لقد أسهمت التداعيات الكارثية للمشهد الدموي في سوريا بأن يكون أكثر تعقيداً واستعصاء على الحلول، ولكنها في الوقت ذاته أسهمت في جعله أكثر وضوحاً، سواء من جهة الاصطفافات الدولية عسكرياً وسياسياً، أو من جهة الوضوح في توجهات وممارسات سلطات الأمر الواقع التي تتموضع على الجغرافية السورية.
ولكن على الرغم من جلاء المشهد في الحالة السورية، فثمة بعض المنظورات التي تصر على أن تجد في المشهد السوري ما لا يجده السوريون أنفسهم، ونعني بتلك المنظورات العديد من الرؤى التي يطالعنا بها بعض المستشرقين بين فترة وأخرى، ربما لا لعمق معرفي أو أي جديد آخر في تلك الرؤى سوى أنها تنتمي الى قطاع الاستشراق الذي يمنح ناشطيه ورواده حيزاً هاماً من الحيادية التي تفضي إلى الموضوعية في البحث والاستنتاج، وربما أفضى هذا الوهم إلى ضرب من الاستعلاء الفكري المزعوم عند بعض المستشرقين، ولعل السيد نيكولاس فان دام (١٩٤٥) المفكر والدبلوماسي الهولندي هو واحد من هؤلاء الذين أوحوا بأن مناظيرهم الاستشراقية هي الأقدر دوما على اختراق الواقع واستنباط الحقائق، إذ نشر السيد نيكولاس مقالا في موقع مركز حرمون بتاريخ الأول من آب الجاري، تحت عنوان طويل (الدروس التي ينبغي تعلمها من الثورة السورية، والدروس التي كان يجب تعلمها قبل فترة طويلة) وتحت هذا العنوان يتناول الكاتب العديد من قضايا الثورة، يمكن لنا الوقوف عند اثنتين منهما فحسب، وذلك استجابة لما يتيحه حيز مقالة وجيزة كهذه.
المسألة الأولى: يرى السيد فان دام أن الخطأ الأول الذي ارتكبه السوريون هو انتفاضتهم على نظام لم يكونوا أهلا لمواجهته، فهو نظام ضارب الجذور في البطش والعنف، ومتمرس بما فيه الكفاية للانقضاض على أية انتفاضة أو احتجاج جماهيري، وبالتالي فإن مواجهة نظام الأسد بأي شكل من أشكال الصدام لن تكون إلا لصالح النظام لأنه الأقوى، ويأتي السيد نيكولاس على ذكر ما حدث في ثمانينيات القرن الماضي من مواجهات دامية بين الإخوان المسلمين ونظام الأسد، انتصر فيها الأخير لأنه المالك لوسائل القوة والمجابهة التي تمكنه من سحق الخصم، وبناء عليه كان ينبغي للسوريين أن يتعظوا مما جرى في الثمانينيات كي لا يتعرضوا لهكذا إبادة وفقا للسيد فان دام. وواقع الحال يؤكد أن السيد فان دام يخفي من الموضوع مسألة جوهرية وهي أن انتفاضة السوريين – كشكل من أشكال الاحتجاج الشعبي- ما كانت لتتخذ هذا الانفجار الشديد لو أن نظام الأسد كان نقيض ما هو عليه، بل ربما يرى الكثير من السوريين أن مجمل مظاهر الاستعصاء والتأزم في الثورة السورية إنما يعود الى ركون السوريين وتحاشيهم أي احتجاج أو ممارسة تعبر عن رفضهم لسلوك السلطة، كما أن تأخرهم عن الاحتجاج طيلة عقود مضت هو ما جعلهم يدفعون هذه الأثمان الباهظة، ولعل استشهاد الكاتب بما جرى في ثمانينيات القرن الماضي يؤكد الاعتقاد بأن دموية النظام ونزعته الاستئصالية لا يمكن مواجهتها إلا بالاحتجاجات الصارخة التي يمكن أن تتحول إلى مشاهد دامية بسرعة كبيرة، كما حدث في أماكن عديدة من سوريا.
