مرّت الذكرى السنوية السادسة لمجزرة الكيماوي في الغوطة على السوريين، بينما تدور رحى حرب اجتياح قوات الأسد وروسيا بلدة خان شيخون في جنوب ريف ادلب، وقبلها قرية الهبيط، وبعدها مدينة معرة النعمان. وفيها وقعت مجازر برية وجوية أشدّ وحشية ودموية من مجزرة الكيماوي، وتم تهجير سكان هذه البلدات بالكامل الى العراء.
وكنا قد شهدنا اصرارا محموما من الطرفين للاستيلاء على خان شيخون بالتحديد، الأمر الذي أثار تساؤلات غير قليلة عن مغزى ذلك، تراوحت التفسيرات والاجابات بين الاعتقاد بأن الهدف هو السيطرة على الطرق الدولية بين حلب واللاذقية، وحلب ودمشق، وبين الاعتقاد أنهما يريدان إخفاء آثار أحد أشد الهجمات الكيماوية التي وقعت في خان شيخون في مطلع 2017، لأن الأمم المتحدة شكلت لجنة فنية متخصصة للتحقيق في آثار الضربة التي أنكرها الروس واعوانهم السوريون، واكدتها الدول الغربية واميركا وفرنسا وبريطانيا عبر أجهزة استخباراتها. وكان الروس قد كذبوا كل التقارير الفنية التي صدرت عن لجان سابقة للتحقيق في خان شيخون ومناطق أخرى، لأن الاعتراف بها يجعلهم شركاء في المسؤولية مثل الأسد وزمرته، لذلك استبقوا وصول المحققين والخبراء لإخفاء وتمييع الأدلة في مسرح الجريمة.
ما يعنينا من ذلك شيء واحد، هو أن استعمال الاسلحة المحرم، بما فيها الكيماوية، ما يزال متواصلا بعد مرور ست سنوات من المجزرة الكبرى التي وقعت يوم 21 اغسطس 2013، وهي المجزرة التي انتهكت في تحد سافر الخطوط الحمر التي وضعها الرئيس الاميركي السابق باراك اوباما، وحذر الأسد في حينها من عقاب صارم إذا انتهكها، وقد انتهكها الأسد، ولكن أوباما تراجع عن معاقبته في اللحظات الأخيرة، وقبِل بالوساطة الروسية وصفقة تسليم الكيماوي.
لكن استمرار الاسد في استعمال الكيماوي عشرات المرات في السنوات اللاحقة، يبين مدى استهانته واستهتاره وروسيا وايران بالردع الأميركي والغربي. خصوصا وأن محاسبة الاسد أمام المنظمات الدولية سيقود لا محالة الى محاسبة روسيا، التي كانت عراب الصفقة وضامنها أيضا، والتي تحمي الاسد في مجلس الامن الدولي.
هذه الجرائم الهمجية بالذات، تعتبر مبررا كافيا لضرب الآلة العسكرية للأسد، لأن الأسلحة الكيماوية محرمة دوليا منذ عصبة الامم المتحدة بعد نهاية الحرب العالمية الاولى، وتورّعت كل الدول عن استعمالها في الحرب الثانية، على الرغم من وحشيتها البالغة. وأنشأت الأمم المتحدة منظمة دولية خاصة لمراقبة ومتابعة كل ما يتعلق بالسلاح الكيماوي، حيازة وانتاجا وتصديرا، نتيجة إدراك العالم مدى خطورة هذا السلاح على الجنس البشري.
ولعل الأسد، هو أول من استعمله منذ الحرب العالمية الاولى 1914 – 1917. وعلى الرغم من الإجماع على خطورته وحظره بالمطلق، وتأكد العالم بالاجماع أن الأسد استعمله في سوريا ضد شعبه مرات كثيرة، واعتراف الطاغية نفسه وروسيا البوتينية باستعماله في اغسطس 2013، بدليل إذعان الطرفين لتسليم الترسانة السورية من الكيماوي (السارين والكلور)، وهي الأكبر في العالم مقابل ألا يضربه الأميركيون، وعلى الرغم من هذا، لا يزال المجتمع الدولي غير قادر على محاسبة الفاعلين في سوريا. بسبب تدخل روسيا الحازم لتعطيل مجلس الامن الدولي عن ممارسة وظيفته العقابية، وبذلك نجا حتى الآن بشار الاسد، وأحرز الريادة والسبق في ارتكاب ما عجز عنه سواه من طغاة المائة سنة الأخيرة، من ستالين الى لون نول، ومن موبوتو الى عيدي أمين، ومن بينوشيه الى فرانكو ومن ميلوسوفيتش الى كراجيتش وميلاديتش.. الخ، ناهيكم عن هتلر وموسوليني وكيم جونغ.
ولا شك، أن كل “عبقريات” السفاحين السابقين، تتضاءل أمام عبقرية سفاح سوريا، الذي سمّاه السوريون عن جدارة (بشار الكيماوي)، لكثرة سوابقه في هذا المضمار، والتي ناهزت المائة مجزرة، حسب إحصاءات وتقديرات المنظمات الحقوقية الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، فضلا عن سَبقه الآخر الممثل في (سلاح البراميل)، وريادة أجهزة استخباراته في ابتكار فنون تعذيب وقتل تعجز عن ابتكارها مخيلات العفاريت!.
