الإسلام وقضايا السياسة والحكم، أبحاث في الخلافة والإصلاح الديني – حلقة (9)

الحلقة التاسعة

الفصل الثاني: الشيخ عبد الحميد بن باديس وجوهر الإصلاح الديني ـ 2

رابعا: مفهوم العروبة عند الشيخ ابن باديس:

حتى نستطيع أن نكون صورة واضحة عن مفهوم الشيخ عبد الحميد بن باديس للعروبة، لابد لنا من استعراض أفكاره حول كل من:

١مفهوم الأمة.

٢القومية – والقومية العربية.

٣الوحدة العربية، والاتحاد الإسلامي.

٤مواقف تطبيقية تتعلق بقضية العروبة:

  • عروبة الجزائر ووحدتها الوطنية.
  • القضية الفلسطينية والصراع مع الصهيونية.

وهذه المسائل باجتماعها تعطينا صورة واضحة لا لبس فيها عن فكر الشيخ عبد الحميد حول هذه القضية.

1ـ مفهوم الأمة عند ابن بأديس:

لقد استخدم الشيخ ابن باديس “مصطلح الأمة” في كتاباته وخطاباته في مواقع متعددة مختلفة. فقد تحدث عن المسلمين بأنهم “أمة”، حيث وردت عبارة “الأمة الإسلامية”(1) ، وقال عن العرب بأنهم “أمة”، فقال عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: إنه “رجل الأمة العربي”(2)، وكثيرا ما تحدث عن الجزائر قائلا عنها “الأمة جزائرية”(3)، وكثيرا ما توج بياناته وخطاباته بهذه الصيغة “نداء إلى الأمة الجزائرية”(4)، وكما قال عن العرب بأنهم أمة، إلا أن هذا لم يمنعه من القول بعبارة “أمم عربية”(5)، وكذلك “أمم إسلامية”(6) ،  إن هذه الاستخدامات المتباينة لمصطلح “أمة” تُوقِعُ الباحث بحيرة وارتباك شديدين، وتُخْرِجُهُ عن إمكانية الحكم الصحيح على فهم ابن بأديس لمسألتي “الأمة والقومية”، ما لم يعتمد وسائل أخرى لفهم هذه الاستخدامات.

وسبب هذا الارتباك يعود إلى الاستخدام المتباين لهذا المصطلح، فبينما يستخدم المفكرون القوميون الجدد مصطلح أمة للدلالة على “مجموعة من البشر تكونت تاريخيا، وتميزت عن سواها من الأمم بخصائص مميزة تتمثل في عاداتها وتقاليدها وتراثها الروحي والفكري وبمقومات منها اللغة والتاريخ المشترك”(7) .

نرى أن العلماء الدينيين، وبعض العروبيين الأوائل، استخدموا اصطلاح الأمة بمعنى أكثر شمولية، حيث الأمة هي جماعة من البشر، مطلق الجماعة، وهو مصطلح يظهر بوضوح في القرآن الكريم حيث وردت كلمة “أمة” في أربع وستين آية، ستون منها في معرض الدلالة على مطلق الجماعة. منها قوله تعالى ﴿ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [ آل عمران: 104] ، وقوله تعالى ﴿ وَمِن قَوۡمِ مُوسَىٰٓ أُمَّةٞ يَهۡدُونَ بِٱلۡحَقِّ وَبِهِۦ يَعۡدِلُونَ ﴾[ الأعراف: 159](8).

لذا يصبح مبكرا استنتاج موقف الشيخ ابن بأديس من “الأمة” بمفهومها الحديث ما لم نتعمق أكثر في مضمون تلك الاستخدامات.

فقد طرح مقولة الأمة الجزائرية باستمرار بمعرض التمايز عن فرنسا.. “الأمة الجزائرية الإسلامية هي ليست فرنسا، بل هي بعيدة عن فرنسا في لغتها وفي أخلاقها، وفي عنصرها، وفي دينها … “(9) ، أي أنها “أمة” مختلفة عن فرنسا، لاختلاف العقيدة واللغة والعنصر، وتلك العناصر التي ذكرها تشكل عناصر أساسية في استقلال الأمم، أما إذا عدنا إلى مفهوم الأمة الإسلامية فإن ما يميزها عن غيرها من الأمم هو الدين وحده.

و”الأمة العربية” بتعريف ابن بأديس هي هذه “الأمة الممتدة من المحيط الهندي شرقا الى المحيط الأطلسي غربا، والتي فاقت سبعين مليونا عدا، تنطق بالعربية، وتفكر بها، وتتغذى من تاريخها، وتحمل مقدارا عظيما من دمها” (10)، أي إن مضمون هذه الجماعة التي هي الأمة العربية اللغة والتاريخ والجنس ـ بشكل ما ـ والآمال والآلام.