السيد فان دام لا يرى أن مفاتيح التغيير مفقودة، ولكنه لا يراها أيضا تكمن في مواجهة شعبية لهذا النظام، بل ربما وجد الكاتب أن الثورة جنت على كثير من السوريين جنايات كبيرة يتحمل مسؤوليتها المباشرة- ليس نظام الأسد، بل المعارضة السورية التي لم تعد العدة الحقيقية للمواجهة، ولو سألنا السيد نيكولاس: هل انطلقت الثورة السورية بإيحاء من تلك المعارضة وهل كان لأحزاب المعارضة مجتمعة أي دور في إطلاق الثورة وتوجيهها؟ وهل الثورة – أي ثورة في العالم- كحدث تاريخي – يمكن التحكم بانطلاقتها وسيرورتها من خلال الحسابات القائمة على المسطرة أو أي منطق آخر؟ وهل الثورات الأخرى التي سبقت الثورة السورية كثورة تونس ومصر مثلا، كانت قد انطلقت بقرار صادر عن قوى سياسية محددة في تلك البلاد أم أنها احتجاج شعبي مباشر وجد في القوى السياسية القدرة على توجيهه وترشيده وإدارته، وذلك على خلاف ثورة السوريين التي ظلت يتيمة من أي دعم أو توجيه سياسي سوري، نظرا لغياب أي فاعلية سياسية سورية في أوساط المعارضة السورية.
المسألة الثانية التي يقف عندها كاتب المقال هي عدم معرفة المعارضين السوريين لطبيعة نظام الأسد معرفة كافية، إذ هم يعتقدون أن السلطة الأسدية تتماثل مع السلطات الأخرى سواء في تونس أو مصر، بينما يوضح نيكولاس أن (العلويين هم بقبضتهم يمسكون الجيش والمخابرات) وبالتالي الأسد هو من يملك الشوكة الكافية لردع الخصوم. وما يمكن تأكيده أن كاتب المقال إذ يقف عند هذه المسألة فهو يقف متأخرا، مما جعله يفهمها فهما مبتورا على شاكلة أكثر المستشرقين الذين لا يدركون من الأمور سوى ما يريدون إدراكه، ذلك أن النزعة الطائفية لدى نظام الأسد لم تكن وليدة لحظة انطلاقة الثورة وإنما تأسست موازاة مع تأسيس المنهج الأمني للدولة الأسدية بدءا من الأب حافظ، ومع تجذرها كنهج في إدارة السلطة بات السوريون يواجهون استبدادا مركبا (سياسيا طائفيا) بآن معا، وربما أفضى هذا النهج الأمني أيضا إلى غياب أي دور أو فاعلية للجانب المؤسساتي في الدولة نظرا لاختزال الدولة السورية ببضعة أشخاص هم من يمسكون بمفاصل القوة ومن ثم بزمام الحكم.
ولعل من أهم المسائل التي يقف حيالها السيد فان دام في مقاله بمزيد من الثقة، ثم يقع بمزيد من التناقض ما يؤكد أن ثقة الكاتب الزائدة إنما مبعثها المعرفة السطحية وليست العميقة، من أهمها على سبيل المثال أنه يرى الدعم الروسي والإيراني هو ما جعل النظام صامدا ومن ثم هو ما جعله منتصرا في النهاية، والأمر ذاته ينسحب على الجيش الحر ، وفقا لفاندام الذي يرى لولا الدعم المطلق من الخارج لما تمكن من السيطرة على مساحات كبيرة من الجغرافية السورية، ولعل الأمر الذي لا يدركه فان دام هو أن الحقبة التي شهدت ازدهار الجيش الحر وقوته وتراجع قوات الأسد أمامه هي الحقبة التي لم يكن يتلقى فيها دعما كبيرا من الخارج بل كان يعتمد على ما ينتزعه من سلاح الخصم، وما لا يعرفه السيد فان دام أن الدعم الكبير الذي باتت تقدمه بعض الدول الخارجية للقوى العسكرية الإسلامية في المعارضة السورية كان له دور عكسي، بمعنى أن استرداد النظام سيطرته على ما كان بيد المعارضة من مناطق ومدن إنما كان على يد القوى الإسلامية ذاتها التي كانت تتلقى الدعم من الخارج سواء أكانت داعش أو جبهة النصرة أو جيش الإسلام أو فيلق الرحمن أو سوى ذلك.
يبقى السؤال عما يراه السيد فان دام من سبل صالحة يمكن للشعب السوري اتباعها أو استدراكها للارتداد عن هذه الثورة التي لا يراها فاندام سوى ورطة، وهنا لا يعدم السيد نيكولاس الحل، إذ يرى أن السبيل الأمثل لتغيير النظام هو التغيير من داخله، أي حدوث انقلاب من داخل منظومة النظام الأمنية، ولعل فان دام نسي نفسه حين أشار في مقدمة مقالته إلى تماسك بنية النظام وصلابتها بفضل تماهي الطائفة مع السلطة، ولا ندري ربما كان السيد فاندام في هذا السياق يعوّل على دور انقلابي لأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية باعتبارها شريكة للسلطة منذ عام ١٩٧٤. يبقى القول : إن السيد فان دام لم يذهب بعيدا عما ذهب إليه أقرانه من المستشرقين حين لم يكتشفوا ويتحدثوا عن فظائع الأسد وإجرامه إلا بعد أن حصدت أرواح السوريين.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا