التطبيع بمفهومه السياسي، هو إعادةُ تسويةِ علاقاتٍ غيرِ طبيعيةٍ بين دولٍ متجاورةٍ أو متباعدةٍ، تقتضيها مصالحُ محددةٌ. وغالباً ما يستخدمُ مفهومُ التطبيعِ بعدَ انتهاءِ حربٍ، أو نزاع طال أمده، وزالتْ أسبابُهُ التي دعتْ إلى تعكير العلاقاتِ أو قطعِهَا نهائياً. وكثيراً ما يكون النزاع حول قضايا نفعية تعني جهتين أو أكثر حول قضايا محددة تتصل بالتاريخ، أو بالجغرافيا، أو بالاقتصاد، وأحياناً بكل ذلك، ما يؤثرُ في أطرافِ النزاعِ الذي آلَ إلى نهاياتِهِ، فاستوجبَ الإزالةَ.
وإذا كانت المقدِّمات تقود إلى نتائج ترتبط بها، فإنَّ التطبيعَ الذي نراهُ اليومَ، في واقعنا العربي، لا ينطبق كلياً لما قدمنا من تعريفات! فالمقدمات ماتزال قائمة لم تتزحزح من أماكنها، أما التطبيع المقصود، هنا، فهو تطبيع ثلاثي الأبعاد:
أولاً- تطبيعٌ مع النظامِ السوري، ولن نعيدَ الأسبابَ التي دعت إليه. وهي إثارةُ نخوةِ الجامعةِ العربية، وغيرَتِها على الشعب السوري الذي تعرَّض إلى مقتلة، وصفت بأنها من أبشع الجرائم التي ارتكبت بعد الحرب العالمية الثانية ضد شعب ذي تاريخ عريق، ونذكِّر بأن سورية كانت في عصرنا الحديث أوَّل دولة عربية تحرَّرت من ربقة الاستعمار الأوربي الذي صبَّ بلاءه على العرب، وعلى من تحالف معه تحديداً. وكان الشعب السوري الأوَّل في المنطقة الذي يأخذ بنظام الدولة الحديثة، قبل مجيء البعث، واعتنى بالديمقراطية، وبالحريَّات المتعددة، وبتشكيل الأحزاب السياسية، وتأسيس جمعيات مختلفة الأغراض، ونقابات عمالية ومهنية، وصحافة حرة، وكانت سورية ملاذاً آمناً لكل شعب اضطهد من بلدان الجوار، وساهمت سورية في تأسيس الجامعة العربية كما في تأسيس هيئة الأمم المتحدة.
والغريب أن المطبعين والساعين إليه، كانوا من المساهمين في المقتلة التي تعرَّض لها الشعب السوري، ورعوا المتطرفين وزوَّدوهم بالمال والسلاح اللازمين للقتل والتدمير والفساد. وربما كرهاً لبشار الأسد الذي وصفهم بنعوت مهينة، وبعد اغتياله وحلفاؤه رفيق الحريري الشخصية الوطنية اللبنانية..!
ثانياً- يطاول التطبيع اليوم إيران الدولة التي تحتل خمس دول عربية، وتفعل فيها الأفاعيل، إذ تنشئ في كل منها “طابوراً خامساً” يعمل لصالحها، دونما خجل، وطناً أوَّل، وقد حولت إيران تلك البلاد إلى دول فقيرة، رغم غناها، لا تقوى على إطعام شعبها. ويصرِّح بعض قادة إيران، ورجال دينها، على الملأ، بأن الدول العربية التي تحتلها هي بلاد إيرانية..! لكن شعوب تلك الدول اليوم، تعيش الصحوة، ويرفع شبابها شعارات وطنية، تتمسك بالانتماء الوطني لغة وتاريخاً واعتزازاً، سواء في العراق أم في لبنان، واستطاع شعبا البلدين أن يوصلا نواباً مستقلين يرفعون راية وطنيهما! أما السوريون فتسلب ممتلكاتهم بمساعدة النظام الفاسد الذي تعمل الجامعة العربية اليوم على تبرئته. ويعرف العرب أن إيران تحتل إضافة إلى تلك الدول إقليم الأحواز الغني بالنفط، إذ يشكل نفطه 75% من النفط الإيراني، وفيه حركة تحرر وطني ناشطة! وكانت إيران قد بسطت نفوذها عام 1971 على ثلاث جزر عربية غنية بالنفط، وأكسيد الحديد، وتقع الجزر قرب مدخل مضيق هرمز. وهي ملك لدولة الإمارات العربية المتحدة، رأس الخيمة، والشارقة..!
ثالثاً- التطبيع مع إسرائيل رغم أنها ما تزال تتجاهل مبادرة الملك عبد الله آل سعود عام 2002 التي عدها العرب مبادرتهم، وعرفت بـ “مبادرة السلام العربية”، ونصت على انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي التي احتلتها عام 1967، وإقامة الدولة الفلسطينية، وعاصمتها القدس الشرقية، على كامل أراضي الضفة الغربية، وقطاع غزة، وفق القرارين الأمميين رقم 242 و338 مقابل السلام الشامل. لكن إسرائيل تجاهلت المبادرة، كما هو حالها مع بقية المبادرات، ومنها “وديعة رابين” التي تخصُّ الجولان السوري، وجميع قرارات هيئة الأمم المتحدة! فهل ثمَّة أكثر من ذلك الاستخفاف بالحكام العرب! وما تزال حتى اللحظة تصادر الأراضي الفلسطينية لتقيم مستوطنات جديدة، ومايزال الفلسطينيون يدفعون ضريبة الدم والتشرد.
إذاً ما الذي تغيَّر، فدعا تلك الأنظمة إلى هذا التنازل؟! أهو اعتراف بالهزيمة أمام تطاول إيران وإسرائيل؟! أتراها روسيا أو الصين طلبتا ذلك تمشياً مع محورهما الجديد؟ أم تراهما يخشون ربيعاً عربياً جديداً يتجاوز أخطاءه. وينجح في بناء دول تحتذي فتؤثر على أنظمتهم المتشابهة في قمعها واستبدادها؟! هل يريدون أن يثبتوا أنهم أصحاب قرار، وإنْ كان ضد أشقائهم، وأمن بلادهم؟! أسئلة عديدة ليست بحاجة لأجوبة.
المصدر: اشراق