باتت القضية المتعلقة بـ”تنفيذ الاتفاقيات الاقتصادية ومذكرات التفاهم” أكثر ما يحكم العلاقة بين إيران وحليفها النظام السوري، ورغم أن الجانبين أعلنا توقيع الكثير منها خلال السنوات الماضية “بقيت عملية التنفيذ على ورق”، حسب ما أشار إليه مسؤولون إيرانيون مراراً، فيما عكست كلماتهم لأكثر من مرة نوعاً من “التوجس”.
ودفعت “معضلة عدم التنفيذ”، في مايو الماضي، الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لزيارة العاصمة السورية دمشق على رأس وفد اقتصادي وسياسي كبير. وفي حين أعلن توقيع 16 مذكرة تفاهم مع نظيره بشار الأسد بشأن مشاريع اقتصادية في سوريا، أكد على نقطة تتعلق بـ”ضرورة التنفيذ”.
وكانت زيارة رئيسي إلى دمشق الأولى لرئيس إيراني منذ عام 2010، وقال في تصريحات للصحفيين حينها: “لا نعتبر بأي حال من الأحوال أن مستوى النشاط الاقتصادي بين إيران وسوريا يرقى إلى مستوى العلاقات السياسية بين البلدين، ونعتقد أنه يجب أن تكون هناك قفزة إلى الأمام في العلاقات التجارية”.
ومرت ثلاثة أشهر على هذه الخطوة الإيرانية ليزور وزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد العاصمة طهران، الاثنين، على رأس وفد سياسي واقتصادي كبير أيضا، وذكرت وسائل إعلام من كلا البلدين أن الغرض الأساسي من الرحلة يرتبط بمتابعة “تنفيذ الاتفاقيات ومذكرات التفاهم”.
وقالت وكالة الأنباء السورية “سانا”، الثلاثاء، إن الوفدين الإيراني والسوري بحثا تنفيذ الاتفاقيات ومذكرات التفاهم التي تمخضت عنها زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لدمشق، وآليات توسيع العلاقات في المجالات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية ، كما “تم استعراض الإجراءات المتخذة وتلك التي سيتم اتخاذها لوضع ما تم الاتفاق عليه حيز التنفيذ العملي”.
ونقلت وكالة “إيرنا” عن وزير الطرق والتنمية العمرانية، مهرداد بازارباش، أنهم اتفقوا خلال زيارة المسؤولين السوريين على “تصفير التعرفة الجمركية لجميع أنواع السلع”، واتخذوا “إجراءات إيجابية” في مجال التأمين، وتشكيل شركة مشتركة مستعدة حاليا لتقديم خدماتها.
وأضاف بازارباش أن بنكا إيرانيا سيبدأ نشاطه في سوريا قريبا، قائلا إن “ذلك في الظروف العادية يستغرق عدة سنوات، لكنه يتم حاليا في ظل إرادة الطرفين ودوافعهما الإيجابية”.
وأشار أيضا إلى اتفاق لـ”تعزيز طريق النقل بين إيران والعراق وسوريا”، مضيفا أنه “سيجرى تطوير حقول النفط السورية من قبل المتخصصين الإيرانيين، وتقرر متابعة الموضوع بحضور وزير النفط” الإيراني جواد أوجي.
ماذا وراء عدم التنفيذ؟
تعتبر طهران من أبرز حلفاء النظام السوري إلى جانب روسيا، وخلال السنوات الماضية قدمت له دعما عسكريا وسياسيا واقتصاديا.
ورغم الكم الكبير من الاتفاقيات التي أبرمتها، “لقاء تدخلها” بحسب محللين وباحثي اقتصاد، إلا أن جزءا كبيرا منها لم ينفذ على أرض الواقع، على عكس تلك الخاصة بموسكو، التي اتخذت مسارات بعيدة كل البعد عن ذلك.
وقبل وصول المقداد إلى طهران نقلت وكالة “إيسنا” الإيرانية عن خبراء قولهم إنه “من الضروري أن تسعى إيران، التي اتخذت في السنوات الأخيرة العديد من الإجراءات لدعم حكومة وشعب سوريا إلى مزيد من التصميم والمثابرة، للحصول على نصيبها المناسب والكبير”.
