ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة في التاريخ تتغلب الفاشية على ثورة نبيلة , وتتمكن البربرية من تدمير حضارة , ويصرع السلاح بشرا آمنين , ويتفوق العضل على العقل , ويطغى الباطل على الحق .
بالامس القريب استباح جورج بوش بغداد , وقبلها دمر كراجيتش سراييفو , وقبلهما اجتاح شارون بيروت , وأباد بوتين غروزني , وهزم فرانكو الثورة الاسبانية .. هكذا دواليكم حتى سقوط بغداد تحت سنابك خيل المغول والتتار, وسقوط القدس في أيدي الصليبيين , وسقوط الاندلس في ايدي المتطرفين .. إلخ .
حلب الشرقية التي استباحها واجتاحها الفاشيون هي مثال آخر, فهي رحم الحضارة, ورمز الثورة والحرية أمام البربرية والوحشية .
حي “المغاير” هو المكان الوحيد في العالم الذي يحمل أقدم طراز للعمارة البشرية على سطح الارض والاونيسكو تعلم هذا وطالبت بحمايته وصنفت حلب بأكملها جزءا من تراث العالم الحضاري , ولكن الاسد وبوتين دمراه بالقصف الوحشي المتكرر خلال خمس سنوات .
حي ” الكلّاسة ” أقدم حي أسسته وسكنته قبائل العرب قبل الفتح الاسلامي بقرن على الأقل , كنا نسميه ( عاصمة حلب ) تقديرا لمقاومته للاحتلال الفرنسي ومقاومته لجيش الانفصال عام 1961 ببطولة فذة .
أما “حي الصالحين ” فيضم قبور وآثار مئات الانبياء والاولياء بما فيهم اثر قدم خليل الله ابراهيم عليه السلام مطبوعة على الحجر .
وأما ” حي الأصيلة ” فيزيد عمره على ألفي سنة , ومع ذلك يبدو كأنه بني قبل عشرين سنة لشدة نضارته وقوة بنيانه .
وأما حي الصليبة , فهو حي الكنائس والمجتمع المسيحي العريق , أحد ابنيته تملكه وتسكنه نفس العائلة منذ الف سنة بالتمام والكمال .
أسواق ” المدينة ” هي اكبر اسواق مسقوفة في العالم , تمتد عشر كيلومترات على الاقل .. حرارتها لا تتغير لا صيفا ولا شتاء , ولا ليلا ولا نهارا , وروائح العطور والبهارات تعشش فيها منذ مئات السنين .
المسجد الاموي الذي بناه الوليد بن عبد الملك على نفس طراز المسجد الاموي بدمشق ويضم مقام الرسول الكريم زكريا , كما يضم الآخر مقام ابنه يحيى عليهما السلام , ومنبرا من عصر صلاح الدين , وآثارا من الرسول محمد عليه الصلاة والسلام .
القلعة الشامخة منذ عشرة آلاف سنة في وسط المدينة العملاقة
في هذه المباني والكنائس والمساجد والزقاقات والاسواق التي لا مثيل لها في أي حاضرة اخرى في العالم نشأت الحضارة , وترعرعت مع التاريخ , وازدهرت الأمجاد بفضل مجتمع لا يضاهيه مجتمع آخر بالتسامح والتفاعل والابداع والبناء والتجارة .
دخل رعاع ( النجباء ) وأوباش ( حزب الله ) تتقدمهم عصابات الأسد هذه الاحياء الاسبوع الماضي وانخرطت في ممارسة ” نصرها ” الذي تعلمت فنونه من شارون وبوش وقاسم :عمليات اعدام جماعية , احراق بنايات كاملة بسكانها , ذبح لرجال وشبان يشتبه بأنهم كانوا مقاتلين . بعض الشهود أرسلوا لنا رسائل عبر(تليغرام ) تصور ما رأوا : خلال نزوحنا المتكرر من حي الى حي في يوم واحد شاهدنا مسلحين من الاوباش يضرمون النار في بيت يضم أما وأربعة اطفال , ورأينا عشرات الشبان يعدمون في شوارع بستان القصر والكلاسة والفردوس . وقالوا : هناك جثث كثيرة مضى على وجودها في الشوارع أكثر من اسبوع .. وحالات موت بين الاطفال بسبب الجوع والبرد , عشرات الوف الناس لا يجدون أماكن تحميهم من القصف , أو البرد , فينامون في زوايا المباني المدمرة .. هناك معاناة مخجلة لا يحتملها بشر .
هناك فنون خاصة بالحالة السورية ابتكرها جنود الاسد , وعلى رأسها فن (التعفيش) الذي برع به “جيش البعث العقائدي” وتمرن عليه منذ اجتياحه للبنان عام 1976 : نهب المنازل .. هذا السلوك ماركة خاصة تميز عصابات آل الاسد .
ما جرى يمثل اضافة نوعية على ميراث تاريخي : تل الزعتر , صبرا وشاتيلا من لبنان , حلب 1980 , حماة 1982 , وفلوجة وحويجة من العراق . “أبطالها” يحملون رخصا دينية بالقتل من السيستاني وخامنئي ونصر الله وبطريرك روسيا وتعليمات حاسمة من بوتين والاسد . ولا شك أن هؤلاء جميعا يشعرون اليوم بأعلى درجات النشوة واللذة .. السادية !
كان بإمكان السكان الحلبيين الخروج من المعابر التي حددها لهم الروس منذ ثلاثة شهور, ولكنهم اختاروا الموت بهذه الطريقة على الاستسلام , ليقينهم أن ما ينتظرهم من هوان قبل أن يلاقوا حتفهم المحتوم بطرق وحشية , كما حدث لمن صدق وعود الروس واعوانهم . وكان بإمكان الثوار المدافعين عن مدينتهم وأهاليهم الاستسلام ورمي السلاح طمعا بالبقاء على قيد الحياة , كما وعدهم لافروف ودي ميستورا ولكنهم رفضوا بإباء القاء السلاح أو الاستسلام .. لأنه فعل شائن لا يليق بهم بعد خمس سنوات من القتال البطولي .
لحظة قاتمة , بقعة سوداء كبيرة , في تاريخ الانسانية , جريمة دولية عابرة للقارات , تحمل بصمات قادة كبار في الشرق والغرب والجوار , جريمة قتل مدبرة , جريمة اغتصاب جماعية , عملية سطو منظم … ولكنها أيضا جريمة غير قابلة للتقادم , ولا للنسيان , ولا للصفح , لأن الضحية لن تتنازل عن العدالة والقصاص .
هؤلاء الذين أضرموا النار في سورية واججوها لاحراق أكثر شعوب الارض مظلومية لا يعلمون أن اللهب انتقل لأطراف ثيابهم وسينتقل لبيوتهم وبلدانهم . لا يعلمون أنهم ارتكبوا أقبح جريمة في التاريخ الحديث منذ الغزو التتاري – المغولي , وأبشع فتنة دينية ستمتد مائة عام قادمة على الاقل , وأن الدائرة الدموية ستدور عليهم حتما . وستكون خسارتهم الاكبر في المستقبل , حين يدفعون ثمن خيانتهم القذرة وسلوكهم المقزز لشركائهم في الوطن والجنس والدين , وانحيازهم للفرس والروس انحيازا أعمى .
هذه ليست ورقة نعي لحلب , ولا للثورة السورية . حلب قياسا الى ماضيها وامكاناتها ستنهض وتستأنف التاريخ مهما كانت خسائرها وآلامها الآن ولن يستطيع احد تغيير هويتها وسلخها من تاريخها الخالد .
والثورة لن تتوقف طالما بقي “النظام” الذي يمثل أكثر الفئات والفعاليات الاجتماعية في أي بلد وعصر انحطاطا واجراما وفسادا , وطالما بقي الايرانيون والروس وزمرهم الارهابية يعبثون بسورية .
ومن يقرأ تاريخ سورية تحت وصاية الاسد سيجد أن سحق كل انتفاضة شعبية تعقبها ثورة أشد ضراوة وأكثر عنفا . في 1964 كانت انتفاضة حماة , وعندما قمعت حدثت ثورة حلب عام 1966 , وبعد قمعها ولدت انتفاضة 1972 , وبعد سحقها جاءت انتفاضة حلب وحماة والشمال عام 1979 – 1982 واستمرت اربع سنوات , وبعد سحقها تكونت عوامل انتفاضة وثورة 2011 , وهذه الثورة هي الأخيرة والنهائية لأنها غير قابلة للسحق ولو اجتمع العالم عليها . التاريخ لا يعود للوراء , ومحال أن يستتب الوضع لطغمة اعادت البلد الى القرون الوسطى وحكمته بطريقة دموية ارهابية , واثبتت أنها معادية لشعبها وحضارته .
ما جرى في حلب عار عالمي , ولكنه مفخرة لثوارها . وهو في كل الاحوال ليس خاتمة تاريخ , ولا نهاية شعب , ولا هزيمة ثورة .. بل سطر في كتاب الزمن , ولحظة عابرة في نهر الزمن , ستنطوي برغم مأساويتها وقتامتها .
============================================
هذا المقال منشور في مجلة الشراع اللبنانية , العدد 353 الصادر في 16 – 12 – 2016