يخرُج من ينظر إلى نتائج الشهادة التعليمية الأهم في سورية، شهادة البكالوريا التي تحدد مصير الطالب، بانطباع أن التعليم مزدهر في هذا البلد الذي أصبح “على الحديدة”، بعد أكثر من عقد من صراع مسلح استهلك كل طاقات المجتمع، وجعل الكلمة العليا لأكثر الناس بعداً عن التعليم ومعناه.
يُلاحظ منذ سنوات أنه في كل سنة هناك طلاب كثر يحصلون على العلامة التامة في الامتحان النهائي، الأمر الذي لم تعرفه سورية في تاريخها. أذكر أنه في عام 1985 حصل طالب سوري على العلامة التامة في الامتحان النهائي للبكالوريا. حينها بدا الأمر أشبه بأعجوبة اخترقت شرارتها المجتمع السوري من أقصاه إلى أقصاه. ومت زلت أذكر اسم ذلك الطالب “الفلتة”. فيما أصبحت العلامة التامة في البكالوريا اليوم أمراً عادياً لا تخلو منه سنة دراسية، ويحصّلها طلاب بالجملة. تفيد الأخبار بأنه في هذه السنة حصل ثمانية طلاب من اللاذقية، من مدرسة واحدة، على العلامة التامة في الامتحان النهائي للبكالوريا. يُعاند المرء نفسه إذا قال إن في الأمر ما يثير الإعجاب.
المفارقة أن هذا “الازدهار” التعليمي يأتي في وقت تعيش فيه سورية أسوأ أزمنتها الحديثة، حيث الكهرباء والخدمات وسعر صرف الليرة والقدرة الشرائية وأمان الناس وسعادتهم واطمئنانهم في الحضيض. وفي مستوى التعليم المباشر، تعرّض أكثر من 42% من المدارس للأضرار في سياق الصراع المسلح، وتعرّض نصف هذه النسبة إلى دمار كامل، بحسب مصادر “الحكومة السورية” نفسها. كما تعطّلت نسبة كبيرة من المدارس لأنها تحولت إلى ملجأ للنازحين أو إلى استخدامات غير تعليمية. وقد خلُصت دراسة أجرتها منظمة يونيسيف في عام 2015، بعنوان “آثار الأزمة على التعليم في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية”، بعد أن استعرضت دمار البنية التحتية التعليمية، وتدني مستوى المعلمين … إلخ، إلى أن “التعليم لم يعد أولوية”، وهؤلاء الطلاب الذين يحصلون على العلامات التامة هم أبناء هذه الفترة التي لا أولوية فيها للتعليم.
الحق أن التعليم لم يكن أولوية في “سورية الأسد” في أي وقت، ولكن الدراسة المذكورة تدلّ على مزيد من هامشية التعليم، كما هو متوقّع في ظل الصراعات الداخلية المسلّحة المديدة. معروف أن “الاستعداد” لصراع آخر ضد “العدو الصهيوني” ثابر، عقوداً، على استهلاك 70% من الميزانية السورية، لكي يقف، في النهاية، أبطال “الاستعداد” وهم يراقبون، من على شرفات قصورهم المنيفة، طيران العدو يقصف مدننا حيث يشاء ومتى يشاء. أما التعليم فلم يُترك له إلا القليل (حصة التعليم في الدول المتحضرة تحتل المرتبة الأولى في الموازنة) الذي قد يستكثره الوزير “الموثوق” فيحوله إلى حسابه في الخارج، بعد أداء الفرض لأولي الأمر، فكيف يزدهر التعليم في هذا الحضيض؟ ما هو تفسير هذه المفارقة؟
هذه مفارقة زائفة، لأن ما يبدو ازدهارا في التعليم هو في الواقع تراجعٌ حادٌّ في المستوى، أكان في مستوى التعليم وجودته، أو في مستوى الحاجز الامتحاني الذي يوجب على الطالب تجاوزه (مستوى الأسئلة)، أو في مستوى الانضباط والنزاهة في أثناء الامتحان (الغشّ الذي باتت النظرة العامة إليه كما لو أنه حقّ، وبات الأهالي يدفعون من مالهم الشحيح للمشرفين على القاعات والمراكز الامتحانية، كي يضمنوا لابنهم شروط غشّ مناسبة). لا مفارقة، إذن، والحضيض الذي تعيشه سورية والسوريون، يشمل التعليم فيما يشمل. الازدهار الوحيد الذي يمكن الكلام عنه في سورية اليوم يحتكره الفساد والتشبيح وتحتكره صناعة الكبتاغون. في الحقيقة، لا يزدهر في مثل الحال التي تعيشها سورية اليوم إلا ما يتغذّى على بؤس الناس وخوفهم، وما يزيد في تشتتهم وضياعهم. أما القيم الإنسانية، من تكافلٍ وتضامنٍ واحترامٍ للحقوق ونصرة المظلوم، فعليها أن تقاوم كي تحافظ على وجودها، وكثيراً ما تنهار أمام قسوة الظروف.
المفارقة الثانية تأتي من الحديث عن صعوبة منهاج البكالوريا السوري، الشيء الذي يذكرُه سوريون كثيرون وكأن ذلك بحد ذاته مصدر فخر. على صفحة “الجمهورية” على “فيسبوك” (صفحة تبرز هويتها بوضع صورة بشّار الأسد على غلافها) نقرأ البوست التالي الذي يعود إلى 2018، ويحصل على أكثر من 30 ألف إعجاب ومئات المشاركات وآلاف التعليقات السعيدة: “منهاج البكالوريا السوري أتى في المرتبة الأولى كأصعب منهاج بكالوريا في العالم حسب استطلاع قامت به جامعة أوكسفورد الإنكليزية”. إذا افترضنا أن هذا الخبر صحيح، لا أظن أن أحداً يجادل بأنه لو قامت به جامعة دمشق مثلاً، لما كانت له أيّ قيمة يتباهى بها هؤلاء. الأمر الذي يضمر احتقار هؤلاء المتباهين التعليم المحلي سلفاً. كيف يمكن أن نفهم هذا الكلام: أصعب منهاج في العالم، وعشرات العلامات التامة؟ وتحصل هذه النتائج، فوق ذلك، في الظروف المادية والنفسية التي يعيشها السوريون منذ دزينة من السنين.
من النادر في فرنسا، مثالاً عن الدول الأوروبية، أن يحصل طالبٌ على العلامة التامة في البكالوريا، علما أن هناك مصحّحين يضعون العلامة التامة للطالب الأفضل، أي يضعون للعلامة الأفضل بين الأوراق علامة تامة. ويقولون إن العلامة التامة لا تعكس الصواب التام. في حين كان أحد أهم معلّمي اللغة العربية في اللاذقية، وقد درّسنا في الصف الثاني الثانوي، يقول إنه لا يمكن وضع علامة تامة على أي موضوع أدبي، حتى لو كان كاتبه محمود درويش، فلا وجود للكمال في الأدب.
لا يعني ما سبق التقليل من قدرات الطلاب السوريين الذين يثبتون، في الخارج، إنهم لا يقلون عن غيرهم في القدرات وفي الإبداع. على العكس، يبدو لنا أن الطالب المتفوّق والمتميز حقاً هو ضحية نظام تعليمي يسطّح الاختبارات، فيغدو الموضوع الأدبي، مثلاً، نصّاً يكتبه المعلم ويحفظه الطلاب ويسُمح بتكراره حرفياً. وهو أيضاً ضحية جو الفساد العام الذي يلقي ظلالاً كثيفة من الشك في النتائج التي لا شك في أن من بينها نتائج مستحقّة. وقد تصبح شهادة البكالوريا السورية نفسها ضحية، لكن الحقيقة الأهم أن المجتمع السوري ككل أصبح ضحيّة غشّ عام مزدهر.
المصدر: العربي الجديد