منذ سنة ونيّف بات الكلام عن الفيدراليّة حدثاً يوميّاً في لبنان. لكنْ كائناً ما كان الموقف منها، فإنّ معظم الذين ناقشوها ناقشوا شيئاً آخر. هكذا قُرنت بالتقسيم، وهي تعريفاً ليست كذلك، وعلى جاري العادة نُسبت إلى «المؤامرة» الشهيرة التي لا تكلّ ولا تتعب.
ما يُسجّل للفيدراليّين، على عكس باقي الجماعات السياسيّة في لبنان، أمران: أنّهم قالوا إنّ ثمّة عطباً عميقاً وبنيويّاً في التركيب المركزيّ اللبنانيّ، وهو ما نراه بأمّ العين على الأصعدة جميعاً، وأنّهم قدّموا بديلهم عن ذاك الكائن الذي يموت، وتكريمُ الميّت، كما نعلم، دفنه.
الذين يهاجمون الفيدراليّين هم، ما خلا استثناءات قليلة، كمثل من يحبّ النوم مع جثّة. لهذا نراهم ينكرون الموت والتحلّل بألسنة سياسيّة كثيرة. وفي هذا الصفّ يقف عبّاد الأوطان والوحدات ممّن يعطونها الأولويّة على البشر وإرادتهم وحرّيّاتهم، مردّدين أناشيد مضجرة تعود إلى القرن التاسع عشر، ويقف النوستالجيّون الذين يرون أنّ الماضي أفضل مستقبل، ويقف العاجزون المُستكينون الذين يخافون أن تؤدّي إعادة النظر بالتركيبة الحاليّة إلى تركهم وحيدين في مواجهة مكروهيهم، من دون أن يحرّكوا ساكناً، كما يقف الموهومون بأنّ معالجة النتائج في تركيبة النظام أو في اقتصاده أو ثقافته، هي معالجة كافية للأسباب. لكنْ إلى هؤلاء جميعاً يقف في الصفّ نفسه الخبثاء، وهم وحدهم القادرون على الإفادة من سياسة الإنكار التي يعتمدها الأبرياء. والخبثاء هؤلاء ذوو لغة برأسين، رأس معلن مفاده الحفاظ على لبنان إيّاه، ورأس مضمر هو تحويل لبنان كلّه إلى خندق. وهي مهمّة تتطلّب توسيع المظلّة «الوحدويّة» التي تغطّي هذا الخندق المفتوح، بحيث نحميه جميعاً بدل أن يحمينا.
وحدة زائفة
والحقّ أنّ هذه الوحدة الزائفة، التي يئنّ اللبنانيّون تحت وطأتها، ليست حكراً عليهم وحدهم، إذ نعرفها بأسماء وعناوين مختلفة في سائر المشرق العربيّ. فهناك، وفي ظلّ شعارات الوطنيّة والقوميّة والتوحّد ضدّ «العدوّ المصيريّ»، تكشّفت المركزيّة السلطويّة عن قهر لأجزاء واسعة من السكّان وضيق بهم. وما بين حلبجة العراقيّة ودوما السوريّة، اتّخذ القهر والضيق أشكالاً إباديّة صريحة.
لكنْ أسمَّينا البديل فيدراليّة أو أيّ شيء آخر، فالمؤكّد أنّه لا بدّ من التفكير ببديل تُستأنف معه لبنانيّة اللبنانيّين بأكلاف أقلّ وحرّيّات أكثر. ولا بأس، هنا، باستعادة سريعة لبعض ما نعرفه جميعاً ممّا يقطع بأنّ تمادي الانهيار هو الأفق الوحيد المتاح لوحدة «الشعوب» اللبنانيّة: فالدولة تضمر، والمناطق تزداد تباعداً واختلافاً، والجريمة تمضي بلا عقاب، 14 فبراير (شباط) 2005 أو بلا محاكمة ومقاضاة (المرفأ)، والسلاح غير الشرعيّ يستمرّ في حكم البلد فعليّاً وفي جرّه إلى أوضاع لم يُطلب رأي السكّان فيها، ولا يُطلب، والفساد والكارثة الاقتصاديّة ينامان على زند المحاصصة الطائفيّة (المركزيّة) والسلاح غير الشرعيّ. ولئن فشلت في 2019 المحاولة التي شكّلت آخر الآمال بتوليد وطنيّة لبنانيّة جامعة وإنقاذيّة، فإنّ ضعف الاكتراث الدوليّ بلبنان، بل بالمنطقة، يضيف سبباً آخر لليأس من فولكلور «القيامة اللبنانيّة»…
فوق هذا، فالظاهرات المذكورة وسواها تستند إلى خلاف عميق بين مكوّنات البلد حول سائر المنعطفات الكبرى في تاريخه الحديث كما في راهنه: من انهيار السلطنة العثمانيّة وقيام الانتداب الفرنسيّ إلى مقاومة «حزب الله»، وبينهما تأسيس «لبنان الكبير» في 1920 واستقلال 1943 وحرب 1958 والتنازع حول سلاح المقاومة الفلسطينيّة ثمّ حرب 1975 فالاحتلالات التي تلتها، ثمّ اغتيال رفيق الحريري… عند كلّ حدث من تلك الأحداث الضخمة، هناك على الأقلّ تأويلان وذاكرتان واستنتاجان. أمّا سنوات الاستقرار والوفاق اللبنانيّين في الستينات الشهابيّة، التي تطاولت حتّى منتصف عهد شارل حلو، فكانت أثمانها باهظة: من التنازل عن السياسة الخارجيّة لجمال عبد الناصر، إلى إسقاط بعض أبرز الزعامات المارونيّة (كميل شمعون، ريمون إدّه) في انتخابات 1964، (تماماً كما أسقط كميل شمعون في 1957 بعض أبرز الزعامات المسلمة)، ومن غضّ النظر عن اغتيال الصحافيّ كامل مروّة إلى قضم «المكتب الثاني» بعض الحرّيّات العامّة والخاصّة. وفي النهاية كوفئت الشهابيّة بأن دقّ صعود المقاومة الفلسطينيّة المسمار الأخير في نعشها.
إنّ خلافاً بهذا الحجم، وهذا العمق، وهذا الامتداد في الزمن، ليس تعدّديّة تنطوي على مصدر للغنى. إنّه، بمحموله الدمويّ، صراع ضارٍ ومصدر لحروب لا تنضب. وفي الحساب الأخير، يحقّ لأيّة مجموعة من السكّان أن تعلن رأيها في أحوالها وفي تصوّرها لمستقبلها. أمّا الموقف الطبيعيّ والسويّ لمن يرى شخصين متقاتلين فأن يسعى إلى الفصل بينهما وإبعاد واحدهما، ولو قليلاً، عن الآخر.
مع هذا كان يمكن لرافضي الفيدراليّة أن يحدّوا من وهجها على المسيحيّين لو فعلوا شيئاً يخدم هدفهم: لو فرزت الطائفة الشيعيّة كتلة وازنة ترفض «حزب الله»، أو لو اعتمدت الطائفة السنّيّة مواقف صلبة وعريضة في مواجهته. لا هذا حصل ولا ذاك، بحيث بتنا أقرب إلى زواج قهريّ تُعنَّف فيه الزوجة ويعلو صراخها الذي لا يُستخدَم إلاّ مُستَمسكاً ضدّها: أنتِ تهدمين البيت الزوجيّ السعيد!
استعجال إرادويّ وهويّة مغلقة
يبقى أنّ الانحياز الذي تعبّر عنه هذه الأسطر إلى كسر وحدة ميّتة، لا يعفي من تناول القائلين بكسرها، بالاستراتيجيّات التي يطوّرونها وبالقيم التي يحملونها، وتالياً بالاحتمالات التي يفتحونها لأنفسهم قبل سواهم، وهذا ما يستدعي كلاماً آخر.
فإذا كانت الدعوة إلى مغادرة الوحدة الحاليّة بنظامها المركزيّ مفهومة ومبرّرة، فهذا ما يرافقه شعور بغَصّة مبعثُها الإقرار بفشلنا في بناء وطن تُحفظ فيه الحرّيّات والتعدّد. فالأمر بالتالي عمليّ أكثر منه مناسبة انتصاريّة، واضطراريٌّ أملاه انسداد الواقع الوحدويّ وتصدّعه ممّا تتعدّد المسؤوليّات عنه.
والحال أنّ الإقرار بضرورة كسر تلك الوحدة يعقّد المسائل أكثر ممّا يبسّطها. فالقول إنّ الوحدة الراهنة باتت حلّاً مستحيلاً لا يعني بالضرورة أنّ بديلها المطروح حلّ سهل.
ولا بدّ، بادىء بدء، من توضيح أساسيّ يعرفه المتابعون: إنّ الفيدراليّة بذاتها لا تتناول لبّ النزاعات اللبنانيّة – اللبنانيّة، ممّا يتّصل بالسياسات الخارجيّة والدفاعيّة. وهذا ما يجعل علاجيّة الاقتراح الفيدراليّ مرهونة بمزاوجته مع مبدأ الحياد، وهو ما يبدو أنّ الفيدراليّين، أو بعضهم، على بيّنة منه إذ جمعوا المطلبين، على نحو أو آخر، في دعوة واحدة.