ومصطلح أمم إسلامية يقصد به جماعات يرتبط بعضها ببعضها الآخر من خلال وحدة الدين. أما مصطلح “أمم عربية”، فلم يرد أي مضمون له، ولكن استخدامه الملحوظ جاء في معرض الحديث عن قصص الأمم التي بادت، كما وردت في القرآن الكريم.

إن هذه القراءة لمضمون الاستخدامات ترى أن ما يميز الجماعات “الأمم” عن بعضها هي عوامل متعددة “اللغة والتاريخ والدين والجنس والمشيئة”، وهي ذاتها المميزات التي تعطي خصائص الأمم وفق المصطلحات الحديثة.

ومن هنا نرى أن الأمة الجزائرية مستقلة بهذه الخصائص عن فرنسا، ولكنها متحدة مع الأمة العربية، وتتفق في بعضها، وتخلط بعضها الآخر مع الأمة العربية، وذات الشيء عن العلاقة بين اصطلاحي أمة عربية وأمة إسلامية، أي إن الجماعة الجزائرية جزء لا يتجزأ من الجماعة العربية، التي تتفق مع الجماعة الإسلامية بالدين، وتختلف معها بالخصائص الأخرى.

وكذلك الامة العربية تجتمع على خصائص رئيسية كافية لتميزها عن كل ما عداها من الأمم.

وإذا كانت الخصائص التي تميز الجماعات عن بعضها بحيث تظهرها كوحدة تجمع المنتمين إليها، وتستقل بها عن الآخرين، هي التي تشكل مصطلح الأمة باستخدامه الحديث، فإن هذه الخصائص تنطبق ـ من بين الاستخدامات التي استعملها الشيخ ابن باديس ـ على الأمة العربية فقط.

2 ـ القومية والقومية العربية

إذا كانت القومية في أية أمة هي مرحلة عليا من مراحل الوعي التاريخي، وهي وعي الأمة لوحدة وجودها، ومكانها في هذا الوجود، ولعمق الروابط التي تشد جميع خلايا الأمة بعضها إلى بعض (11) ، كما هو ثابت لدى المتحدثين القوميين، فإن إطار هذا الوعي القومي لطبيعة العلاقات التي تشد الأمة العربية إلى بعضها يبدو واضحا عند الشيخ ابن باديس الذي كتب في حزيران ۱۹٣٦ بمناسبة ذكرى المولد النبوي مقالا بعنوان: “محمد رجل القومية العربية” وهو يفسر هذه التسمية ويعللها تعليلا دقيقا حين يقول: “لا يستطيع أن ينفع الناس من أهمل أمر نفسه، فعناية المرء بنفسه عقلا وروحا وبدنا لازمة له ليكون ذا اثر نافع في الناس…..

ومثل هذا كل شعب من شعوب البشر”. ويتابع قوله: “وإنما ينفع المجتمع الإنساني ويؤثر في سيره من كان من الشعوب قد شعر بنفسه، فنظر إلى ماضيه وحاله ومستقبله”، ويكمل مقالته شارحا كيف توجه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بدعوته إلى بني قومه ثم وجهها إلى باقي العرب، وكيف أن القرآن نزل بلهجات العرب الأساسية كلها، حتى يشعر العرب، كل العرب، أنه لهم ثم يقول: “على أن العرب رشحوا لهداية الأمم”.. ويختم مقالته قائلا: “هذا هو رسول الإنسانية ورجل القومية العربية … هذا هو رسول الإنسانية ورجل الأمة العربية الذي نهتدي بهديه ونخدم القومية العربية” (12).

إن قراءة هذا النص يوضح لنا مسألة الوعي التاريخي المبكر بوجود الأمة العربية عند ابن باديس، وهو وعي واضح عند العرب، وقد أدركه الإسلام، فتوجه سيدنا محمد برسالة الله إلى قومه، وإلى العرب، وصاغ وحدتهم مدخلا لنشر الإسلام. ومن هذا الوعي المبكر تعامل الإسلام مع العرب، فلم يقبل منهم إلا الإسلام أو القتال، بينما طرح الجزية كحل ثالث على باقي الشعوب.