وأضافت الوكالة أن “الحكومة الروسية حاليا، نظرا لوجودها العسكري في سوريا في السنوات الأخيرة، تشارك الآن في مشروعات مهمة مثل تجهيز ميناء طرطوس كمصدر للتصدير والاستيراد، والتنقيب عن النفط والغاز”.
كما وقعت الصين على الاتفاقيات الأولية المتعلقة بانضمام سوريا إلى مشروع الحزام والطريق، وهناك “دول مثل الإمارات وحتى تركيا تتطلع أيضا إلى الأسواق السورية، وتستحوذ على حصة من عملية إعادة الإعمار”، حسب ذات الوكالة الإيرانية.
ويشير الباحث المتخصص في الشؤون الإيرانية، الدكتور محمود البازي، إلى وجود “استراتيجية مخالفة تعمل عليها حكومة رئيسي، وهي محاولة خلق أسواق جديدة في أفريقيا وآسيا، لأن مسار المفاوضات مع الولايات المتحدة معطل، ولذلك فهي ترغب بالقول للداخل إن هناك أسواق بديلة”.
ويوضح البازي في حديثه لموقع “الحرة” أن “توقيع مذكرات التفاهم دون التنفيذ هي قصة إيرانية طويلة ومستمرة سواء مع روسيا أو الصين أو حتى سوريا”.
وعلى سبيل المثال هناك مذكرة تفاهم مع روسيا بشان الاستثمار بـ40 مليار دولار في تطوير حقول النفط والغاز تم توقيعها العام الماضي، ولم يتم تنفيذ أي خطوة على الأرض.
وعليه، ووفق الباحث “فإن مذكرات التفاهم مع سوريا اتخذت المجرى نفسه”.
ويضيف أن “هناك أسئلة داخلية من الشعب ومن النخبة السياسية عن عائدات التدخل في سوريا، ولذلك يجري تكثيف الجهود لإظهار بأن الفاتورة قد تتم إعادة تحصيلها عبر استثمارات في سوريا”.
ويرى الباحث الاقتصادي السوري، الدكتور كرم شعار “محاولة حثيثة من جانب إيران لزيادة حصتها في سوريا”، وأن هذا المشهد انعكس على مدى السنوات الماضية.
ويقول شعار لموقع “الحرة” إن معضلة عدم التنفيذ ترتبط بـ”محاولة رئيس النظام السوري التملص من الاتفاقيات لآخر لحظة”، مضيفا أن “الأسد يريد الدعم دون أن يقدم أي تنازلات اقتصادية كبيرة، وبالذات في مجالات سيادية”.
“ضغوط إيرانية”
وفي يناير العام الحالي، أفادت صحيفة “وول ستريت جورنال” بأن مسؤولين إيرانيين أبلغوا النظام السوري بأنه يتعين عليه دفع المزيد مقابل شحنات النفط الإضافية مما سيزيد السعر إلى مثلي سعر السوق الذي يصل إلى أكثر من 70 دولارا للبرميل.
ونقلت الصحيفة عن أشخاص مطلعين على الأمر قولهم إن إيران رفضت أيضا تسليم شحنات جديدة بالدفع المؤجل، وطلبت من النظام الدفع مقدما مقابل إمدادات النفط الجديدة.
وقبل ذلك، في يونيو العام الماضي، قالت رئيسة موظفي منظمة “متحدون ضد إيران النووية” المعارضة إن سوريا ثانية وجهات النفط الإيراني.
وبلغت قيمة شحنات النفط خلال مايو 2022، وفق أسعار النفط حينها، نحو 400 مليون دولار، دون أن يكون واضحا ما إذا كانت حكومة النظام السوري ستسدد قيمة هذه الشحنات أم لا.