ومن جهة أخرى، سيبقى أمراً مطروحاً على التفكير التغلّبُ على فسيفساء التفتّت اللبنانيّ الهائل ممّا لا يذلّله القول المريح، والصحيح، من أنّ الفيدراليّة مصنوعة لحالات الاختلاف. ذاك أنّ صيغة كاتّفاقيّتي واشنطن ودايتون مثلاً (اللتين حاولتا بصعوبة ضبط التفتّت البوسنيّ وإعادة صياغته فيدراليّاً) ستبدوان فقيرتين جدّاً وعاجزتين أمام درجة التداخل الهائل في المناطق اللبنانيّة.
في المقابل، وما دامت المشاريع الفيدراليّة المطروحة تعامل اللبنانيّين بوصفهم مساوين آليّين لولادتهم في طائفة ما، ولحملهم ثقافتها الفرعيّة، فهذا ما يثير المخاوف المشروعة من الفلسفة التي تسند هذه المشاريع. ذاك أنّها لا تأخذ بتاتاً في اعتبارها وجود من لا يريدون أن يكونوا أبناء طوائفهم، ولا أن يعبّروا عن ثقافتها. وأبعد من ذلك هنا أنّ ما هو حتميّ ومسبق يُعدمان كلّ ما هو اختيار حرّ للأفراد. وهذه، بطبيعة الحال، نظرة خطيرة يصعب نعتها بالحرّيّة والليبراليّة والتقدّم. ولسوف يكون من المشكوك فيه أن تستطيع التراكيب الفيدراليّة، ما دامت تعبّر عن هويّات طائفيّة حصريّة، احتضان سياسات تحرّريّة وعلمانيّة تُنكرها المؤسّسات الطائفيّة التي تشكّل تلك الهويّات المياه الملائمة لسباحة أسماكها.
وبعيداً من الروحيّة الابتزازيّة التي يقول أصحابها إنّ الكيان الفيدراليّ لا يعصم من نزاعات مذهبيّة ومناطقيّة داخله، فاحتمال كهذا ينبغي التعامل معه بجدّ بعد تخليصه من الروحيّة الابتزازيّة. فنظام القرابة العصبيّ الموسّع ليس حكراً على جماعة دون أخرى، ويُخشى أن يتأدّى عن ردّ العالم إلى مجرّد هويّات دينيّة تخصيب هذه الأخيرة بهويّات مذهبيّة ومناطقيّة قد لا يكون ضبطها سهلاً دائماً.
أمّا إيراد هذه التحفّظات فليس هدفه التيئيس والإحباط، إنّما الهدف التنبيه إلى خطورة إطلاق عفاريت الهويّة المطلقة والمغلقة. وتنبيهٌ كهذا إنّما يستند إلى مسوّغ آخر: فأغلب الظنّ أنّ ما من فيدراليّ يتوهّم أنّه بالعنف، والعنف كريه بذاته، يحرز أيّاً من الفيدراليّة والحياد، ناهيك عن إحرازهما معاً. وهذا ما يفرض على حركة الفيدراليّين وعلى خطابهم أن يكونا دقيقين ومرِنين، أكثر سياسيّة وإنصاتاً إلى توازنات القوى، وهو ما لا يُبدونه دائماً. ويُخشى، هنا، بدل المرونة، وهْم التعويض عن نقص الشروط الموضوعيّة بتعويل مبالغ فيه على الإرادويّة وما تستجرّه من فولكلوريّات الهويّة.
فما دام أنّ مطلب الفيدراليّين لا يتحقّق بمحض الإرادة الذاتيّة لصاحب المطلب، وما دام أنّ موافقة أكثر من طرف عليه شرط قاهر لوضعه موضع التنفيذ، بات لا بدّ من مخاطبتين لا تحظيان اليوم بعناية الفيدراليّين المطلوبة: واحدة تستهدف القوى الخارجيّة المؤثّرة في محاولة مُلحّة ومنتظمة لإقناعها بالفيدراليّة والحياد للبنان، والأخرى تستهدف المسلمين الناشطين في الرأي العامّ ممّن يجمعهم بالفيدراليّين حدّ معقول من الاتّفاق، ولو كانوا متحفّظين على الفيدراليّة نفسها. وما يضاعف أهميّة البند الأخير أنّ القوى الخارجيّة المؤثّرة تُبدي، في الوقت الراهن، نقصاً ملحوظاً في الاهتمام وتراجعاً في التأثير.