ولا يقف ابن باديس في استخدام مصطلح القومية العربية على هذا النص، وإنما يطرحه بثقل ووضوح، ويعلن اعتزازه بالانتماء للقومية العربية قائلا: “ولنا من هذه القومية العربية الخالدة من هذا التاريخ الممتد لبعيد مجد وملك، مثال ما لغيرها من العرب” (13). وعندما يتحدث عن مفهوم الوطن يعود ليثبت منظورا يطابق المنظور القومي، فالوطن الأصغر هو الجزائر، أما الوطن الأكبر فهو الوطن العربي الإسلامي، وهو الوطن القومي، وبعد ذلك وطن الإنسانية العام.

في هذه الزاوية لا نرى لدى الشيخ ابن باديس وطنا أخر بين الوطن العربي الاسلامي وبين وطن الإنسانية، ويعلق الأستاذ محمد الميلي على هذه المقولة بقوله: “إن ابن باديس هنا واضح في إيمانه بالقومية العربية، إذ يجعل التصنيف يتميز عما لدى سائر علماء الدين الذين اشتغلوا بالفكر السياسي، فهو يتحدث عن وطن عربي إسلامي، أي أن ابن باديس بهذا التحليل قد أعطى للقومية العربية منذ سنة ١٩٣٦ نفس المحتوى الذي يتجه نحوه الفكر العربي التقدمي الحديث (14).

مقومات القومية العربية عند ابن باديس:

يتحدث الشيخ ابن باديس عن مقومات القومية العربية في أكثر من مقال وخطاب، فهو حينا يتحدث عن اللغة والجنس والتاريخ والألم والأمل كمقومات للقومية العربية (15)، وحينا يتحدث عن اللغة والقيم والعنصر والدين (16)، ومرة ثالثة يتحدث عن اللغة والعقيدة والآداب والأخلاق والتاريخ (17). وفي مقالته “الجنسية القومية والجنسية السياسية” يعدد أربع مقومات هي: اللغة والعقيدة والتاريخ والآمال والآلام. (18)، ولكنه في كل مرة يركز على مقومين رئيسين هما: “اللغة والتاريخ”، ونحن بدورنا سنتوقف عند هذين المقومين ليس باعتبارهما مقومان وحيدان، وإنما باعتبار الدين نسغ يدخل في كل المقومات القومية للأمة العربية ولا يمكن النظر إليه كمقوم مستقل، وهذا ما نجده عند الشيخ ابن باديس أيضا.

أما الجنس فالشيخ يعترف أنه ليس هناك جنسا صافيا، والعرب ليسوا هم ذو أصل واحد، فقد كانت الكثير من الشعوب تتعرب عبر التاريخ، وتصبح عربية باللسان والتاريخ المشترك، ويحذر من العصبية للجنس، ويقول: “احذر من التعصب الجنسي الممقوت، فإنه أكبر علامات الهمجية والانحطاط” (19) .

1ـ اللغة

كثيرا ما يطرح من قبل بعض المفكرين الإسلاميين أن الدعوة القومية هي دعوة غريبة عن الإسلام، ومتعارضة مع أحكامه، باعتبارها دعوة لعصبية جاهلية، وأن الإسلام قد ساوى بين الأجناس حيث: “لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى”.

ولكن الشيخ ابن باديس الذي طرح الفكرة القومية من موقعه الاسلامي يرى أن القومية العربية – مع تقديره لدور العرب كجنس ـ تقوم على قاعدة اللسان أساسا، ويرى في اللغة المقوم الأول لهذه القومية، فيقول “تكاد لا تختص أمة من الأمم لعرق واحد، وتكاد لا تكون أمة من الأمم لا تتكلم إلا بلسان واحد، فليس الذي يربط الأمة، وأجزاءها، ويوحد شعورها، ويوجهها إلى غاياتها، هو هبوبها من سلالة واحدة، وإنما الذي يفعل ذلك هو تكلمها بلسان واحد” (20).

إن هذا التحليل الذي اعتمده الشيخ ابن باديس لم يقتصر الوصول إليه على مجرد المحاكمة العقلية والمنطقية، وإنما ارتكز فيه على قراءة التاريخ الإسلامي، وسنة رسول الله ، فقد اعتمد في رؤيته هذه على الحديث النبوي الذي رواه ابن عساكر في تاريخ بغداد بسنده عن مالك، والزهري، عن ابن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: جاء قيس بن مطاطية إلى حلقة فيها سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي، فقال: هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل – يعني النبي صلى الله علية وسلم، فما بال هذا – يعني الفارسي أو الرومي والحبشي -، ما يدعوهم إلى نصره وهم ليسوا عربا مثل قومه! – فقام إليه معاذ بن جبل رضي الله عنه – فأخذ بتلابيبه – ما على نحره من الثباب – ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بمقالته،  فقام النبي صلى الله عليه وسلم، مغضبا يجر رداءه ـ لما أعجله من الغضب،  حتى أتى المسجد، ثم نادى الصلاة جامعة “ليجتمع الناس”، وقال : أيها الناس الرب واحد، والأب واحد، والدين واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي”.

