من أوسلو إلى جنين: دعوة إلى حل اللادولة‏

نِكي‏ ‏ريد*         ترجمة: علاء الدين أبو زينة

‏الضفة الغربية تحترق مرة أخرى. وفي الواقع، لم تتوقف رقعة الرمال هذه عن الاحتراق منذ أن اختطف بنيامين نتنياهو الكنيست في أواخر العام الماضي. وفي غضون سبعة أشهر، استولى رجل العصابات الوقح هذا على النكبة التي تديمها إسرائيل منذ سبعة عقود، ودفعها إلى منطقة الإبادة الجماعية باطراد. وقد قُتل 190 فلسطينيًا، 174 منهم في النصف الأول من العام 2023 وحده. ونفذ الجستابو المسلح أميركياً في جيش الدفاع الإسرائيلي غارات شبه يومية في الضفة الغربية، بينما قابلته حشود الرعاع دائمة الانتفاخ من المستوطنين غير الشرعيين الفاشيين علنًا بمذابحها الفظيعة الخاصة، وأحرقت قرى فلسطينية بأكملها وسوتها بالأرض.‏

كانت هذه الموجة الأخيرة من الوحشية كلها جزءًا من صفقة فاوستية أبرمها “بيبي” مع اليمين المتطرف الصاعد في إسرائيل. وطالما ظل هذا الائتلاف من العنصريين الدينيين والتفوقيين اليهود يوافقون على إبقاء سوأة “بيبي” بعيدة عن الانتقادات، فإنه سيكون أكثر من سعيد بتسليمهم ما تبقى من الضفة الغربية على طبق. وقد اتضح ذلك بشكل صارخ مع وعد “بيبي” بتوسيع المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية بمقدار 13.000 منزل جديد، وقراره بأن يلقي إلى وزير ماليته المؤيد للإبادة الجماعية للفلسطينيين علنًا، بتسلئيل سموتريتش، بمفاتيح النكبة بتزويده بجيشه الخاص حسب الطلب في وزارة الدفاع.‏

كانت النتيجة إناء ضغط صافر من العنف المفرط الزاحف، الذي انفجر أخيرًا في جنين هذا الشهر بغارة شنها جيش إسرائيل واستمرت يومين، وشكلت سابقة جديدة للتطهير العرقي في الضفة الغربية، لكنها رفعت أيضًا سقف رفض مواطنيها الفلسطينيين الذين يزدادون يأسًا الترجُّل من دون قتال. على مدى 48 ساعة، انهالت قوة الجيش الإسرائيلي الضخم بكل ثقلها على مخيم اللاجئين الصغير والفقير. وبعد أن اجتاحه أكثر من 2.000 جندي مدججين بالسلاح مع مئات العربات المدرعة، تم تطويق جنين وعزلها تمامًا عن العالم الخارجي، حيث قامت الجرافات بتدمير وطمس كل الطرق المؤدية إلى خارج المخيم، وقوضت قدرته على تزويد مواطنيه بالمياه النظيفة والكهرباء.

‏بين الغارات الجوية التي شنتها طائرات “ريبر” من دون طيار وطائرات “أباتشي” العمودية الحربية، أصدرت مكبرات الصوت التابعة للجيش الإسرائيلي تعليمات إلى السكان المحاصرين بالخروج من منازلهم أو المغامرة بمحوها. واستجاب أكثر من 3.000 مدني من أصل ما يزيد قليلاً على 20.000 نسمة لتحذيرها تحت سحابة عاصفة من الغاز المسيل للدموع. لكن أولئك الذين تبقوا في الخلف كانت لهم الكلمة الأخيرة التي صاغوها في رسالة جريئة مكتوبة بالنار تقول “ابقوا هنا واكتشِفوا”.‏