ووفق الباحث شعار “بدأت إيران تضغط على النظام السوري مؤخرا، ولم تعد تعامله معاملة الشريك، بل كجهة تحاول التهرب من الالتزامات”، وهو عكسته التقارير الغربية المذكورة سابقا.
ويشير إلى أنه ورغم وجود استثمارات إيرانية متزايدة في سوريا، وأخرى تنتظر على الأبواب إلا أن طهران “أنفقت الكثير مما باتت تحصله اقتصاديا في الوقت الحالي”.
ومثّل اندلاع الحرب السورية في 2012، فرصة لإيران لزيادة نفوذها في سوريا، وكان هذا مدفوعا بأهمية سوريا الاستراتيجية، ودورها في ضمان استمرارية الممر البري من طهران إلى بيروت، ووصولها إلى المياه الدافئة لشواطئ البحر الأبيض المتوسط.
وفي مايو 2020، وفي تصريح هو الأول من نوعه، قال النائب حشمت الله فلاحت بيشه، من لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية إن بلاده أنفقت ما بين 20 و30 مليار دولار في سوريا لدعم بشار الأسد، مضيفا: “يجب على إيران أن تستعيد هذه الأموال”.
ويشير موقع “iranwire” إلى أن أحد أهم نفقات إيران في سوريا هو تسليم النفط والمنتجات النفطية إلى قوات الأسد، ويتم ذلك في إطار “حد ائتماني” فتحته إيران لسوريا.
ويتراوح هذا الحد، بحسب وسائل إعلام إيرانية، بين 2-3 مليار دولار في السنة، مع منح حد ائتماني إجمالي يصل إلى 6 مليارات دولار في السنة، بما في ذلك الإمدادات الغذائية والطبية، التي حددها وزير الخارجية الإيراني السابق، محمد جواد ظريف بنحو 2.5 مليار دولار في السنة.
من المستفيد؟
تقود معظم تصريحات المسؤولين الإيرانيين إلى أن الاستثمارات المتعلقة بسوريا ترتبط على بالقطاع الخاص على نحو أكبر من السيادي.
ويعود ما سبق، بحسب الباحث البازي، إلى أن “أغلب الشركات والمستثمرين الإيرانيين ينتمون إلى القطاع الخاص، بينما يعمل القطاع الحكومي الإيراني في صناعة الفولاذ والبتروكمياويات وقطاع النفط”.
ومع ذلك فإن “كبار المستثمرين الإيرانيين ينتمون إلى الطبقة الحاكمة أو لديهم علاقات معها أو يحصلون على امتيازات حكومية، مقابل تقديم جزء من الأرباح إلى الحكومة”.
ويوضح الباحث أن “الاستثمارات التي أشار إليها وزير الطرق الإيراني خلال لقائه المسؤولين السوريين مرتبطة بشكل مباشر بالمواطن السوري”.
ويعني ذلك أن “إيران تبحث عن عائدات مباشرة يتم تأمينها من قبل المواطن، وعليه فقد جاءت الاتفاقيات الموقعة ضمن إلغاء التعرفات الجمركية وتشغيل مشغل اتصالات ثالث وتسهيل النقل البحري للبضائع، وكذلك تسهيل انتقال السيارات الإيرانية إلى السوق السورية”.
وقد تشهد سوريا افتتاح مصانع لتصنيع السيارات الإيرانية في سوريا، أما الاستثمارات المتعلقة بالدولة السورية فقد أشار إليها بازارباش بشكل مختصر ومبهم، في إشارة إلى قطاع النفط.
ويعود ذلك، وفق الباحث البازي، إلى حقيقة أنه رغم حاجة إيران إلى فتح أسواق جديدة لتصدير النفط، إلا أن غياب السيولة النقدية بالعملة الأجنبية لدى الحكومة السورية يجعل هذا القطاع غير مؤهل للتطوير، أو التعامل بشكل أكبر.
وعلى العكس “تقوم إيران بمحاولة فرض الاستقرار في دير الزور للسيطرة على حقول النفط السورية وتشغيلها وإعادتها إلى الخدمة كي لا تصدر نفط مجاني إلى سوريا”، وفق المتحدث.
