في لقاء حواري مؤخراً، افتتح أحد الشبان/ الكهول السوريين كلامه بالقول إن هنالك سؤالاً يحتل عقول السوريين جميعاً، ويستمرون بتجاهله علناً وأمام أنفسهم: هل زالت سوريا وانتهت تماماً؟ هل ما زال ممكناً أن تعود؟
وفي اتصال مع الداخل السوري، عن طريق الإنترنت؛ لأنهم هناك عاجزون بشكل مطلق عن تغطية كلفة الاتصال الهاتفي؛ قالت أم اعتادت قديماً على أن تكتفي بعملها لتعيل عائلتها، ولو بأكثر من عمل، وهي تشهق ببكاءٍ يخطف القلب: لم أعد أستطيع الاستمرار نهائياً، راتبي مع راتب ولدي الشابين ثلاثمئة ألف ليرة سوري، إيجار البيت مليون ليرة، وتتطلب المعيشة بالحد الأدنى ثلاثة ملايين أخرى؛ والدولار الذي يُسعر كل شيء عن طريق قيمته، أصبح يساوي حوالي أربع عشرة ألف ليرة سورية.. خسرت الليرة أكثر من نصف قيمتها خلال ثلاثين يوماً في الشهر الماضي، وتستمر بالهبوط بشكل لولبي.
ويعقد «مجلس الشعب» في دمشق حالياً دورة استثنائية لدراسة هذا الوضع، والناس لا تنتظر منهم حلاً، لأن ذلك المجلس عاجز عن إقرار شيء.. يصلح واجهة لتبرير المزيد من تدهور الأوضاع، ولتحمل المسؤولية بدلاً من صاحب المسؤولية وطغمته، وحالياً، ما يريده النظام السوري في دمشق واضح لا لبس فيه: إلغاء العقوبات التي يقول – بصوت أصبح خفيضاً مؤخراً – إنها سبب هذه الحالة، والدخول مباشرة في عملية إعادة الإعمار، وتسليمه ملف اللاجئين بأكمله، وعزل المعارضة الخارجية، وإطلاق يده باستخدام البلاد دكاناً ومعمل تصنيع للمخدرات وقاعدة للتجارة فيها، لكنه يريد أولاً وفي جوهر الأمر مرور كل أموال المساعدات الإنسانية عن طريق جيوب النظام والعائلة. نتجت عن تلك الخواطر المرتجلة «ممانعة» روسية لصدور قرار من مجلس الأمن باستئناف توريد المساعدات من معابر خارجية في العاشر والحادي عشر من يوليو تموز الماضي، بالتوازي مع مجريات مؤتمر بروكسل السابع لدعم مستقبل سوريا والمنطقة، في وقت وصلت فيه الاحتياجات الإنسانية في سوريا إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق بعد أكثر من 12عاما من الخراب، وفي أعقاب الزلازل المدمرة التي ضربت المنطقة في فبراير/شباط. في هذا العام 2023، هناك 15.30 مليون سوري يحتاج إلى مساعدات إنسانية. وكانت الأمم المتحدة وشركاؤها يأملون في تمديد التفويض لمدة 12 شهرا لنقل المساعدات عبر معبر باب الهوى لأربعة ملايين شخص في شمال غرب سوريا، لكنه بقي مغلقاً عنيداً منعدم الشعور كجدران الكرملين. منذ سنوات يعمل المجتمع الدولي على عدة جبهات في تعامله مع المسألة السورية، من خلال عدة مفاهيم مختلفة لمثل هذه الحالة: الإغاثة، وتدعيم الاستقرار، والتعافي المبكر، وإعادة البناء، وبمثل هذا الترتيب عملياً، رغم تداخل تنفيذ تلك العمليات فعلياً. لا يرى النظام ولا روسيا ولا إيران إلا إعادة البناء، لأنها البقرة الحلوب الكبرى التي ينتظرونها بفارغ الصبر منذ أحدثوا ذلك الدمار وكرسوه، بعد الحرب العالمية الأخيرة، كان هناك بلد واحد في العالم قادر على تمويل إعادة البناء، وقد فعلت الولايات المتحدة ذلك من خلال مشروع مارشال، الذي خطط ونفذ إعادة أوروبا المدمرة إلى الحياة. بعد ذلك بزمن، انضمت أوروبا نفسها إلى الولايات المتحدة، كمصدر محتمل لإعادة بناء أي بقعة في الأرض. إعادة بناء سوريا مشروع تٌقدر كلفته بأكثر من نصف تريليون دولار، الأمر الذي يستميت من أجله النظام والروس والإيرانيون وغيرهم.
أمام تلك الاستماتة، يقف الأمريكيون والأوروبيون موقفاً لا يتزحزح – حتى الآن- قائلين إن إعادة الإعمار لن تبدأ إلا مع الدخول في التسوية السياسية، حسب القرارات الدولية، تلك التسوية تعني للطرف الآخر الانتقال أو التغيير السياسي، الأمر المعاكس على طول الخط لما يحلمون به ويضغطون من أجله، رغم ذلك، يرى هذا الطرف في المساعدات الإنسانية ـ الإغاثة – إمكانياتٍ معقولة لتأمين وقوده اليومي. وحتى يقبض عليها، ويقبض منها، لا بد من أن تمر كلها عن طريقه، ليستطيع تقطيعها وتسريبها من خلال أقنيته الفاسدة. من جهة أخرى يكون له دور عندئذ في خدمة عمليات الأمم المتحدة، والاستفادة من توظيفاتها ونفقاتها، وتصريف عملاتها، إنه يصر على إلغاء المعابر الحدودية الخارجة عن سلطته، ومرور مساعدات تلك المناطق من خلال معابره، حتى تكون له يدٌ عليا تفتح وتغلق، ويدٌ أخرى في جيوب الطرف المقابل. لم يخرج سلوك النظام عن ذلك النَسَق، حتى عند كارثة الزلزال الكبرى في 6 فبراير الماضي، بتلكؤه وفوضاه ومحسوبية شغله في الإغاثة أولاً، ثم في آليات استثماره للمساعدات السخية التي جاءت من أطراف مختلفة كان بعضها مقاطعاً له تماماً.
الحلقة الأعلى من المساعدات تتعلق بالتعافي المبكر الذي يلتبس أحياناً كثيرة، فقد توصل مؤتمر بروكسل السادس 2022، إلى توافق على رفع مستوى المساعدات إلى حيث تسهم في التعافي المبكر، على ألا ترقى بالطبع إلى مستوى إعادة الإعمار. يمكن إصلاح محطات المياه مثلاً بدلاً من إرسال شحنات المياه إلى المحتاجين؛ ويمكن تجديد وتحسين المراكز الصحية بدلاً من إرسال الفرق الطبية المؤقتة أو المستمرة؛ ويمكن ترميم الطرق الموجودة بدلاً من الالتفاف عليها في عمليات الانتقال والنقل؛ وترميم المدارس لوقف نزيف الأطفال من فضاء التعليم؛ ويمكن تطوير حوكمة المناطق بدلاً من توظيف كوادر هائلة الحجم لخدمة وإدارة العمليات؛ ويمكن إعادة دمج النازحين – نسبياً- وتحسين ظروفهم المعيشية وطريقة سكنهم بدلاً من استمرارهم في الخيام؛ وعلى هذا المنوال. التعافي المبكر مفهوم ومصطلح انتقالي غير محدد تماماً، يختلط من أدناه مع المساعدات الإغاثية، ومن أقصاه مع إعادة الإعمار. هو طريقة تجمع الأعمال والخطط التي تحدث في سياق انتقالي غير ثابت، يمنع كارثة قد تتسرب بهدوء من خلال مرور الزمن واستدامة الحال المؤقتة. تلك اللغة المغرية في مصطلح «التعافي المبكر» تساعد على تسويق خطته وتمريرها، على الرغم من وجود مخاطرة باستدامته، أو الاستعاضة به عن إعادة الإعمار لاحقاً، وبقوة الأمر الواقع. تبدأ دراسات التعافي المبكر أصولاً منذ بدايات النزاع، وربما قبلها أحياناً؛ في حين لا يمكن تخطيط وتقويم عمليات إعادة البناء، إلا حين يبدو النزاع وكأنه قد استعصى على المفاجآت الكبيرة، يختلف الأمر بين خطة تستهدف إعادة إعمار تكلف بضعة مليارات من الدولارات مثلاً، وأخرى تكلف تريليونا! حين يقول الغرب إنه لن يساعد في إعادة الإعمار ما لم تكن هنالك خطى عملية لا رجوع عنها باتجاه الانتقال السياسي، يقال إن هنالك تسييساً للعمل الإنساني، وحين يقوم بين فترة وأخرى لتعزيز عقوباته على النظام وشخصياته، يقال إن هنالك عقوبة جَمعية تشمل الشعب السوري وتزيد من آلامه وصعوباته المعيشية. ورد في صحيفة» الوطن» التابعة للنظام السوري، تعليقاً على مناقشات مجلس الأمن العقيمة مؤخراً، وتحت تأثير مؤتمر بروكسل السابع وتوجهاته، أن الغرب يستخدم الملف الإنساني في وجه «الدولة السورية» لإثبات عدم شرعيتها أو سيادتها، وأن قرار دمشق بالسماح للأمم المتحدة ومنظماتها باستعمال معبر باب الهوى لإيصال المساعدات لمدة ستة أشهر قد حسم الأمر، وكشف الوجه الحقيقي للغرب. وكان مشروع القرار الروسي الذي طُرح قبل ذلك بأيام في مجلس الأمن في وجه المشروع المعتدل الذي طرحته الدول الأخرى، بالمصادفة يدعو أيضاً إلى فتح المعبر لستة أشهر، وعندما واجهت أغلبية المجلس ذلك المشروع بالرفض، عادت روسيا لتنفذه من خلال توجيه إلى سلطات الأسد لتمرير القرار بطريقة ملتوية ومكشوفة.
في أعراف السلطات السورية والروسية، هنالك تسييس دولي للمساعدات ولموضوع اللاجئين وللعقوبات.. وفي أعراف الإنسانية وتاريخها، لا يمكن القول لهما «يداك أوكتا وفُوك نَفَخ»، لأن من يكتوي بالنار بفعل أيدي الطغاة وداعميهم ونيرانهم هم السوريون، أيتام الزمن الأخير. عودة اللاجئين ليست صعبة، ولا مساعدة الشعب السوري، ولا البدء بإعادة الإعمار.. لا تحتاج كلها إلا إلى إنهاء الاستبداد أولاً – ابتداءً من رحيل رجل واحد – لتقلع الورشة الكبرى بإزالة الأنقاض!
كاتب سوري
المصدر: القدس العربي