وقد قُتل 12 فلسطينيًا وجرح أكثر من 100، لكنهم صمدوا في وجه أحد أكثر الجيوش شراسة على وجه الأرض، وبلا شيء أكثر من البنادق البدائية المجيدة وصواريخ الزجاجات. وفي نهاية المطاف، تركوا جيش الدفاع الإسرائيلي المتعثر بشكل ميؤوس منه بلا خيار سوى الانسحاب. وأصبحت مشهدية داود وجالوت هذه أكثر إثارة للدهشة فقط بحقيقة أن المسلحين في هذه الألوية بائسة التسليح كانوا، حرفيًا، من الأطفال؛ فتيانًا مراهقين أمامهم حياة كاملة من القمع ولا شيء ليخسروه سوى الدم والكرب. كان أكبر الضحايا سنًا يبلغ من العمر 23 عامًا، وكان خمسة من القتلى من القاصرين. وتراجعت إسرائيل وقد طوت ذيلها الأحمر المدبب بين ساقيها، ووعدت بالعودة لعمل المزيد، مع إعلان رئيسها أن هذه العملية “مفتوحة النهاية”. وهتف أهدافها من المراهقين الشجعان: “عودوا وسترون”! ملوحين بقبضاتهم المكورة والدماء على جانبيها والعالم المشاهد تعتريه الدهشة.‏

‏كان الشيء الوحيد الأكثر اتساقًا بطريقة بهيجة من فشل إسرائيل في أخذ ضحاياها على محمل الجد في شوارع أحيائهم الخاصة، هو قدرة فلسطين على ركل مؤخرتها اللعينة وأذرعهم مقيدة خلف ظهورهم. ومع ذلك، كان “بيبي” محقًا بشأن شيء واحد على الأقل: أن هذا لم ينته، وأنه لا يوجد سبب للاعتقاد بأنه لن يزداد سوءًا فقط. إذا كانت المحاولة الأخيرة للتطهير العرقي لجنين قد فشلت فشلاً ذريعًا ومشهودًا في كسر الإرادة الحديدية لعدد قليل من الأولاد العرب الغاضبين جدًا، فقد نجحت، للأسف، في إثبات أن الإدارة البغيضة في تاريخ البيت الأبيض ما تزال لا تمنح أي شذرة من الاهتمام لحياة الناس السُّمر الموجودين على الجانب الخطأ من البحر الميت.‏

بعد أن أصدرت إدارة بايدن كل أصوات الضجيج الجبانة المعتادة حول حق “غولوم” الصهيوني غير القابل للتصرف في الدفاع عن نفسه من الغيتوهات المتداعية المليئة بالأيتام، أعلنت وزارة الدفاع الإسرائيلية بفخر عن خططها لشراء 25 طائرة مقاتلة شبح أخرى من طراز (أف-35) من شركة “لوكهيد مارتن” بحلول العام 2027، بمبلغ 3 مليارات دولار من أموال دافعي الضرائب الأميركيين المسروقة بشق الأنفس، والتي ستذهب إلى إسرائيل في شكل مساعدات عسكرية. وبمعنى آخر: أبعِد محفظتك يا “بيبي”، حمامات الدم العشرة التالية علينا.‏

سوف يلقي رفاقي القدامى من أقصى اليسار باللوم في هذا الهولوكوست المستمر على بنيامين نتنياهو وصعود الفاشية الإسرائيلية التي يترأسها مقابل الحصول على عفو عن فساده، ولن يكونوا مخطئين لكنهم سيفوِّتون النقطة. إن التفاصيل الأكثر مأساوية حول هذه المرحلة الجديدة المميتة من النكبة هي أن نتائجها أصبحت حتمية في اليوم الذي تنازل فيه ياسر عرفات عن واجبات الدفاع عن الضفة الغربية لأيتامها البائسين بتوقيعه على اتفاقيات أوسلو في العام 1993. يؤلمني إلى ما لا نهاية أن أعترف بذلك، لكن جذور القنبلة في جنين تشكلت من خلال فتيل تفجير أشعله اتفاق سلام ملتهب يسمى “حل الدولتين”، الذي ما يزال الكثير من الناس الطيبين في اليسار يواصلون تدفئة أيديهم بحماقة على جمر رماده المشتعل.‏