إن اعتبار اللسان وليس القدم عمود بناء الأمة، وأهم مقوماتها، هي حقيقة علمية وتاريخية، وهذا ما اضطرت إلى أن تعترف به كل الشعوب، بعد ان تراجعت واندحرت تلك النظريات التي اعتمدت العرق كمقوم رئيسي للرابطة القومية.

واللغة تخلق الشعور بالألفة، وتخلق إمكانية التفاهم، الذي يشكل الدعامة الأساسية للتعايش المشترك، إضافة الى أنها تدخل بتكوين المجموعة البشرية التي تتحدث بها حيث تؤثر على أفرادها حتى أعماق تفكيرهم، ومن المؤكد أن استعمال لغة واحدة يعمل على تشكيل تراث مشترك من المفاهيم.

ولنعد إلى ابن باديس الذي يثبت أهمية اللغة باعتبارها أداة ربط الماضي بالحاضر… “فلا رابطة تربط ماضينا المجيد بحاضرنا الأغر، والمستقبل السعيد، إلا هذا الحبل المتين، اللغة العربية لغة الدين، لغة الجنس، لغة القومية” (21).

٢التاريخ

 إن تاريخ الأمم يمثل سلسلة طويلة من التفاعلات، وهو السجل الذي يحتوي الحقائق والأحداث التي تعيشها الأمم، ويسجل مراحل تطورها، ودرجات نموها وتقدمها.

ويتميز تاريخ الأمم المكتملة النمو بأنه وحدة مترابطة، يصنع وحدة مجتمعية بين أبناء الأمة، ويتألف من سلسلة متصلة الحلقات تهيئ كل مرحلة لمجيء حلقات أخرى.

إن التاريخ المشترك يوجد وحدة التراث الفكري والحضاري، وهو الذي يخلق القرابة المعنوية بين الأجداد والأحفاد، ولكن من المهم جدا معرفة قراءة التاريخ بعد إدراك أهمية هذه المعرفة. والشيخ ابن باديس وقف بدقة عند هذه المسألة، فهو يدعو لهذه المعرفة ويربط المستقبل بها، “من عرف تاريخه، جدير أن يتخذ لنفسه منزلة لائقة به في هذا الوجود” (22).

واعتمد في قراءته للتاريخ على فكره الثاقب، وعلى منهج تحليلي علمي نقدي، وهو يرى أن “التاريخ لا يجب أن ينظر إليه من جهة واحدة، بل من جهات متعددة (23) .

ومن هذا المنظور التحليلي الشمولي نظر لتاريخ العرب قبل الإسلام، وقد رأى فيه صورة تتناقض كثيرا مع الصورة التي يطرحها العديد من المفكرين الإسلاميين الآخرين، والتي تقدم العرب في صورة همج لم يطورهم إلا الإسلام.

وفي قراءته اعتمد على القرآن، ورأى أن الاهتمام بتاريخ العرب حق علي كل من يدين بالإسلام، حيث إن هناك ارتباطا وثيقا بين العرب وبين الإسلام، فقد اختارهم الله لتبليغ دين الإسلام.

في قراءته للقرآن لاحظ أن “القرآن هو الذي أنصف العرب، والذي ذكر قبائح المجتمع الجاهلي، ولكنه بالمقابل عدد الكثير من الصفات الإيجابية، والكثير من المظاهر الحضارية عند العرب” (24).

ويضرب أمثلة عديدة على الطرح القرآني لصورة العرب وتاريخهم من خلال الآيات التي تتحدث عن أمم عربية بائدة، عاد وثمود وإرم ذات العماد ومملكة سبأ، حيث كانت أمما عظيمة ذات حضارة وقوة، وهي تملك مؤهلات جنسية طبيعية للملك، وتعمير الأرض، وأن تلك المؤهلات فيها وفي غيرها من شعوب العرب، هي التي أعدتهم للنهوض بالرسالة الإلهية (25)، وهي بعض خصائص هذه الأمة التي هيأها الله للنهوض بالعالم، (26).

هذه هي المنظومة التاريخية التي رآها ابن باديس في تاريخ العرب، الذي اعتبره مقوما رئيسيا من مقومات القومية العربية التي دعا إليها.

3 – الوحدة العربية والاتحاد الإسلامي

 قد لا تكون الصورة قد اكتملت بعد، خاصة وأن معظم أحاديث الشيخ كانت عن الجزائر العربية المسلمة، الجزائر التي تناضل من أجل هويتها “القومية”، هوية الأمة الجزائرية المسلمة، وكل نضالاته صبت في هذا الاتجاه، اتجاه يكرس الهوية الوطنية في مواجهة الفرنسية، ويواجه التبشير بالإسلام، ويواجه الثقافة الفرنسية بالتعريب، حتى أن الاستقلال السياسي الذي كانت تطالب به بعض القوى الجزائرية لم يكن من طموحات الشيخ وجمعية العلماء، فقد رأوا في هذا الطلب – في المراحل الأولى من دعوتهم – مطلبا صعب التحقيق، ورأوا في كفاحهم من أجل الهوية القومية الإسلامية الجزائرية المدخل إليه.

ولكن كانت هنالك محطات أساسية أعلن فيها الشيخ بوضوح رؤيته القومية بكل ما تعنيه، وترمز إليه، من نزوع إلى تأسيس دولة واحدة، تضم أبناء القومية العربية.

أبرز تلك المحطات تجلت في موقف الشيخ ابن باديس من الأزمة التي أثارها سليمان باشا الباروني في مواجهته للأمير شكيب أرسلان، الذي يعتبر صديقا حميما للشيخ ابن باديس، تلك الأزمة تتعلق بالوحدة السياسية للأمة العربية، فقد نسب لشكيب ارسلان قوله إن هناك أسبابا جغرافية تمنع اتحاد بلاد شمال أفريقيا “المغرب العربي”، وإن الحديث عن الوحدة مع هذه المناطق يوجِد أعداء أقوياء للوحدة، وقد أثار يومها هذا الحديث شخصيات جزائرية ومغربية وتونسية، وتصدى له سليمان باشا الباروني معتبرا أن في هذا الموقف تخليا من الأمير شكيب عن مسلمي شمال أفريقيا لفرنسة.

لكن الشيخ عبد الحميد انبرى للدفاع عن صديقه، والذي يهمنا من هذه الحادثة أنها كشفت عن رؤية الشيخ ابن باديس لمسألة الوحدة، إذ كتب مقالة بعنوان “الوحدة العربية وهل بين العرب وحدة سياسية” وجاء فيها.. “إذا نظرنا إلى الامة العربية على ضوء هذه الحقيقة، فإننا نجد منها شعوبا مستقلة استقلالا حقيقيا، فهذه تمكن بينها الوحدة السياسية، وتجب. ثم تجد شعوبا أخرى وهي شعوب الشمال الأفريقي المصابة بالاستعمار، فهذه لا وحدة سياسية بينها، ولا بين غيرها، ولا يتصور أن تكون” (27).

ومن الواضح في هذا النص أن الشيخ ابن باديس يرى في الوحدة العربية طريقا لا بد منه أمام العرب، ويدعو لوحدة الأمة العربية التي تمتد بلدانها من الخليج العربي الى المحيط الأطلسي، ولكنه ينظر إلى هذه الوحدة بمنظور السياسي المجرب والمفكر الخبير، حيث يعتقد أن مسألة الوحدة تقررها شعوب حرة تملك سلطة قرارها السياسي، وهذا لا يتوفر في الشعوب المستعمرة المغلوبة على أمرها.

ويطالب بأن تترك لهذه الشعوب تقرير شكل نضالاتها وأسلوب عملها في تحقيق أهدافها، ولكن هذه الحرية يجب ألا تتعارض مع هويتها، وهي هوية عربية إسلامية.

هذه هي رؤيته للوحدة العربية، أما عن العلاقة بين الشعوب والأمم الإسلامية فهو يتحدث عن “اتحاد إسلامي” دون أن يحدد لنا طبيعة هذا الاتحاد، فهو يقول إن “الاتحاد الاسلامي والوحدة العربية بالمعنى الروحي والمعنى الأدبي الأخوي هما موجودان” (28).

4- مسائل تطبيقية تتعلق بقضية العروبة

حتى ندرك أصالة نهج الشيخ عبد الحميد بن باديس، وانطباق رؤيته النظرية العامة حول المفهوم القومي، سننظر في مسألتين رئيسيتين ليتبين مدى دقة تطبيق منهجه على الأحداث والوقائع التي عايشها.