وإذا كان العالم ما يزال بعيدا عن “إنصاف” الطاغية الأسد، وتبوّئه المقام الرفيع الذي يستحقه بين عتاة مجرمي التاريخ، فإن ذاكرة التاريخ نفسه لن تغمطه حقه، بعد أن يستوفي المحققون تحرياتهم وتستكمل الروايات الناقصة عما شهدته سنوات التراجيديا السورية من جرائم وفظائع، لم يشهد لها العصر مثيلا. ويمكن الجزم أن فنون وعلوم الإجرام الأسدية، ستصبح في المستقبل غير البعيد مادة أساسية للدراسة، من قبل الطغاة المقبلين، وعند علماء الجريمة والناشطين الحقوقيين على حد سواء !
في 26 اكتوبر من العام الفائت 2018، نشرت المجلة الاميركية الرصينة (فورين بوليسي) تقريرا موثقا فائق الأهمية، أماط اللثام عن حرب أخرى أخطر من الحرب الكيماوية، ومن حرب البراميل، والقصف بالصواريخ والطيران والمدفعية، حرب أشد فتكا وإبادة استخدمها نظام الأسد بشكل منهجي، تدل على درجة عالية أخرى من “العبقرية” الاجرامية للنظام المتوحش، وظلت للأسف حتى الآن مجهولة عن ملاحظة ومراقبة المعنيين جميعا، من الإعلاميين ومراكز الرصد والمنظمات الحقوقية.. إلخ.
ذكرت المجلة في تقريرها، أن “حكومة الأسد” برمجت مواجهتها مع خصومها لتكون حرب إبادة شاملة، لا ضد المعارضين والثوار فقط، بل ضد الحواضن الاجتماعية أيضا، وكل سكان المدن والمناطق التي خرجت عن سلطتها، وبخاصة المخيمات التي نشأت نتيجة التهجير والتشريد الجماعيين، لأنها توفر بيئة مثالية لنشر الأوبئة السارية والمعدية والفتك بآلاف اللاجئين، ولا سيما الاطفال وحديثي الولادة.
ولفت التقرير، الى إن النظام استعمل مسببات الأمراض وإجراءات السلامة الصحية التي يتحكم بها، كمياه الشرب ومياه الصرف اللاصحي، والتخلص من النفايات ومواد التطعيم والتلقيح ومكافحة العدوى، استعملها كلها بشكل مبرمج كأسلحة بيولوجية لإبادة السكان في تلك المناطق. ومنع النظام وصول ودخول ومرور بعض أصناف العقاقير بشكل خاص، كاللقاحات المضادة لشلل الأطفال والحصبة والفشل الكلوي ومواد التعقيم وتطهير المياه ، وخصوصا الكلور، والأكياس البلاستيكية المخصصة لنفايات المشافي، ومعدات وأجهزة التعقيم.
وحظر النظام مشابك الحبل السري، لكي يموت حديثو الولادة. كما حظر الجبائر ليجبر المصابين على استعمال جبائر غير معقمة وقابلة للتلوث. وعمل على نشر فيروسات شلل الاطفال والسنجابي والكوليرا والبكتيريا العراقية، التي تستهدف أحشاء الانسان. وأكد الباحثون المتخصصون الذين أعدوا التقرير، أن هذه المواد ظلت دائما متوفرة في المناطق والمدن الخاضعة لسلطة النظام، حتى أن أسماءها تملأ عشرين صفحة، بما فيها المضادات الحيوية واللقاحات والادوية والمواد المطهرة، وكثير منها كان يستورد من الخارج، ولم تحدث أيّ أزمة في توفيرها والحصول عليها.
وأكد معدو التقرير، أن النظام استهدف بشكل خاص محطات تكرير المياه وتوليد الكهرباء والبنية التحتية للنظام الصحي العام، بهدف نشر الأمراض والأوبئة، ومنع العلاج والعناية الطبية. وأوضحت المجلة أن الأسد جعل سوريا ميدانا لحرب بيولوجية مهلكة ومدمرة، تودِي بالناس من دون الحاجة الى القصف بالاسلحة النارية، ولا سيما في المناطق التي يتعذر على النظام قصفها أو مهاجمتها.
واستخلصت المجلة أن الأسد ،شن حربا شاملة على الشعب السوري، ولم يستثنِ أي سلاح فتاك فيها، وكان يستهدف بشكل واع ومخطط ابادة السكان، وما الحرب الكيماوية والبيولوجية سوى سلاحين من أسلحة هذه الحرب، التي تتوفر فيها كل عناصر التعريف الدولي المعتمد لمفهوم الحرب البيولوجية، وكذلك الكيماوية.
هذا التقرير المهم، يطرح أسئلة كثيرة علينا وعلى المجتمع الدولي، أولها: لماذا لم تتطرق المراجع والمصادر الدولية قبل اليوم الى الحرب البيولوجية في سوريا؟ وهل كانت الدول العظمى والمتحضرة عمياء حقا؟ أو غافلة فعلا عن الحرب البيولوجية؟ أم متعامية ومتغافلة عن عمد؟ ولماذا؟
وثانيها: هل الصمت المستمر على هذه الصفحة السوداء حتى الآن صمت بريء؟ أم مريب؟
وثالثها: هل يتحمل الأسد وزمرته وحدهم كامل المسؤولية الجنائية والاخلاقية والسياسية، عن موت وهلاك مئات ألوف السوريين، جراء الحربين الكيماوية والبيولوجية في عالم تحكمه شرائع دولية وتديره منظمات اممية حازمة وقوية؟
والسؤال الأخير والأهم: كم من السوريين قد قتلوا وقضوا على أيدي النظام في حربه البيولوجية، من دون أن تدرج أسماءهم وأعدادهم في قوائم ضحايا النظام، التي تجمد عدادها عند نصف مليون منذ عامين، وما يزال البعض يشكك فيه ويطلب اختصاره، مع أن العدد الكلّي الدقيق للضحايا أكثر من ذلك بكثير؟!
المصدر: المدار نت