ذات مرة، كان ياسر عرفات كل شيء لدينا. بصفته الزعيم الشجاع لمنظمة التحرير الفلسطينية الذي يرتدي الكوفية، كان مثل تشي غيفارا والمهاتما غاندي ممتزجين في تكوين رائع واحد مدهش. وبعد عقود من ضرب مؤخرة إسرائيل بالعصا بأعمال ثورية جريئة في كل قارة تقريبًا على وجه الأرض، غير عرفات التروس وقاد حملة جريئة بالمقدار نفسه باستغلال رصيده في الشارع، لتقاسم الخبز مع أعدائه مقابل دولة فلسطينية ذات سيادة. وفي العام 1993، أدت جهوده إلى اتفاق تاريخي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، إسحاق رابين، كان من المفترض أن يتم بموجبه التفاوض على تسوية لحل دولتين مع إنشاء كيان وطني فلسطيني على الأرض التي تحتلها إسرائيل منذ العام 1967.‏

‏‏وقد ابتهج العالم الغربي. لكن فلسطين حزنت على ما بدا مثل جائزة ترضية رخيصة عن تعرضها للاغتصاب يعطيها فائز. وسوف يطلق إدوارد سعيد على اتفاقات أوسلو وصفه الشهير لها بأنها “فرساي فلسطين”، لكنها في الواقع كانت أسوأ بكثير. على الرغم من كل طموحاته النبيلة وجهوده الدؤوبة، فإن الشيء الوحيد الذي حققه ياسر عرفات حقًا من تلك الصفقة التاريخية المفترضة كان تحويل حركة ثورية نابضة بالحياة إلى دولة قابلة للفساد بسهولة تسمى “السلطة الفلسطينية”.‏

‏بحلول نهاية التسعينيات، تضاعف تقريبًا عدد الصهاينة الذين يستعمرون الضفة الغربية بصورة غير قانونية، وفقدت فلسطين صبرها على وعود عرفات المنكوث بها بالتعايش السلمي مع شريك مسيء غير نادم. وأطلق الشباب الإسلاميون المتشددون المبتدئون في جماعات مثل “حماس” انتفاضة ثانية نارية في العام 2000. ومهما يكن ما حققه عرفات في منصبه الجديد كملك للغيتوهات، فإنه ظل غير قادر على حمل نفسه على تنفيذ أوامر الإسرائيليين ضد حفنة من الأولاد العنيدين الذين التقطوا السيف الذي كان قد أسقطه مقابل لقب. ورفض عرفات بشجاعة إطلاق قوات الأمن الجديدة الممولة من الغرب التابعة للسلطة الفلسطينية على “حماس”، وردت إسرائيل بوضعه تحت الإقامة الجبرية الفعلية حتى مات ميتة غريبة وغامضة في العام 2004.‏

وقد ثبت بعد سنوات لاحقًا أن هذه الوفاة كانت جريمة قتل عندما كشف تشريح عن آثار للبولونيوم المشع في جثة عرفات المستخرجة. وكان الجاني واضحًا جدًا لأي شخص لديه عينان تريان. كانت إسرائيل هي الدولة الوحيدة في المنطقة التي لديها إمكانية امتلاك هذا النوع من المواد النووية، وقد اعترف رئيس الوزراء آنذاك، أرييل شارون، بصراحة تامة بتأمل فكرة اغتيال صانع السلام الفلسطيني لسنوات. لكن هذا الاغتيال كان مستحيلاً من دون متآمرين في الدائرة الداخلية لعرفات، وتجعل الأحداث التي تلت وفاته من الصعب عدم التوصل إلى استنتاج أن هؤلاء الأشخاص أنفسهم أخذوا مكانه في إدارة السلطة الفلسطينية نيابة عن إسرائيل.‏

(…) تم تحويل السلطة الفلسطينية إلى واحدة من أكثر الدول بوليسية على وجه الأرض. بقوة أمنية مدربة على يد وكالة المخابرات المركزية مكونة من 83.000 فرد، تعاني الضفة الغربية الآن من أعلى نسبة من أفراد الأمن نسبة إلى المدنيين من أي منطقة على وجه الأرض. ويسيء هؤلاء معاملة شعبهم بانتظام بينما يعملون كحراس أمن بحكم الأمر الواقع للمستوطنين الإسرائيليين غير الشرعيين الذين يسرقونهم بلا رحمة.

‏مع بناء السجون بشكل أسرع من المدارس وتدمير مجتمعات بأكملها وتسويتها بالأرض، اعترض الشعب الفلسطيني أخيرًا على هذه الصفقة الخام من خلال انتخاب “حماس” لشغل أغلبية في البرلمان على قطط السلطة السمان في “فتح” في العام 2006. وردت إسرائيل والسلطة الفلسطينية بسرعة معاً لتحويل المنطقة بأكملها إلى سجن. تم عزل معقل “حماس” في غزة عن العالم الخارجي عن طريق الجو والبر والبحر بحصار إسرائيلي خانق، بينما استمر الحكم في الضفة الغربية المتقلصة بمرسوم. وما تزال السلطات هناك تحتج بصوت عال على كل جريمة من جرائم الحرب الإسرائيلية التي تصبح أكثر إثارة باطراد، بينما ترفض بعناد تخصيص حتى فرد واحد من جيشها لدعم الأولاد الذين يفترض أنها تحرسهم في المخيمات عندما يقومون بعملهم نيابة عنها من خلال محاولة الرد على إسرائيل بالقتال.‏

أكره أن ألعب بورقة “العارف بكل شيء” الأناركية، لكن هذا هو ما يحدث عندما ترتكب حركة ثورية خطأ أن تصبح دولة. إنها تتحول إلى الاستبدادية. وليس حل الدولتين فاشلاً لمجرد أن إسرائيل ليس لها الحق في الوجود. إنه فشل لأنها لا توجد دولة لها الحق في الوجود، خاصة عندما لا تكون دولة قومية على الطراز الأوروبي في منطقة ليس لها تاريخ أصلي لهذا النوع من القهر والإخضاع. لقد تعايش المسلمون واليهود والمسيحيون بسلام في الأرض المقدسة لأجيال مضت عندما كانت منطقة عثمانية أمامية ضعيفة الحكم. ولم يكن إلى أن ظهر البريطانيون وبدأوا في نحت الصحراء وتقسيمها مثل كعكة عيد ميلاد ويستفاليا حيث بدأت الأشياء في أن تصبح مجنونة، ولن يتوقف هذا الجنون حتى يرفض سكان تلك المنطقة البلطجية في المعسكرين ويتوقفوا عن محاولة أن يصبحوا أوروبا.‏

اللعنة على أوروبا. أوروبا ملعونة. كونوا شيئًا أفضل. انظروا إلى خرائط الطريق التي وضعها المنشقون الإقليميون مثل اقتراح معمر القذافي، “إسراطين”، أو الكونفدرالية الديمقراطية التي تصورها عبد الله أوجلان. أعيدوا إنشاء الديمقراطيات القبلية المستقلة التي حكمت تلك الصحارى سلميًا من دون دولة قبل وقت طويل من وجود إسرائيل أو فلسطين. الأمر متروك لكِ يا فلسطين، ولكن يمكننا جميعًا أن نشرع الآن في منح الجنود الأطفال الشجعان في جنين القليل من الدعم ضد قوات بابل، ببدء انتفاضة دولية ثالثة بلا جنسية. لأنه لا يوجد حل دولة مثل حل لا-دولة.‏

‏*نِكي ريد‏: مدون أناركي من وسط ولاية بنسلفانيا ومحرر مساعد لنشرة “هاجموا النظام” ‏‏Attack the System‏‏.

*نشر هذا المقال تحت عنوان: From Oslo to Jenin: A Call for a No-State Solution

المصدر: الغد الأردنية/ (كاونتربنش)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى