سألتني زوجتي متأففة من الحر الذي لا يبدو أن له آخر، قالت: لغاية إمتى ها نفضل على هذا الحال، قلت بتلقائية: حتى سبتمبر على الأقل، ثم انداحت إلى ذاكرتي أجواء سبتمبر في طفولتي، تلك الأجواء التي كنا نشكو صقيعها ونحن نستيقظ كل يوم في الصباح الباكر وكانت لحظة انتزاعنا من فوق السرير ومن تحت الأغطية التي نتدثر بها هي أصعب وأثقل لحظات طفولتنا.
في الليل يجتمع شمل العائلة متحلقين حول وابور الجاز، مع أكواب الشاي المعتبر، التي ما زلت أحن إليها في ليالي البرد،
تضحك زوجتي وهي تذكرني بأنني ما زلت حتى اليوم أسمي البوتاجاز بالوابور، وفي كل مرة أتحدث فيها عن البوتاجاز باعتباره وابور جاز تستغرب وينطلق لساني في سرد ذكرياتي مع تلك الأيام التي كنا نجتمع فيها حول الوابور المشتعل في صالة بيتنا ويبدأ عمي في تقشير وتقسيم أعواد القصب بمطواة يخصصها لهذه الوظيفة فقط.
كنا نتحلق حول الوابور، كأنه نقطة المركز في دائرة غير منتظمة، ويخرج الواحد منا يديه من تحته بالعافية لكي يكمل مص عود القصب في برد يناير القارس،
وكان عمى غفر الله له ورحمه يقود السهرة بحنكة الحريص على ألا ينام أحد أفراد الأسرة قبل أن يطفئ الوابور حتى لا يختنق وهو نائم،
وعندما كانت تغيب شعلة الوابور وتبقى رائحة الجاز مع موجات الدفء التي صنعتها أنفاسنا المجتمعة في مكان مغلق مع حرارة الوابور الذى يبقى مشتعلا طوال الربع الأول من الليل، كان يسمح لنا بالنوم الهنيء ويفاجئ كل واحد منا كل ليلة بالأمر السامي بالانتقال إلى غرفنا بعد أن انقضت نوبة الدفيان،
وكنا نترك الوابور ونحن نكاد نبكى الدفء الذي سيضيع علينا رغم الألحفة والبطاطين الميري التي كان يجلبها لنا عمى من السبتية.
في تلك الليالي الباردة كان عمى يتألق في سرد الحكايات التي ترد على ذاكرته من تاريخ ما عاشه وشاهده بنفسه، وكنت أناقشه فيما يقول، فيشجعني مرة، ويسكتني مرة ويقول لي اسكت انت مش عارف حاجة.
أذكر من هذه المرات أنى تحدثت بكلام في حق الرئيس جمال عبد الناصر، وتساءلت مستغربًا عمَّا فعله لكي يحبه الناس كل هذا الحب؟
ولا أنسى ليلتها وهو يعلو صوته في وجهي مؤنبًا وهو يقول بصدق: يكفي أنه طلع الانجليز م البلد يا للي عامل لي شاطر وبتطلع الأول،
وراح يحكى تجربة خاصة جداً أعترف أنها هي التي جعلتني أفهم المعنى الحقيقي عند كل مصري عاش زمن الاحتلال الإنجليزي في مصر، وفهمت يومها أن مشكلة جيلي والأجيال التي جاءت من بعدنا أنهم ولدوا وعاشوا في بلد غير محتل،
لم نر بأعيننا انجليزياً واحداً يتجول في شوارع المحروسة والبندقية فوق كتفه، وكأنه هو صاحب هذه الأرض ومالكها، وكان المواطن المصري مواطناً من الدرجة الثانية في بلده، قال عمى والدمعة تكاد تطفر من عينيه:
ـ مرة في طنطا كنت ماشي وبصحبتي امرأة عمك، وتعرض لنا عسكري إنجليزي يريد أن يأخذها منى كدت أشتبك معه متوقعاً أن يرميني برصاصة واحدة تنهى حياتي، ولولا ستر الله، لكان مصيري إما السجن أو الموت، وقفت في مواجهته أمنع يده أن تصل إلى زوجتي، وظللت أدفعه وهو يحاول الإمساك بزجتي، وقبل أن يتصاعد الموقف بيننا هلت علينا تباشير مظاهرة وطنية آتية من الشارع الكبير فالتفت إليها العسكري الإنجليزي فانتهزت الفرصة وفررت بسرعة من أمامه أحمل زوجتي على أقرب حنطور صادفته عند أول منعطف،
يتوقف قليلًا عن الحكاية ثم يقول :
ـ لم أشعر بالأمان إلا وأنا في قريتي على بعد كيلو مترين من المركز حين وصلت في بيت جدك، ساعتها عرفت معنى أن يكون بلدك محتل.
هذا البيت الذي تربيت فيه لم يكن من مسايري النظام الناصري، فلم أعرف أحداً من أهلي دخل الاتحاد الاشتراكي، ولا منظمة الشباب، ولا انضوى أحد منهم بأي شكل في أي نشاط سياسي رسمي،
بالعكس كنت أشارك وأنا طفل صغير مع أبناء عمومتي الشباب وهم يحفرون في الأرض إلى عمق عدة أمتار ثم يضعون في الحفرة المربعة صفائح مليئة بالكتب التي كانت ممنوعة في ذلك الوقت بعد أن يغلفوها من كل جانب من الداخل بأوراق الكراتين الثقيلة، واذكر من بين هذه الكتب كتاب في ظلال القران لمؤلفه سيد قطب الذي ملأ وحده صفيحة كاملة.
رغم ذلك لا زلت أذكر أن بعض أفراد أسرتي ـ هذا صاحب الكتب المعادية لعبد الناصر ـ بكى لحظة أذيع نبأ رحيله، وسألته بطفولة، (لا أقصد البراءة ولكن السذاجة)، وكثير من الاستغراب مستنكراً:
ـ لماذا تبكي عليه؟
رمقني بنظرة مازلت أحس بالخجل منها حتى الآن،
وبعد لحظات قال بصوت ملؤه التأثر والصدق:
ـ لست أبكى عليه، إنما أبكى مصير بلدٍ ارتبط به بما لم يرتبط بأحد من قبله، ولست أظن أنه سوف يرتبط بأحد من بعده بمثل ما ارتبط بجمال عبد الناصر.
ساعتها أحسست بوجع الفقد.
المصدر: صفحة محمد حماد