عدم رغبة الأميركيين البيض في تقاسم مكافآت البلد مع مواطنيهم السود يقع في جذر العلل الاجتماعية للولايات المتحدة
يقدم مقتل جورج فلويد للأميركيين صورة أصبحت شبه عادية بسبب ظهورها المتكرر: ضحية أخرى لنظام العدالة الجنائية المكلَّف بحماية الأميركيين البيض من مواطنيهم السود.
ومع ذلك، فإن الغضب على الصعيد الوطني بسبب عملية قتل أخرى خارج نطاق القضاء لرجل أسود على يد شرطي أبيض له ملمح اللحظة التاريخية. ربما تكون هذه هي اللحظة التي يدرك فيها الأميركيون مدى عمق الندوب التي صنعتها العنصرية في العقد الاجتماعي لبلدهم. وكما قال الرئيس السابق باراك أوباما الأسبوع الماضي، فإن هذا ربما يفضي إلى “يقظة”.
ربما يستطيع الأميركيون أن يدركوا أخيراً أن الافتقار إلى التعاطف، والذي يسمح لضابط شرطة أبيض بقتل رجل أسود بينما تكتسي ملامحه بالتعبير الروتيني الضجِر لسباك يركِّبُ أنبوباً ليس مجرد حادث، وإنما هو ما يُعرِّف الولايات المتحدة اليوم. قد يفهم الأميركيون أخيرًا كيف شوه العداء العنصري تشكيل أولوياتهم لما هو أبعد كثيراً من قضية العرق نفسه، وكم هو هذا العداء تأسيسياً للعقد الاجتماعي كما هو حاضر اليوم. إنها هذه العدوانية العرقية -وليس نوعاً خاصاً من الغرام برأسمالية الحرية الاقتصادية- هي التي تجعل الأميركيين يهللون لخلق ثروة غير مسبوقة إلى جوار حرمان على نطاق من شأنه أن يكون عارًا على أي دولة متقدمة أخرى.
في تصنيف دولي للفقر، تحتل الولايات المتحدة مرتبة متدنية بين الدول الصناعية في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية -أسوأ حتى من المكسيك وتركيا. وتقع الولايات المتحدة أيضًا في -أو بالقرب من- القاع في مؤشرات العديد من الأمراض التي يكون الفقر سببها المباشر. وهي تعاني من أعلى معدل لحمل المراهقات في العالم المتقدم. ويعيش ما يقرب من 1 من كل 4 أطفال مع أحد الوالدَين فقط، وهي أكبر نسبة بين الدول الصناعية.
باستثناء تشيلي والمكسيك وتركيا، لا يوجد بلد آخر في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية يعاني من وفيات في الأطفال الرُضّع أكثر من الولايات المتحدة -معظمهم يولدون لأمهات فقيرات غالباً ما يكنّ من النساء الملونات. وسواء أكان الأمر يتعلق بالإصابة بأمراض السكري والسمنة، أو معدل الوفيات من الطفيليات وغيرها من الأمراض، أو السنوات التي تُفقد بسبب الموت المبكر، فإن أميركا اليوم أقل صحة بكثير من أي بلد غني آخر.
لماذا تسمح الولايات المتحدة باستمرار مثل هذا الحرمان؟ إنها دولة غنية -ربما أغنى دولة في تاريخ العالم. ولكن لماذا لا تتصرف كواحدة؟
يحب الأميركيون إلقاء اللوم في هذه المصائب على العولمة والتغير التقني الذي يمزق الأسر العاملة. لكن العولمة والتكنولوجيا ضربتا الجميع -الفرنسيين والألمان والكنديين واليابانيين- ومع ذلك تغضن المجتمع الأميركي وحده. والسبب الذي يجعل الولايات المتحدة شاذة بهذا القدر المتطرف هو أنها لم تظهر أي اهتمام ببناء الضمانات التي وضعتها دول متقدمة أخرى لحماية أولئك الذين يقعون في الجانب الخطأ من التغييرات المؤلمة التي أحدثتها العولمة والتكنولوجيا. وعندما قامت الولايات المتحدة بقفزتها الليبرالية العظيمة في ثلاثينيات القرن الماضي مع سياسات الرفاهية التي جلبتها “الصفقة الجديدة”، فإن العنصرية أعاقت تطبيقها منذ البداية.