وهاتان المسألتان هما:

** عروبة الجزائر ووحدتها الوطنية.

** القضية الفلسطينية والصراع مع الصهيونية.

أـ عروبة الجزائر ووحدتها الوطنية.

لقد كان من أهداف الاستعمار الفرنسي تخريب البنية الداخلية للشعب الجزائري، فعمد إلى تمزيق اللحمة الوطنية بشتى الوسائل، ولعل أهم تلك الوسائل إثارة النعرات بين “الأمازيغ” وبين العرب. والتشكيك بعروبة الشعب الجزائري، وفي سبيل هذا الهدف عمل على نشر دعاية مضللة عن تمايز الأمازيغ عن العرب، وشجع بالفعل مثل هذا التمايز (29).

لكن ابن باديس ذو الأصول الأمازيغية، كان من ضمن الذين وعوا هذه المخططات، وأعلنوا حربهم عليها، وكانت حربه الوطنية تقوم على ذات القواعد القومية التي آمن بها، فأعلن بكل وضوح عروبة “الأمازيغ ـ البربر”، وهي عروبة تقوم على قاعدة اللسان، وقدم تحليلا وافيا لعروبة الجزائر جاء فيه: “ما من نكير أن الأمة الجزائرية كانت أمازيغية من قديم عهدها، وأن أمة من الأمم التي اتصلت بها ما استطاعت أن تقلبها عن كيانها، ولا أن تخرج بها عن أمازيغيتها أو تدمجها في عنصرها، بل كانت هي تبتلع الفاتحين، فينقلبون إليها ويصبحون كسائر أبنائها. فلما جاء العرب، وفتحوا الجزائر فتحا إسلاميا لنشر الهداية، لا لبسط السيادة، … دخل الأمازيغ من أبناء الوطن الإسلام، وتعلموا لغة الإسلام العربية طائعين… فامتزجوا بالعرب بالمصاهرة ونافسوهم في مجالس العلم… فأقام الجميع صرح الحضارة الإسلامية يعربون عنها، وينشدون لواءها، لغة واحدة هي اللغة العربية الخالدة. فاتحدوا في العقيدة كما اتحدوا في الأدب واللغة فأصبحوا شعبا عربيا متحدا” (30).

إن هذه الرؤية تعتبر تطبيقا حرفيا للنظرية حيث العروبة في عروبة اللسان لا الأصل، وحيث العقيدة والتاريخ هي المقومات الحقيقية للأمة.

ب ـ المسألة الفلسطينية وقضية الصراع مع الصهيونية

من الطبيعي أن تأخذ قضية مثل القضية الفلسطينية حيزا من اهتمامات الشيخ عبد الحميد وكتاباته، فالأزمة الفلسطينية التي تمثلت بالهجرة المكثفة المنظمة لليهود الصهاينة، إلى ما أسموه أرض الميعاد، في ظل وعد بلفور بإقامة وطن قومي يهودي في فلسطين، وما تبعه من مشاريع وقوانين صدرت تباعا من قبل حكومة الانتداب البريطاني بهدف التمكين لهذا المخطط، وما نجم عنه من اضطرابات وثورات هزت كل الشعوب العربية والإسلامية، وجميع القادة والمفكرين المسلمين.

لذلك كان من المهم أن نتلمس طبيعة الرؤية التي نظر من خلالها الشيخ ابن باديس إلى المسألة الفلسطينية. وهي رؤية تدل على تحليل عميق، ومنهجية متسقة، مع منظومة الأفكار التي آمن بها، ودعا إليها.

فقد رأى أن جوهر القضية لیس صراعاً دينياً بين مسلمين وبين يهود، وإنما هي سعي الصهيونية بالتنسيق مع الغرب الاستعماري، وهو هنا – الاستعمار الانكليزي – على إقامة كيان صهيوني وزرعه داخل الوطن العربي، من أجل تقسيمه وتمزيقه، حيث يقول: “ليست الخصومة بين كل عرب فلسطين ويهودها، ولا بين كل مسلم ويهودي على وجه الأرض، بل الخصومة بين الصهاينة والاستعمار من جهة، والإسلام والعرب من جهة … يريد الاستعمار الانكليزي الغاشم أن يستعمل الصهيونية الشرهة لقسم الجسم العربي”.

ومن ذات السياق نظر الى الصدامات التي حدثت بين الجالية اليهودية في الجزائر، وبين المواطنين العرب المسلمين، فرفض اعتبارها “صراع بين ديانتين” وأسف لها ودعا لتجاوزها (31).

هذه الرؤية تستند – كما قلنا – إلى تحليل يقوم على الطبيعة القومية للمسألة الفلسطينية، وعلى رؤية أن المشكلة تتجاوز مجرد إقامة دولة يهودية على جزء من الأرض العربية، وإنما هي أعمق، فهي  تستهدف منع الأمة العربية من التوحد.

خلاصات ونتائج ختامية

1 ـ إن المطلع على المفهوم عند كل من عبد الرحمن الكواكبي، وعبد الحميد بن باديس، والمدرسة التي ينتميان إليها، يلاحظ أن الفكر القومي الذي يتمثلانه، ويدعوان إليه، مختلف عن ذلك الفكر القادم إلينا من الغرب، فبينما يريان الفكر القومي، – أي وعي الانتماء الى الأمة العربية – على صلة وثيقة بالإسلام باعتباره دينا سماويا توحيديا، يرى القوميون “الغربيون” أن القومية هي جزء من حركة وعي علماني منفصل، إن لم يكن على تضاد مع الفكر الديني.

2 ـ إن الوعي القومي لدى الكواكبي لم يأت على تصادم مع “الإسلام الدين”، ولا حتى مع “الإسلام الدولة”، بل هو جاء متوافق معهما، فدعا إلى تعريب الدولة الإسلامية، على عكس ما رأيناه عند الجيل الثاني الذي ينتمي إليه الشيخ عبد الحميد بن باديس ومعاصروه من القوميين العرب الذين دعوا إلى دولة عربية، مع المحافظة على رابطة توحيدية للشعوب الإسلامية، لكن هذه الرابطة لا ترقى إلى مستوى الدولة المركزية.

3ـ لقد جاء التأكيد على المفهوم القومي لدى هؤلاء المصلحين ضمن حركة التجديد أو الإصلاح الديني، حيث ارتبط الإصلاح الديني بإعطاء العروبة مكانتها سواء في قيادة الدولة، أو من خلال التأكيد على اللغة العربية كعامل استنهاض ديني وتوحيد مجتمعي.

٤ـ من خلال قراءة القرآن قراءة واعية، ودراسة قصص التاريخ الإنساني، التي وردت في القرآن، بعقل منفتح ونقدي، اكتشف الشيخ عبد الحميد بن باديس فضل العرب، ومكانتهم، واكتشف تاريخهم المجيد، وأنهم لم يكونوا قوما همجا متخلفين، نُكْراً قبل الإسلام، كما يردد بعضهم ممن يعتقدون عن خطأ أو جهل بأنهم ينتصرون بذلك للإسلام، بل هم قوم ذووا حضارات أهلتهم ومكنتهم من حمل رسالة الإسلام إلى كافة الشعوب.

5- إن القومية العربية ليست هي عصبية للجنس العربي، وإلا كانت عصبية جاهلية مرفوضة، لكنها تقوم على اللسان أولا (أي اللغة)، وعلى التاريخ المشترك، وعلى المصالح والمفاهيم الدينية والدنيوية.

6- إن الإسلام بالنسبة للعروبة ليس مجرد حاضنة، ساعدت على وحدة العرب، والحفاظ على لغتهم، وإنما هو نسغ يمد القومية العربية بروافد إنسانية شعبية بشكل مستمر، لأن معجزة الإسلام مرتبطة باللغة العربية، والمسلمون لابد أن يتعلموا اللغة العربية لتكون لغتهم الأصلية، ومع الزمن لا بد من أن تتعرب أعداد كثيرة من هؤلاء المسلمين.

٧ ـ إن العروبة والقومية العربية، ليستا بدعة وضلالة، فقد كان الكواكبي وابن باديس من أشد العلماء المسلمين حربا على البدع، وإنما هما حقيقة إنسانية وتاريخية، والوحدة العربية ـ ويظهر هذا واضحا لدى ابن باديس ـ مرتبطة بالمصالح البشرية، وهي بهذا المفهوم ضرورة إسلامية بقدر ما هي ضرورية عربية.

٨ ـ إن أهمية هذين المفكرين ( الكواكبي وابن باديس ) تنبع من كونهما من الدعاة العمليين، الذين يربطون الفكر بالحركة، فقد سعى الكواكبي عبر مشروع “مؤتمر أم القرى” لإحداث تغيير في الدولة الإسلامية، كما قام ابن باديس من خلال “جمعية العلماء المسلمين” بنشر اللغة العربية، وتأسيس مؤسسات وزوايا للعمل القومي الإسلامي.

٩ـ ولقد شكلت الدعوة العروبية التي بدأت بجمال الدين الأفغاني خطا متصاعدا طوره عبد الرحمن الكواكبي وتلامذته في المشرق، وابن باديس ومريدوه في المغرب، ليرسم معالم الفهم القومي المرتبط بالإسلام بصورته الناصرية.