هكذا فمحاورة هذه البيئات المسلمة، التي لا تربطها إلاّ الخصومة بـ»حزب الله»، وكائناً ما كان ضعفها الراهن، مهمّةٌ لا بدّ منها في سياق عمليّة تأتي متواصلةً ومتصاعدةً لتوسيع قاعدة الأصدقاء وبناء قاعدة متفهّمة عريضة. فالذي لا يستطيع التفاهم مع هؤلاء، ومعظمهم شركاء سابقون في 14 مارس (آذار) ثمّ في 17 أكتوبر (تشرين الأول)، لن يستطيع التفاهم مع أيّ مسلم، ما لا يترك عمليّاً سوى الحرب وسيلةً للتبادل.
وإذا كان التعويل على العصبيّة المغلقة والمطلقة مدخلاً إلى استفزاز حلفاء محتملين، فإنّ التعويل على القيم مدخل لتطوير الحوار معهم. ذاك أنّ الفيدراليّة والحياد لا ينبغي تحويلهما بديلاً عن مواقف لا يكاد يُسمع للفيدراليّين صوت بشأنها، كالمصالح والحرّيّات والعدالة وما يتعلّق بالعنصريّة أو بالمساواة الجندريّة.
وإذ يزكّي هذا التمركزُ حول «التناقض الرئيسيّ»، بل «التناقض الأوحد»، مبدأ الهويّة المطلقة، فإنّه يهدّد، حتّى لو لم يُرد الفيدراليّون ذلك، بتحويلهم فصيلاً آخر من فصائل اليمين الشعبويّ الرومنطيقيّ المتطرّف، فصيلاً يقرن صرخاته الريفيّة حول «جبلنا» و»صليبنا» و»أجراس كنائسنا» بصورة قديمة، دينيّة وكولونياليّة، عن الغرب و»الحضارة».
ومثل هذا الخطاب لا ينفّر ويستفزّ لبنانيّين كثيرين فحسب، بعضُهم يمكن، ببعض الجهد، كسبه صديقاً متفهّماً لدعوة الحياد والفيدراليّة، بل هو أيضاً منفّر ومستفزّ للعالم العربيّ الذي يرتبط مستقبل لبنان الاقتصاديّ، فيدراليّاً كان أم غير فيدراليّ، بعلاقات جيّدة معه ومع أسواقه، كما يستفزّ قطاعات غربيّة عريضة ومؤثّرة لم يعد الخطاب الدينيّ والكولونياليّ القديم يخاطبها.
لهذا لن يكون مفيداً، فضلاً عن ضعفه الأخلاقيّ، ترداد لازمة: «هذه أمور لا تعنينا». فكلّ مسائل الحقوق والحرّيّات تعني المنشغل بالشأن العامّ، خصوصاً في بلد كلبنان تحكم عليه جغرافيّته بتأثيرات الخارج. ولئن بدا مفهوماً رفض استخدام الموضوع الفلسطينيّ (أو السوريّ أو الأرمنيّ…) لزجّ لبنان في صراعات مسلّحة، فإنّ المواضيع هذه «تعنينا» جميعاً. لا بل يمكن لمُركَّب الفيدراليّة والحياد أن يدشّن حالة قيميّة جديدة تنطوي على طريقة خاصّة في التعامل مع تلك المسائل والحقوق.
وقد يقول فيدراليّ متحمّس إنّ تلك أمور من طبيعة كماليّة، والوفاء بها يستغرق مرحلة زمنيّة أطول، فيما الوضع قاهر يحكمه تمدّد «حزب الله» وتوالي الكوارث وتنامي هجرة المسيحيّين، على غرار ما هو حاصل في لبنان كما في سائر المشرق العربيّ. لهذا، ومنعاً للأسوأ، تكفينا الإرادة الذاتيّة وتعبئة جمهورنا الطائفيّ. لكنْ ألم يكن هذا التغليب الإرادويّ ما حكمَ السياسة في العقود الماضية، وما واكب تحوّلها إلى حروب سبّبت الموت والهجرة والتهجير والاحتلال؟
أغلب الظنّ أنّنا، كأحد الشعوب الملعونة، محكومون للأسف بالخطى البطيئة. وهذا سيّء ومؤلم بما فيه الكفاية، لكنّ أيّة سرعة تكرّر سرعات الماضي ستكون أسوأ وأشدّ إيلاماً.
المصدر: الشرق الأوسط