ويوضح الباحث السوري شعار أن “إيران تتعامل مع سوريا بعقلية الحصول على أي تنازل، ورغم أن استثماراتها صغيرة إلا أنها تريد الاستفادة على النحو الممكن”.
وكانت روسيا قد حصّلت استثمارات أكبر قياسا بإيران، لأن موسكو تمكنت من الضغط على النظام السوري بشكل أقسى.
وفي المقابل “اتجه النظام للعب بصورة مختلفة مع الجانب الإيراني، من خلال تأسيسه للجان وهيئات وغرف تعاون مشتركة”.
ومع ذلك، يقول الباحث شعار إن “المسار السوري الإيراني المذكور باتجاه التغيّر”، وإن “طهران تستوعب أنها بصدد الضغط على النظام السوري من أجل إجباره على تقديم تنازلات حقيقية”.
واعتبر أن “إعطاء مشغل ثالث في سوريا لشركة تتبع للحرس الثوري الإيراني يمثل خطرا أمنيا حقيقيا”، وأن “النظام السوري يتعامل مع الاستثمارات السيادية وغير السيادية بصورة مماثلة”.
“عقبات من الخارج”
وتنشط إيران في مختلف القطاعات الاقتصادية بسوريا، وكانت ركّزت مؤخرا على ضرورة دخولها في الأسواق السورية.
وسبق أن ذكرت وسائل الإعلام السورية الرسمية أن وفدا من مؤسسة “إتكا” الإيرانية أجرى سلسلة جولات للأسواق السورية، في مسعى لتوقيع اتفاقيات وشراكات تبادل تجاري.
وتتبع “إتكا” لوزارة الدفاع الإيرانية، ويديرها عيسى رضائي، وهو مدير مخضرم للشركات التي يملكها “الحرس الثوري” الإيراني، بحسب تقارير لوسائل إعلام أجنبية.
وفي غضون ذلك لطالما ردد المسؤولون الإيرانيون نيتهم تأسيس بنك مشترك في سوريا، وعادوا ليعلنوا في أثناء زيارة المقداد عن قرب تنفيذ هذه الخطوة على الأرض.
ويأتي “افتتاح بنك إيراني في سوريا نتيجة ضعف البنوك السورية، وفقدان البنية التحتية المصرفية في سوريا”.
ويوضح الباحث في الشؤون الإيرانية، البازي، أنه “وفي حال دخلت إيران إلى القطاع المصرفي السوري قد نشهد ركود في عمل البنوك السورية غير المؤهلة، لأن الإيرانيين لديهم خبرة طويلة في تجهيز منظومة بنكية على طول البلاد”.
و”قد يتم استغلال البنوك بين إيران وسوريا للالتفاف على العقوبات ومحاولة إخفاء مصادر الأموال وطريقة نقلها”، حسب الباحث.
لكنه، في المقابل، يشير إلى وجود عقبات حقيقية في تفعيل الخطط الاقتصادية مع سوريا، إحداها تتعلق بعدم رغبة العراق بفتح خط ترانزيت بري بين إيران والعراق وسوريا”.
ويأتي هذا الرفض “برغبة عراقية بتفعيل خطوط بديلة كخط الفاو، الذي يربط الإمارات بتركيا عبر العراق”، وكذلك الضغوط الأميركية على بغداد.
ولذلك فإن “نقل البضائع مكلف وطويل للغاية، ولذلك فقد تم إلغاء التعرفات الجمركية”، خلال الزيارة التي أجراها المقداد.
وبالإضافة إلى ذلك، هناك صعوبات تتعلق بقانون قيصر والعقوبات المفروضة على إيران، وقد تعمل الحكومتين على تفاديهما عبر النظام المصرفي المذكور.
ويقول البازي: “هذه العوائق تجعل تنفيذ الاتفاقيات أمرا صعبا، ولكن ضرورة تحصيل فاتورة التدخل وضرورة تفادي العقوبات قد تدفع الطرفين إلى بذل الجهود للتنفيذ”.
المصدر: الحرة .نت