قررت أميركا البيضاء التي احتكرت السلطة السياسية منذ ولادة الأمة أنه إذا كان عليها أن تتشارك شبكة الأمان الاجتماعي مع الناس على الجانب الآخر من الخط العرقي والإثني، فإن من الأفضل أن تمضي من دون مثل هذه الشبكة. ويشرح عالم الاجتماع البارز، ويليام جوليوس ويلسون، هذا الوضع بوضوح في كتابه المعنون “عندما يختفي العمل”: إن دافعي الضرائب البيض يعارضون الرفاهية لأنهم يرون أنفسهم مجبرين، من خلال الضرائب، على دفع ثمن الأشياء للسود. ويمكن تعقب السجون الأميركية المتضخمة والمكتظة، والرجال العاطلين عن العمل، والأمهات العازبات والوحيدات والأطفال الميتين إلى هذه الحقيقة الاستثنائية.
في حقبة روزفلت، حصل العمال على أول حد أدنى وطني للأجور، وتأمين ضد البطالة، والحق في تشكيل النقابات، والإضراب، والمشاركة في المفاوضة الجماعية. وحصل كبار السن على معاشات الضمان الاجتماعي. لكن العديد من سياسات “الصفقة الجديدة” هذه تم تصميمها، إما لصالح البيض بشكل صريح، أو أنها فضلتهم في الممارسة. وقد رفضت إدارة الإسكان الفيدرالية، التي تم إنشاؤها في العام 1934 لتأمين قروض الرهن العقاري للأميركيين من وسائل محدودة، دعم القروض في الأحياء التي يغلب عليها السود، أو أو المقدمة للسود، مؤكدة على الفصل العنصري في أميركا الحضرية.
سمحت قوانين العمل التي وضعتها “إدارة التعافي الوطنية” بداية من العام 1933 للشركات بأن تمنح للأشخاص البيض الفرصة أولًا في الوظائف، وخولتها بوضع أجور أقل للسود على سلم الرواتب. واستبعد الضمان الاجتماعي (الذي تم إنشاؤه في العام 1935) و”قانون معايير العمل العادلة” (1938) في البداية الوظائف المنزلية وأعمال المزارع، التي كانت توظف عاملين من السود من أصل كل ثلاثة عمال.
بعد ثلاثة عقود، عندما فتحت الحركة من أجل الحقوق المدنية أخيرًا فوائد “الصفقة الجديدة” للأشخاص الملونين، انهار الإجماع السياسي الذي دعم سياسات الرفاهية في الولايات المتحدة. وتم تحويل برنامجي “ميديكير” Medicare و”ميديك-إيد” Medicaid، آخر البرامج الحكومية المستوحاة من روح “الصفقة الجديدة”، ليصبحا قانونًا في العام 1965، بعد مرور عام على تمرير “قانون الحقوق المدنية”.
وفي نفس العام، اقترح ليندون جونسون على الأميركيين مسألة “الحرب على الجريمة”، التي حولها خليفته، ريتشارد نيكسون، إلى نجمه الهادي للسياسة الاجتماعية. وخلال نصف القرن التالي، أصبح نظام العدالة الجنائية -وليس دولة الرفاهية- هو الأداة المفضلة للولايات المتحدة للإدارة الاجتماعية.
قد لا تكون الولايات المتحدة قادرة على حماية المواطنين الضعفاء من الصدمات التي يسببها عالم لا يني يزداد عولمة. لكنها تستطيع أن تحبسهم. وقال عالم الاجتماع، بروس ويسترن، إن السجن أصبح “الملاذ الأخير من مجموعة كاملة من الإخفاقات الاجتماعية”. وأخبرتني ديفا بيجر في العام 2014 أن “نظام العدالة الجنائية أصبح المؤسسة الفعالة الوحيدة التي يمكنها إحلال النظام وإدارة المجتمعات الحضرية”.
تم توجيه نظام العدالة الجنائية الأميركي بشكل مباشر ضد السود، تمامًا كما كانت سياسات الرعاية الاجتماعية تستهدف الأشخاص البيض منذ فترة طويلة: اليوم، هناك ما يقرب من مليون أميركي من أصل أفريقي خلف القضبان. وعلى الرغم من أنهم يمثلون حوالي 13 في المائة من السكان، فإن السود يشكلون 40 في المائة من العدد المتضخم من الرجال والنساء الذين يقبعون في السجون والمرافق الإصلاحية الأخرى.
والسبب، بطبيعة الحال، هو أن العدالة الجنائية كانت أيضًا أداة سياسية: في عقد الستينيات، كان الديمقراطيون الجنوبيون الذين يجاهدون لاستعادة ولاء البيض الذين فقدوهم مع تمرير “قانون الحقوق المدنية” يتحولون إلى “القانون والنظام” ليكون صرخة التحشيد . وكذلك فعل الجمهوريون الذين كانوا يأملون في انتزاع البيض من الطبقة العاملة من قبضة الديمقراطيين. وأصبحت “الجريمة” كلمة مشفرة لعدم الاستقرار العرقي.
يقول ويسترن: “تم إضفاء الطابع العنصري على نقاش الجريمة إلى درجة مهمة. لم تكن مكامن القلق الذي شعر به الناخبون البيض تتعلق بالجريمة فحسب، وإنما بالتغييرات الاجتماعية الأساسية الجارية في المجتمع الأميركي”. أصبح كونك صارمًا في التعامل مع الجريمة هو التكتيك مؤكد النجاح لإغواء الناخبين البيض الذين صدمهم مشهد السود في الفضاءات العامة التي لطالما اعتقد البيض أنها ملكهم وحدهم.
وهكذا، قفز الإنفاق الحكومي على نظام السجون قرابة أربعة أضعاف بين العامين 1982 و2015، ليصل بعد التضخم إلى 87 مليار دولار. ويشكل ذلك أكثر من ما أنفقته الحكومة على قسائم الطعام في ذلك العام ومرتين ونصف أكثر ما أنفقته على تأمين البطالة. وحتى الفوائد الرئيسية لمكافحة الفقر في البلاد، الائتمان الضريبي على الدخل المكتسب، كلفت الحكومة أقل بنسبة 25 في المائة مما تكلفه سجونها.
ثمة شيء ينطوي على مفارقة قاتمة بشأن العقد الاجتماعي الأميركي المتعثر: لقد انتهى المطاف بالعداء العرقي الذي طوّق الملونين من خلال الحد من سياسات الرفاهية وهو يحيط بالأميركيين البيض ويحشرهم داخل السياج أيضًا.
يبلغ معدل وفيات الأمهات بين النساء السود ثلاثة أضعافه بين الأمهات البيضاوات. ومع ذلك، من بين كل 100.000 ولادة، ماتت حوالي 13 امرأة أميركية بيضاء بسبب مشاكل تتعلق بالحمل في العام 2014. وهذا يزيد على أربعة أضعاف المعدل في هولندا، وثلاثة أضعافه المعدل في ألمانيا، وما يقرب من ستة أضعاف المعدل في إسبانيا.
للأميركيين البيض متوسط عمر أكبر من الأميركيين الأفارقة. لكن الطفل الأميركي الأبيض العادي المولود في 2018 سيموت قبل عامين على الأقل من نظرائه من الأطفال حديثي الولادة الألمان، والدنماركيين، واليونانيين، والبرتغاليين؛ وقبل ثلاثة أعوام على الأقل من الأطفال في كوريا الجنوبية وفرنسا وأستراليا؛ وخمسة أعوام أبكر من الأطفال حديثي الولادة في اليابان.
وهناك ما يقرب من 20 مليون أميركي أبيض فقير من غير ذوي الأصل الإسباني؛ أي ضعف عدد الأميركيين السود الفقراء. وهم، كمجموعة، أكبر المستفيدين من الإنفاق العام على البرامج الاجتماعية. وفي العام 2014، استفاد من الإعفاءات الضريبية وبرامج المساعدة الحكومية 6.2 مليون شخص أبيض من الذين لا يحملون شهادات جامعية، مقارنة بـ2.8 مليون أميركي أسود و2.4 مليون شخص من أصل إسباني من خلفيات تعليمية مماثلة.
في الآونة الأخيرة، أدار نظام العدالة الجنائية عينيه إلى البيض المهمشين أيضاً. وهناك أقل من 0.5 في المائة من البالغين البيض في السجن أو مراكز الإصلاح، مقارنة بنحو 2 في المائة من الأميركيين الأفارقة. ومع ذلك، فإن نسبة الأميركيين البيض في السجون ودور الإصلاح ليست أعلى من معدل الحبس في الديمقراطيات الغربية الأخرى مثل فرنسا وألمانيا فحسب، ولكن أيضًا في الأنظمة الأكثر قسوة، مثل تلك الموجودة في الصين وروسيا وإيران.
هل تستطيع الولايات المتحدة أن تنتزع نفسها من الديستوبيا الاجتماعية التي تسببت بها أعمالها العنصرية؟ هل يمكن للغضب الذي يجتاح شوارع أميركا الحضرية اليوم أن يُنتج نوع التغيير الذي يمكن أن يبني بلداً أكثر تعاطفاً؟
أريد أن أتمنى أن تكون الولايات المتحدة قادرة على بناء عقد اجتماعي شامل، والذي يمكن أن يعيد تعريف مفهوم التيار الأميركي الرئيسي بحيث يشمل الجميع. لكن التاريخ، لسوء الحظ، لا يوفر سابقة سعيدة. كما هو الحال اليوم، قبل نصف قرن، لفت أعمال الشغب التي كان يغذيها الغضب من التمييز العنصري أميركا الحضرية المضطربة. وفي الأشهر التسعة الأولى من العام 1967، واجهت الشرطة الأميركيين الأفارقة في مدن مختلفة عبر البلاد 164 مرة. وفي نيسان (أبريل) 1968، في أعقاب اغتيال مارتن لوثر كينغ الابن، اندلعت الاحتجاجات العنيفة مرة أخرى في عشرات المدن الأميركية.
بحث عمر واسو، الأستاذ المساعد للسياسة بجامعة برينستون، في التأثير السياسي للاحتجاجات التي أعقبت الاغتيالات وخلص إلى أن أعمال الشغب دفعت العديد من المعتدلين البيض الذين دعموا الحزب الديمقراطي إلى التصويت لنيكسون في تشرين الثاني (نوفمبر).
تلت ذلك الحرب على الجريمة، والتي أفضت إلى إدامة عقد اجتماعي سامٍّ بأدوات جديدة. والآن، مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني (نوفمبر)، لا تندهش إذا رأيت العديد من الأميركيين البيض وهم يصوّتون لصالح شيء مماثل مرة أخرى.
*إدواردو بورتر مراسل اقتصادي لصحيفة “نيويورك تايمز” ومؤلف كتاب “السم الأميركي: كيف دمر العداء العنصري وعدنا. وهذا المقال مقتبس من هذا الكتاب.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: America’s Social Contract Is Still Built on Racial Hostility
المصدر: (فورين بوليسي) / الغد الأردنية