافي لتقديم هذه المعونة وبالتالي يرى في الإنعاش المبكر أو التعافي المبكر وسيلة لتحسين كفاءة هذا الإنفاق، لأن إنفاق دولار واحد في التنمية يعادل عشرة دولارات في المعونات الإنسانية. وهذا تحول ممتاز ونحن له جاهزون.
داخل سوريا، نحن نعمل أولا على تقديم الخدمات الأساسية في المجتمعات المحلية من مياه شرب وصرف صحي وإدارة نفايات صلبة وبعض البنى التحتية المحلية التي لا يمكن العيش من دونها. ثانيا، نعمل على تعزيز الخدمات الصحية والتعليمية وتحسين قدرة المواطنين على إيجاد فرص عمل في السوق. ثالثا، نعمل على تعزيز فرص تشكيل الشركات الصغيرة والمتوسطة أو تعزيز الموجود منها للتوسع والعودة إلى العمل. هذه هي المحاور الرئيسة الثلاثة التي نعمل عليها في إطار الإنعاش المبكر ونخطط للتوسع أفقيا فيها في سوريا ونسعى لتأمين موارد أكثر للوصول إلى عدد أكبر بكثير من السوريين لتخفيف الضغط الذي يعيشون تحته.
هذا العمل مفيد وضروري، لكن له حدوده من حيث الأثر الأوسع نطاقا. وخلال عملي سابقا في أفغانستان واجهت مثل هذا الموقف حيث كان ممنوعا علينا العمل في قضايا تمس السياسات العامة للدولة والسياسات القطاعية، ولذلك ركزنا في عملنا بشكل واسع على المحاور الثلاثة التي ذكرتها. ولكن في الواقع تعافي الدول لا يكون على هذا النحو، فالدول تحتاج إلى سياسات مالية ونقدية ومؤسسات فعالة وتحتاج إلى موازنات استثمارية وموازنات جارية. فالتعافي الحقيقي لا يتم إلا من خلال مثل هذا النهج الأوسع الذي نأمل أن يصير متاحا بعد أن تتغير الظروف الحالية في سوريا.
* كما تعرف هناك انقسام وجدال عميق بين الدول المنخرطة في الموضوع السوري الأعضاء في الأمم المتحدة حول موضوع التعافي المبكر وما المشمول ضمن مظلته وما حدوده… إلى أي مدى يعتبر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي جزءا من هذا النقاش الحاصل حول تحديد المشاريع التي تأتي تحت سقف “التعافي المبكر”؟
– النقاش قائم ومحتدم. ونحن نسعى الآن لتوافق مع الجهات المانحة لتحديد تعريف دقيق لـ”التعافي المبكر” بشكل عملي، لأن من واجبنا كبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ضمن صلاحياتنا أن نعمل على توسيع مفهوم “التعافي المبكر” في سوريا. ولكن في الوقت ذاته يجب على الجهات المانحة أن تتفق فيما بينها أولا حول تعريف الإنعاش المبكر في سوريا، لأن الإنعاش المبكر خارج سوريا له تعريف أوسع وأعمق مما يتم الحوار حوله داخل سوريا.
مثلا، نعد الآن برنامجا للتعافي الاقتصادي على مستوى المجتمعات المحلية في لبنان، ومع أن المبدأ الأساسي واحد وهو التعاون مع المجتمعات المحلية من أجل التعافي من أزمة اقتصادية شديدة إلا أن الوضع هناك مختلف وكذلك مجالات العمل.
* ما التعريف الذي تريد أن تراه عن “التعافي المبكر” في سوريا؟
– أولا، من المهم أن يشمل التعافي المبكر في سوريا إحياء الزراعة. فسوريا بلد نجح عبر التاريخ وصمد عبر الأزمات لأنه بلد ناجح زراعيا. نريد أن نعود إلى دعم الملكية الصغيرة، والفلاح الصغير، الذي لم يعد يملك إمكانية دفع ثمن المازوت والمواد الزراعية، ومثل ذلك الدعم قيمته منخفضة نسبيا، ولكن أثره على المستوى الأفقي يمكن أن يكون واسعا جدا. الزراعة أولا.
ثانيا، الخدمات الأساسية: بما في ذلك خدمات الطاقة المتجددة، ومياه الشرب، ومياه الصرف الصحي، وإدارة النفايات. كل هذه نشاطات مدرّة للدخل لأنها ستكون نشاطات كثيفة اليد العاملة.
