تقدير موقف
شهد النصف الأول من العام الجاري مجموعة تطورات في القضية السورية، يُرجّح أن تؤدي إلى تحولات مختلفة على أكثر من صعيد، في الصراع المستمر منذ 12 عامًا، في سورية وعليها.
فقد شكلت كارثة الزلزال الذي ضرب شمال سورية وجنوب تركيا، في 6 شباط/ فبراير، فرصة لانطلاق زخم قوي في حراك التطبيع العربي “المجاني” مع النظام السوري، وساهم الدخول السعودي القوي على هذا المسار في إعادة النظام إلى جامعة الدول العربية، وفي حضور بشار الأسد القمة العربية في جدة، واقتصار جبهة الرافضين للتطبيع مع النظام على دولتَي قطر والكويت.
تستعرض هذه الورقة المشهد السوري، في ظلّ تعقيدات وصعوبات تعترض مسار التطبيع العربي، والتقارب التركي مع النظام السوري، وتحاول استكشاف توجهات النظام في التعاطي مع الالتزامات التي تتطلبها مبادرات التطبيع، وتُلقي الضوء على تزايد مظاهر الحراك السوري بهدف تجاوز حالة عطالة مؤسسات المعارضة السورية.
أولًا: حراك التطبيع العربي دون نتائج ملموسة
على الرغم من أن الأردن والإمارات قادتا، منذ أكثر من سنتين، محاولات فكّ العزلة على النظام السوري، مدفوعتين بعدم اعتراض أميركي، في ظلّ رغبة واشنطن في تخفيف حدة التعامل مع طهران لدفع مفاوضات الملف النووي الإيراني قدمًا؛ فإن دخول المملكة العربية السعودية على خط العمل، على إعادة إدماج النظام السوري في المنظومة العربية، أكسب هذه المحاولات زخمًا جديدًا، بعد أن أطلقت “دبلوماسية الزلزال” حراكًا جديدًا في مسار التطبيع العربي مع النظام السوري، بدأ في لقاء جدة لوزراء خارجية دول الخليج والأردن والعراق ومصر، في منتصف نيسان/ أبريل، واختُتم بعودة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية، وحضور رأس النظام مؤتمر القمة العربية 32 في جدة، بتاريخ 19 أيار/ مايو 2023.
من جانب آخر، عزّز تركيز القيادة السعودية اهتمامها على الأوضاع الداخلية، ولا سيما الاقتصادية، ورغبتها في بناء علاقات وعقد تحالف مع الصين، وتخفيف التوتر مع إيران، والخروج من ساحات الصراع معها في اليمن والعراق ولبنان وسورية، عزز رغبتها في طيّ صفحة الخلاف مع النظام السوري، إلى جانب اهتمامها بالتوصل إلى تفاهمات معه لوقف شحنات المخدرات والأسلحة، والحدّ من أخطار هذا الملفّ الذي يشكّل مصدر قلق أمني مشترك للسعودية والأردن.
ولم يحجب الدور السعودي الأساسي، في تسريع خطوات التطبيع العربي مع النظام، الدورَ الأردني القوي، فقد عاد الحديث مجددًا عن مبادرة “خطوة بخطوة” التي طرحها الأردن للحوار مع النظام السوري، وهي تستند إلى تصوّرٍ يتضمن القيام بخطوات متبادلة، يلتزم بموجبها النظام السوري بتقديم تسهيلات وضمانات لعودة آلاف اللاجئين السوريين، وكبح أنشطة تهريب المخدّرات عبر الحدود، في حين تعمل الدول العربية على إخراج النظام من أزمته الاقتصادية، عبر مساعدات في مجال إعادة الإعمار ورفع العقوبات الأميركية والأوروبية عن النظام، على أن تسير هذه المبادرة على نحو متدرّج عملي، يؤدي إلى تفعيل حلٍّ للأزمة السورية ينسجم مع القرار الدولي 2254.
ولم يظهر لهذا الحراك التطبيعي العربي نتائج جدّية حتى الآن؛ فالنظام أعجز من أن يستطيع تنفيذ أي خطوة جدية، فضلًا عن أن إيران لن تسمح له بتنفيذ أيّ من التزاماته بموجب المبادرة، في حين تنتظر الدول العربية إجراءات ملموسة، طالب بها وزير الخارجية الأردني بوضوح خلال مؤتمر صحفي عقده في دمشق مع وزير خارجية النظام السوري، في 4 تموز/ يوليو.
ثانيًا: التقارب التركي مع النظام وتسخين عسكري في الشمال
تباطأت الخطوات في مسار التقارب التركي مع النظام السوري، على نحو واضح، بعد الانتخابات التركية، حيث تحلّل صانع القرار التركي نسبيًا من ضغط المعارضة بملفّ اللاجئين السوريين، وتراجعت حدة التهديدات التركية بعملية عسكرية في الشمال السوري ضدّ مواقع ميليشيا قوات سوريا الديمقراطية/ قسد، التي يهيمن عليها مقاتلو مليشيا وحدات حماية الشعب الكردية.
وعاود بشار الأسد إطلاق تصريحاته الحادة ضد تركيا، حيث حذّر -في قمة جدة لجامعة الدول العربية- مما أسماه “خطر الفكر العثماني التوسعي المطعّم بنكهة إخوانية منحرفة”، وهو ما يكشف صعوبة تحقيق اختراق في محادثات إعداد خريطة طريق لتطبيع علاقات تركيا مع النظام السوري، التي كُلّف بوضعها نواب وزارات الخارجية، بالتنسيق مع أجهزة الاستخبارات ووزارات الدفاع، في كل من روسيا وإيران وتركيا والنظام السوري.
إن لأنقرة مصلحة في التقارب مع النظام، وصولًا إلى مصالحة معه، مدفوعة بقلقها الأمني ومصالحها الاقتصادية، وضغط ملفّ اللاجئين السوريين داخليًا، حيث توفر لها هذه المصالحة فتح طريق منتجاتها إلى دول الخليج العربي، التي سيزورها الرئيس التركي بين 17 و19 تموز/ يوليو، بحثًا عن تعزيز التعاون الاقتصادي، وجذب مزيد من الاستثمارات إلى بلاده.
كما يذهب بعض صنّاع القرار في تركيا إلى أن التفاهم مع النظام السوري يمكن أن ينتج عنه إعادة السيطرة على الحدود في شمال شرقي سورية إلى قوات النظام، في حال انسحاب القوات الأمريكية، وإنهاء خطر إقامة كيان كردي مستقل يهدد الأمن القومي التركي.
وسيسهم التقارب مع النظام السوري في إجراء تعديل بالتراضي على اتفاق أضنة، يسمح بتوسيع عمق المنطقة التي تخوّل القوات التركية ملاحقة “الإرهابيين” فيها، من خمسة كيلومترات إلى 30 كيلو مترًا، حسب ما تطمح له تركيا، ويسمح لها بالنتيجة بإقامة المنطقة الآمنة التي طالما تحدث عنها المسؤولون الأتراك، بحيث يُرحّل إليها القسم الأكبر من اللاجئين السوريين في تركيا.
وعلى الرغم من الاعتراض التركي على اقتراح كازاخستان، أن يتوقف مسار آستانة بعد اختتام أعمال الجولة العشرين في 21 حزيران/ يونيو؛ فإن موسكو تُولي الاهتمام بمسار المحادثات الرباعية، الذي يمنح نظام الأسد موقع الشريك، إلى جانب تركيا وروسيا وإيران، ويستبعد المعارضة السورية كليًّا.
لقد انعكس اختلاف مواقف موسكو وأنقرة في عدة ملفات، تسخينًا عسكريًا على خطوط التماس في شمال غربي سورية، حيث تصاعدت حدة قصف قوات النظام السوري لمناطق سيطرة المعارضة، بدعم جوي من الطيران الروسي، وعلى الرغم من أن التصعيد العسكري المتبادل لم يبلغ حد المواجهة والعمليات الحربية الواسعة، فإن من المرجح استمرار أعمال القصف والهجمات المحدودة المتبادلة، في ظلّ انسداد الأفق في مسار التطبيع التركي مع النظام السوري، وتباين المواقف الروسية والتركية حيال ملفات عديدة، منها موافقة تركيا على انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي، ومواقف أنقرة من تطورات الحرب الروسية الأوكرانية.
ثالثًا: الموقف الأميركي والأوروبي
في الوقت الذي تمنح فيه واشنطن الفرصة لمحاولات الدول العربية إحداث خرق في حوارها مع النظام السوري، تتمسك الولايات المتحدة، وكذلك الدول الأوروبية الفاعلة، بموقف رافض للتطبيع مع النظام، ويوضع فيتو على تمويل إعادة إعمار سورية ورفع العقوبات، قبل إنجاز حل سياسي.
وبالرغم من غياب أي طرح جدي أميركي وأوروبي للحل، بعد توقف مسار مفاوضات جنيف ومسار اللجنة الدستورية، فإن الأيام الماضية شهدت تطورًا لافتًا حمل تصعيدًا واضحًا ضد النظام السوري على المسار الحقوقي، تمثّل في إجراءات ثلاثة، من المرجح أن تُسهم في تعزيز مسار مساءلة النظام السوري، وهي:
- إعلان محكمة العدل الدولية أن هولندا وكندا اتهمتا، عبر شكوى رسمية، النظام السوري بخرق اتفاق للأمم المتحدة ضد “التعذيب وغيره من أساليب المعاملة القاسية”، بما فيها “استخدام أسلحة كيمياوية”، وستعقد المحكمة أولى جلسات الاستماع في هذه الشكوى بتاريخ 19 تموز/ يوليو. وتشكّل هذه الشكوى أمام “العدل الدولية” ضغطًا إضافيًا على النظام السوري، مع أن قراراتها غير ملزمة.
- قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 29حزيران/ يونيو، إنشاء مؤسسة دولية مستقلة تعنى بالكشف عن مصير المفقودين في سورية وأماكن وجودهم، وتقديم الدعم للضحايا وأسرهم.
- انعقاد اجتماع وزاري، في 7 تموز/ يوليو، بمشاركة 80 دولة، لإعلان التحالف العالمي لمواجهة أخطار المخدرات الاصطناعية، حيث يمثل تورط النظام السوري بإنتاج وتهريب مخدر الكبتاغون أحد أبرز التحديات التي يهدف التحالف إلى تنسيق التعاون بمواجهتها.
رابعًا: حراك متزايد للمعارضين ومؤسسات المعارضة غائبة
شهد النصف الأول من العام الجاري 2023، محاولات عديدة من ناشطين ومعارضين سوريين، لتأسيس كيانات وتيارات وإقامة فعاليات بهدف تنسيق الجهود، لتجاوز حالة التراجع الكبير في حضور مؤسسات المعارضة الرسمية.
أبرز هذه الفعاليات كان مؤتمر “مدنية”، الذي انعقد في باريس، في 6 أيار/مايو، بدعمٍ من مجموعة شخصيات سورية أبرزهم رجل الأعمال أيمن الأصفري، وحضر المؤتمرَ ممثلون عن نحو 150 منظمة مجتمع مدني سورية، في محاولة لتأطير جهود هذه المنظمات في مؤسسة تسعى لتعزيز “الأحقية السياسية للفضاء المدني السوري”.
ومؤتمر القوى الوطنية السورية الذي انعقد في 21 حزيران/يونيو الماضي، بالتزامن في أكثر من موقع، باريس وغازي عنتاب، وعدة مناطق في الشمال السوري، بحضور مئات الناشطين.
ومؤتمر القوى والشخصيات الديمقراطية، الذي نظمته في ستوكهولم شخصيات، من تنظيم “قوات سوريا الديمقراطية/ قسد”.
كما تسعى تشكيلات وتجمعات سياسية عدة لعقد بضعة مؤتمرات في الفترة القادمة، منها “اللقاء الديمقراطي السوري” المزمع عقده في برلين، في تشرين الأول/ أكتوبر القادم.
إن تزايد محاولات السوريين لتأسيس كيانات سياسية أو حالات تنسيقية لنشاطهم السياسي، يعكس قلقًا حقيقيًا من مآلات أوضاع مؤسسات المعارضة السورية، خاصة في ظل التراجع الكبير في دورها وحضورها، ويصح القول في تخلّيها عن دورها وإيكاله للدول الداعمة أو بعضها.
وتثبت هذه المحاولات وجود رغبة لدى قطاعات واسعة من السوريين في المشاركة بنشاط سياسي منظم وذي تأثير، إضافة إلى حيوية وجدية في التفكير والبحث عن البدائل والحلول التي تتيح لقوى الثورة والمعارضة استعادة زمام المبادرة وتجاوز العطالة والتحديات، وتحمل مسؤولية تمثيل السوريين المؤمنين بالتغيير، وتحقيق أهدافهم.
استنتاجات:
- لم يُسهم التطبيع العربي مع النظام السوري -حتى الآن- في تحقيق أي فائدة تُذكر للنظام، على الصعيد الاقتصادي، بل إن الانهيار المتسارع لسعر صرف الليرة السورية، مقابل الدولار، يعكس حالة عدم الثقة وعدم اليقين بقدرة ورغبة الدول العربية في إنقاذ النظام من أزماته.
- جاء التطبيع العربي مع النظام “مجانيًّا”، حيث لم يتقدم النظام أي خطوة باتجاه الحل السياسي، ولم يُغيّر من سلوكه، ولم يُقدِم على أي إجراء يُزيل أسباب تجميد عضوية سورية في الجامعة العربية، ومن غير المرجح أن يُقدِم النظام على تنفيذ جدّي وفعلي للالتزامات التي تتطلبها منه مبادرة خطوة بخطوة، سواء على صعيد تقديم ضمانات عودة آمنة للاجئين، أو على صعيد الحد من تدفق المخدرات إلى دول الجوار، أو التحرّك نحو حل سياسي للأزمة السورية، ما يحول دون تحقيق هذه المبادرات أي خرق في موقف الولايات المتحدة والدول الأوروبية الفاعلة، فالنظام يمارس عملية ابتزاز مكشوفة في ملفّي المخدرات وعودة اللاجئين، ويسعى للحصول على مكاسب مالية دون مقابل.
- لم تستطع روسيا تذليل العقبات الرئيسية التي تحول دون تطبيع العلاقات التركية مع النظام السوري، نظرًا لعمق خلافات الطرفَين، وصعوبة التزام النظام السوري بالمتطلبات التركية للوصول إلى تفاهمات تساعد في تطبيع العلاقات، فالنظام عاجز عن فرض سيطرته على مناطق جديدة يطالب القوات التركية بالانسحاب منها، في شمال غربي سورية، وهو غير قادر على فرض سيطرته على شمال شرقي سورية، في حال انسحاب القوات الأميركية، وهذا مطلب حيوي لأنقرة، لأهميته بالنسبة للأمن القومي التركي، فضلًا عن أن إيران لن تُسهل عملية التقارب التركي مع النظام، نظرًا لخشيتها من منافسة أنقرة لها على النفوذ والتأثير في سورية.
- بالرغم من غياب الاهتمام الجدّي من قبل الإدارة الأميركية في الصراع السوري، فإن دعم واشنطن لخطوات الضغط الحقوقي على النظام، وثبات موقفها الرافض للتطبيع ورفع العقوبات، يُسهم في إفراغ محاولات تعويم النظام السوري من قبل روسيا وبعض الدول العربية، وإنّ بقاء القوات الأميركية في سورية، وقبول المخاطرة التي تعبّر عنها حالات متكررة لاعتراض الطيران الحربي الروسي مسيّرات أميركية في الأجواء السورية، يعكس جدية واشنطن في الحيلولة دون انفراد روسيا وإيران بفرض حل سياسي يُكرّس انتصار النظام عسكريًّا، ونفوذهما في سورية.
- يشكل غياب العمل على تحقيق حل سياسي في سورية خطرًا جديًا، من تكريس التقسيم الحالي إلى 4 مناطق نفوذٍ، لقوى أمر واقع محلية، تحميها وترعاها قوى دولية وإقليمية متنافسة، في حين تُظهر معظم الأطراف الفاعلة الحرص على بقاء النظام السوري مع إجراء إصلاحات شكلية لا تحقق مطالب السوريين.
- مع تراجع مواقف دول عربية أساسية من النظام السوري، وسعي بعضها لإعادة تعويم رأس النظام؛ تتعزز قناعة شريحة واسعة من السوريين بضرورة تخليص القضية السورية من عطالة مؤسسات المعارضة، وإطلاق حيوية سياسية واسعة في صفوف الناشطين وتجمعات السوريين، في الداخل وبلدان اللجوء، لتشكيل تعبيرات سياسية أكثر تمثيلًا لأهداف السوريين وتطلعاتهم
المصدر:مركز حرمون للدراسات المعاصرة