قبل أيام نشرت وكالة “رويترز” تقريراً يتناول حالة الفقر والوضع المعيشي العصيب الذي تعيشه شريحة واسعة من السوريين في مناطق سيطرة النظام، تحديداً. وبدا التقرير منحازاً لرواية النظام التقليدية عن أسباب هذا التردي المعيشي، إذ أرجعه بصورة أساسية إلى تأثير العقوبات الغربية. وجاء التقرير بمناسبة الحديث الرائج في الأوساط السورية عن غياب أي أثر اقتصادي إيجابي للانفتاح العربي على النظام، مؤخراً.
وبالمقارنة بين تقرير “رويترز”، وبين تقارير لوسائل إعلام نشطة في مناطق سيطرة النظام، تبدو هذه الأخيرة أكثر جرأةً ومباشرة في توصيف مشكلات الوضع الاقتصادي السوري الراهن، وأسبابها. ومن غير الواضح هل ذلك نتيجة ضغوط أمنية أعلى على مراسلي وسائل الإعلام الأجنبية، مقابل “سيولة” أمنية متاحة لوسائل الإعلام المحلية في تغطية الشأن الاقتصادي، أم أنه نتيجة الفهم المغلوط، الرائج في الخارج، بأن مشكلات الاقتصاد السوري، هي نتيجة العقوبات بصورة أساسية. فمن يقرأ تقرير “رويترز”، يخلص إلى أنه، لو لم تكن العقوبات قائمة، لكانت الاستثمارات الخليجية تدفقت تباعاً إلى سوريا.
بالمقابل، أجرى موقع “هاشتاغ سوريا” الموالي استطلاع رأي شَمِلَ عدداً من الباحثين الاقتصاديين ورجال الأعمال الناشطين في مناطق سيطرة النظام، وطُلب فيه تقييم الواقع الاقتصادي السوري، بجمل قصيرة ومكثّفة. فكانت التوصيفات جريئة ومباشرة، بصورة كبيرة. ومن بين 9 من الخبراء المتخصصين بالشأن الاقتصادي، لم يشر إلا واحد فقط إلى أثر العقوبات، مؤكداً في الوقت نفسه، أن الأثر السلبي لها ناتج عن سوء الإدارة والتخطيط.
فأحدهم لخّص مشكلات الاقتصاد السوري بثلاث كلمات “تسلط وشللية وإقطاعية”، في إشارة إلى حجم الفساد في المنظومة المسؤولة عن إدارة الاقتصاد. فيما اعتبر آخر بأن الاقتصاد السوري “متفرّد”، بالمعنى السلبي للكلمة، و”لا يخضع للنظريات” المتعارف عليها في الاقتصاد. مرجعاً مشكلاته إلى الفساد أيضاً.
فيما تحدث ثالث عن “عوامل معدومة” لاستقرار الليرة، نتيجة تراجع الإنتاج وخلل الميزان التجاري، محمّلاً المسؤولية بصورة أساسية للمصرف المركزي، الذي تخلى عن مسؤولياته، وفق وصفه.
وتحميل المركزي مسؤولية الانهيار الأخير لليرة، كان لازمة لدى عدد كبير من المحللين الاقتصاديين الذين تحدثوا عبر وسائل إعلام محلية نشطة داخل مناطق سيطرة النظام، خلال الأيام القليلة الماضية. إذ أشار الكثيرون منهم إلى أن المركزي يشتري الدولار، ولا يبيعه. أي يقوم بعملية لمّ للعملة الخضراء من السوق، مما يتسبب بارتفاع الدولار. وهي تهمة لاحقت المركزي منذ الأسابيع التي تلت زلزال شباط/فبراير الفائت، حينما حذّر أكثر من أكاديمي اقتصادي موالٍ من أثر سياسات المركزي في لمّ الدولارات القادمة جراء الحوالات المضاعفة حينها، وتخزين تلك الدولارات بدلاً من استخدامها في تمويل المستوردات. وهو ما ثبتت دقته لاحقاً، فكانت النتيجة المزيد من عوامل التدهور في سعر صرف الليرة السورية، والفلتان في أسعار السلع.
وبالعودة إلى استطلاع الرأي، أشار أحد الاقتصاديين إلى القيود على حركة الاقتصاد، الناجمة عن حواجز الفرقة الرابعة بين المدن والمحافظات، من دون أن يسمي “الفرقة” صراحةً. وتلك الحواجز، تلعب دوراً أساسياً في رفع تكاليف الإنتاج في سوريا، جراء الإتاوات وعمليات “التشليح” التي تتم عند مرور قوافل شاحنات البضائع عبرها. واستخدم الاقتصاديّ تعبير “دعه يعمل ويمر”، في إشارة مجازية، لكنها مفهومة تماماً لمن يعيش في سوريا. فيما كان آخر، أكثر مباشرةً وجرأة، واستخدم تعبير “المميزين”، الذين تتكدس الأموال في جيوبهم، في وصف المسؤولين عن الحواجز الأمنية على الطرقات الرئيسية، والذين يتقاضون الملايين لمرور البضائع من حواجزهم.
واستخدم اقتصاديّ آخر، توصيف “الانهيار الاقتصادي” حيال المشهد في البلاد. مرجعاً السبب الرئيس إلى “سوء الإدارة”. فيما كان آخر أكثر تحفظاً، فاستخدم وصف “متأزم ضبابي”. فيما أشار عضوٌ في إحدى غُرف الزراعة، إلى تلك “القلّة” المحظوظة التي يُسمح لها بالاستيراد، حتى في حالة المواد الكمالية التي لا يحتاجها السوق، فيما تُفرض قيود تعجيزية على غالبية التجار حتى في حال سعيهم لاستيراد مواد ضرورية لعجلة الإنتاج. تلك “القلّة”، التي وصفها الرجل بـ “أشخاص معينين”، باتت تتحكم بالسوق وبالأسعار، في أجواء تنعدم فيها المنافسة. فيما قال خبير إداري إن السوريين “أصبحوا فرجة” للعالم بكل المعايير الاقتصادية والإدارية والاجتماعية، مشيراً بصراحة إلى أن “الحكومة” تعمل لصالح الأثرياء ورجال الأموال والحيتان.
أما الخبير الاقتصادي الوحيد الذي أشار إلى أثر “الحصار”، فأرجع أثره إلى أن الاقتصاد يعتمد على روابط سلاسل التوريد ذات التكاليف العالية. واصفاً إياه، بأنه اقتصاد يعمل بخليط من عصر الصناعة وعصر ما قبل الصناعة، نتائجه نصف نمو مع صفر تنمية في عالم رقمي سريع التحول. ورغم أن هذا الخبير كان الوحيد الذي أشار إلى أثر “الحصار” على البلاد، فكان الوحيد أيضاً، الذي أشار إلى أن الحل يرتبط بصورة أساسية، بأداء النظام السياسي، مستخدماً تعبيراً حَذِراً -“إعادة التشغيل السياسي للخروج من الركود البنيوي”-.
وهكذا نلاحظ أن فهم المتخصصين بالشأن الاقتصادي في مناطق سيطرة النظام، لأسباب المشكلات الاقتصادية، مختلف تماماً، عن ذاك الشائع في الإعلام الذي يتناول الشأن السوري من الخارج. ذاك الإعلام الذي يُعلي من أثر الضغط الخارجي على نظامٍ أدمن هذا الضغط، وتفنن في استغلاله لخلق اقتصاد داخلي مشوه يخدم مصالح “القلّة” المحسوبة عليه.
المصدر: المدن