ثالثا، سوريا بلد تجاري وبالتالي إحياء القطاع التجاري الصغير أمر مهم للغاية لنجاح التعافي، فمع الإحياء الجزئي للقطاع الزراعي، لا بد من إعادة الحياة إلى جزء من القطاع التجاري صغير الحجم، وتعزيز الصناعات الغذائية الزراعية الصغيرة الحجم، لأنه لا بد من تطوير سلاسل القيمة، فالمزارع إذا زرع، وكان غير قادر على التسويق وغير قادر على التصنيع، يبقى منتجه الزراعي في مكانه. وقد يكون غير قادر على التسويق لأنه ليس لديه مازوت لتشغيل شاحنته لنقل بضاعته… لذلك نحن ندخل في التفاصيل التي قد تبدو صغيرة لكننا نعرف أن الريف السوري يعتمد على سلاسل قيمة قائمة على الثقة، إذ يمكن للمزارع طلب كمية معينة من السماد وتصله على أن يدفع ثمنها لاحقا. سلاسل القيمة تلك القائمة على الثقة هي اليوم مقطعة ومهشمة، فهل بالإمكان إعادتها؟ هنا السؤال، ولكن إعادتها يمثل أحد أهداف هذا التوجه الذي نناقشه.
* ما دور برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في سوريا وكيف يتم التنسيق مع بقية المنظمات التابعة للأمم المتحدة؟ وهل هناك تنسيق بينك وبين المبعوث الأممي غير بيدرسون، ومفوض الشؤون الإنسانية مارتن غريفيث؟
– بالطبع هناك تنسيق بين المنظمات الأممية وأيضا هناك تنسيق مع الإدارة السياسية في الأمم المتحدة. والتنسيق الأهم هو على مستوى الفريق القطري للأمم المتحدة في كل بلد. وفي سوريا المنسق المقيم للأمم المتحدة الذي يمثل الأمانة العامة للأمم المتحدة هو المنوط بالتنسيق بين كافة المنظمات في فريق الأمم المتحدة، بينما “البرنامج الإنمائي” هو المنظمة الرائدة داخل منظومة الأمم المتحدة في المجال التنموي ولنا ممثل مقيم يقود عملنا على الأرض.
* “برنامج الأمم المتحدة الإنمائي” موجود في دول فيها أزمات، في سوريا والسودان واليمن… بصراحة، هل دور “البرنامج” هو ذاته في جميع الدول؟
– الدور يختلف بحسب السياق، ففي العمل التنموي لا يوجد “مقاس واحد يناسب الكل”. مثلا في أفغانستان هناك سياق تنموي مختلف عن اليمن حيث يتوسع عملنا اليوم، ويختلف أيضا عن دورنا في سوريا. كذلك السقوف المتاحة للعمل الإنمائي تختلف من مكان إلى آخر، وواجبنا أن نفعل أقصى ما هو ممكن ضمن السقوف المتاحة. ففي ليبيا، مثلا، نجحنا في تثبيت الاستقرار والنمو الاقتصادي من خلال العمل المباشر مع السلطات المحلية. بينما في مصر مثلا، تتركز معظم أعمالنا مع الحكومة المركزية. والحمد لله التحدي التنموي هناك لا يشمل أي نزاعات.
العرض الذي نقدمه يختلف من مكان إلى آخر، لكنه لا يختلف في المضمون الرئيس، وهو تحقيق تنمية مستدامة تحفظ كرامة الناس- تحقيق تنمية مستدامة متعددة القطاعات من خلال حلول متكاملة، بعيدا عن التجزئة المعتادة- تربط بين التحديات المناخية والاقتصادية والاجتماعية وتجسر الفجوة بين موارد التمويل المتاحة في العالم وحاجات الناس على الأرض. فهناك 530 تريليون دولار في الأسواق المالية تملكها 500 شركة عالمية. واجبنا أن نكون جسر الربط بين الموارد المالية المتاحة لدى مؤسسات القطاع الخاص وحاجات الفقراء في المناطق التي تحتاج للتدخلات التنموية، وعلى رأسها مناطق النزاع. فكلما كان النزاع معقدا أكثر كانت العمليات التنموية معقدة أكثر.
* كمسؤول أممي ما رأيك في “الربيع العربي” بعد 12 سنة؟
– انتهى تقرير التنمية الإنسانية العربية الذي أصدرناه من 22 سنة وكان لي شرف المشاركة فيه تحت قيادة الدكتورة ريما خلف والذي أبرزنا فيه نواقص التنمية في المنطقة العربية، المتمثلة في الحرية وتمكين المرأة والمعرفة، بجملة أخيرة لا يزال صداها يتردد حتى الآن. هل تدري ما هي؟
* ما هي؟
انتهى التقرير بمقولة عبد الرحمن الكواكبي: “هذه صيحة في واد، فإن لم يؤخذ بها، فإنه سيؤخذ بالأوتاد”. وللأسف تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2002 لم يؤخذ به. ومن ثم رأينا ما حصل. من غزو العراق إلى اليوم، نحن في صدمات متتالية. في “الربيع العربي”، كان هناك حراك مجتمعي واسع، لا يهم أن نحاول الحكم عليه اليوم أخلاقيا أو تنمويا أو خلاف ذلك. التاريخ سيحكم عليه.
ما يهم اليوم هو أن الأوضاع التي تسببت في “الربيع العربي” ما زال الكثير منها قائما كما يشهد الواقع الذي نعيشه، فلدينا دول مدمرة وشعوب فقيرة أو أفقِرَت، وبنى تحتية هدمت. كل مكاسب التنمية في بعض الدول سُحقت. هذا هو واقعنا اليوم. ما يهم الآن، هو كيف نعالج جذور المشكلات المزمنة لكي نخرج من وضعنا الإنمائي المتردي حاليا وأن نضمن أن لا نعيد تكرار أخطاء الماضي.
* أكيد تسمع أخبار التغيرات المناخية، من خلال جولاتك العربية هل وجدت اهتماما بالمناخ؟
– العالم العربي من أفقر المناطق مائيا في العالم. هجمات الجفاف تتكرر وأصبحت أكثر قسوة وأكثر تواترا مما أدى- ليس سيؤدي، بل إنه أدى بالفعل- إلى التأثير سلبا على كل أنماط الإنتاج الزراعي والأمن الغذائي في العالم العربي.
مؤخرا، أصبح الحديث عن التغير المناخي جديا لزيادة الإدراك بأنه موضوع مصيري. الحديث عن التغير المناخي في المنطقة العربية، يكاد يكون أول موضوع يتحدث فيه أي مسؤول. وإذا ما أضفنا إلى تغير المناخ، الحرب الأوكرانية التي أدت إلى انقطاع واردات القمح في منطقة تستورد أكثر من 80 في المئة من غذائها، نجد أننا أمام أزمة مركبة: الجفاف ونقص الغذاء.
عبر العالم كله نعيش اليوم في زمن متعدد الأزمات، والمنطقة العربية هشة أمام هذه الأزمات لأنها تعتمد على الاستيراد. المنطقة العربية هي الأفقر في العالم بالمياه وليس لديها كفاءة في استخدام مواردها المائية وهو ما يعيدنا إلى موضوع الحوكمة وكفاءة المؤسسات.
* عقد في الأمم المتحدة اجتماع بحضور خبراء مع الأمين العام أنطونيو غوتيريش عن الذكاء الاصطناعي. بالنسبة إليكم، إلى أي حد أنتم حاضرون فيه؟ وأين منطقتنا العربية منه؟
– منطقتنا العربية لديها فرصة هائلة في مجال الذكاء الاصطناعي، الذي يمكنه أن يحقق قفزات كبيرة وبسرعة. وخلال لقائي الأخير بوزيرة التنمية المستدامة المغربية تحدثت عن مبرمجين في منطقة قريبة من مراكش، شباب في مركز بحثي يعملون في الذكاء الاصطناعي. أيضا، تعرفت من خلال لقاء وزيرة التخطيط المصرية على مجموعة مهمة في القاهرة تعمل في مجال الذكاء الاصطناعي. وفي تقرير التنمية الإنسانية العربية المقبل، سنشرع في استخدام الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بمواطن الضعف في المنطقة العربية. وسيسهم الذكاء الاصطناعي في التنبؤ بنقاط الهشاشة على نحو مترابط– هشاشة متعددة الأبعاد. لن نبحث عن الهشاشة بسبب النزاعات أو النمو الاقتصادي أو البطالة كل على حدة، إنما سنتدارس الروابط بين عوامل الهشاشة المرتبطة بالمناخ والسكان والحوكمة والنزاعات والاقتصاد والتكنولوجيا خلال 15 إلى 20 سنة مقبلة. وسنتعاون في ذلك مع المراكز العربية البحثية الرائدة.
* ماذا عن علاقتكم بالسعودية وهل أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة 2030 تتقاطع مع برنامج “رؤية 2030″؟
– آخر مرة زرت السعودية كانت في 2015 عندما كنت مع “الإسكوا”، ثم ذهبت قبل شهر ونصف الشهر، هناك تغيير هائل يحصل. ما يحصل في السعودية اليوم هو تغيير مهم جدا للمملكة وللمنطقة العربية كلها.
فحين التقيت أخيرا وزير التخطيط والاقتصاد السعودي وجدته وزيرا شابا يحمل رؤية جديدة للمملكة تسعى من خلالها لتكون منصة للتغيير والتفكير الجديد في المنطقة، بل وعبر العالم ومن ثم ناقشنا آفاقا واسعة للتعاون والعمل المشترك.
ولقد شرعنا في البحث مع الإخوة في السعودية عن التقاطعات بين الخطط الوطنية المندرجة تحت “رؤية 2030” للمملكة وأهداف التنمية المستدامة التي تلتزم بها بقوة، بل إنها بدأت في التفكير فيما بعد 2030 وهو ما شرعنا فيه كذلك في الأمم المتحدة.
المصدر: الناس نيوز / مجلة المجلة