وهي هنا على عكس مدارس قومية أخرى انتشرت في مشرق الوطن العربي، استمدت وعيها القومي من الخارج فاصطدمت بالإسلام أو افترقت عنه.

١٠ـ إن جوهر الإصلاح الديني لدى هذا التيار من المصلحين يقوم على عدة قواعد في مقدمتها العودة إلى مفهوم التوحيد باعتباره: خلوص العبودية لله وحده، والتحرر من أية عبودية لغيره.

وتتركز هذه الدعوة على:

** أصولية في شؤون العقيدة والعبادات، بمعنى التخلص من كل الشوائب والبدع والإضافات ومن كل الانقسامات المذهبية.

**عقلانية، بمعنى سيادة العقل وفتح باب الاجتهاد.

** مدينة بمعنى قبول التطور والتطوير في الشؤون الحياتية على قاعدة المصالح المرسلة، وتطور الأحكام مع تغير الزمان، وأن شرعية الأحكام مستمدة من تحقيقها لمصالح المسلمين.

١١- وأخيراً، وإن كنا نختلف مع هؤلاء الرواد في بعض مواقفهم السياسية، والتي هي خارج موضوع بحثنا، ولكنا لا نستطيع إلا الوقوف باحترام أمام هذا الفكر المتفتح، وأمام هؤلاء الدعاة المجددين، الذي قرروا اختراق الزمن باتجاهيه:

** الماضي حيث العقيدة الحسابية ونهج السلف الصالح.

** والمستقبل حيث حركة التطور في عمران الأرض وفق ما فيه مصلحة الإنسان خليفة الله على الأرض.

يتبع الحلقة العاشرة

الهوامش

  1. عبد الحميد بن باديس ـ الآثار الكاملة ـ ج 3 – ٢١٧
  2. م . س  ـ  ج ٤ـ  ص ٢١
  3. م . س ـ  ج ٣ ـ ص ٣٢٤
  4. م . س ـ  ج٣ ـ ص ۲۸۳
  5. م . س ـ ج ۳ ـ ص ۲۰
  6. م، س ـ ج3ـ ص240
  7. طلال خالدي ـ عبد الناصر والثورات القومية ص ١٦
  8. عصمت سيف الدولة ـ عن العروبة والإسلام ـ ص ٢٦
  9. عبد الحميد بن باديس ـ الآثار الكاملة ج ٣ ـ ص ٢٨٣
  10. مجموعة مؤلفين -حصار الفكر العربي الحديث – في القومية العربية ص ٧١
  11. محمد عمارة ـ الإسلام والعروبة والعلمانية ص ١٤٩
  12. المرجع السابق ـ  ص ١٤٩ – ١٥٠،
  13. عبد الحميد بن باديس ـ الآثار الكاملة ج 4 ص ١٩
  14. محمد الميلي ـ ابن باديس وعروبة الجزائر ص ٥٦ – ٥٧
  15. عبد الحميد بن باديس م . س ـ ج ٣ ـ ص 179
  16. م س ج ۳ ص ۳۸۳
  17. محمد الميلي ـ المرجع السابق ـ ص ٥٦ – ٥٧
  18. عبد الحميد بن باديس ـ الآثار الكاملة ج ۳ ص ۱۷۹
  19. المرجع السابق ـ ج ٣ ص 179
  20. محمد عمارة الإسلام والعروبة والعثمانية ص 150 ـ 151
  21. عبد الحميد بن باديس ـ الآثار الكاملة ـ ج3 ـ ص11
  22. المرجع السابق ـ  ج ٣ ص ٢٦٥
  23. عمار أوزيغان ـ الجهاد الأفضل ـ ص ٣٠
  24. محمد عمارة ـ الإسلام والعروبة والعلمانية ـ ص ١٥٦
  25. محمد عمارة م . س ـ ص ١٥٦
  26. المرجع السابق ـ ص162
  27. ابن باديس وأخرون ـ حصاد الفكر العربي ص ٧٣
  28. عبد الحميد بن باديس ـ الآثار الكاملة ج ٣ ص ٣٧٩
  29. وظهرت آثار هذه السياسة بعد خروج الاستعمار بفترة حيث بدأت تظهر المعدات وقلاقل ذات نزعات قبلية (بربرية).
  30. ابن باديس الآثار الكاملة ج ٣ ص ٢٤١.
  31. المرجع السابق ـ ج4  ـ ص 56

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى