شكل التمرد المباغت لقائد مجموعة “فاغنر” العسكرية الروسية الخاصة، يفغيني بريغوجين، أخطر وأكبر تحد واجه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في الداخل على مدار 23 عاما قاد خلالها روسيا، فيما كشف خبراء لموقع “الحرة” عن “تداعيات كبيرة” لاضطرابات استمرت لنحو 24 ساعة فقط.
الطباخ الخائن؟
لم يظهر اسم بريغوجين بغتة، وإنما بات اسما متداولا في الأخبار خلال الفترة الأخيرة، لاسيما بعد غزو أوكرانيا في فبراير من العام الماضي.
أصبح بريغوجين ثريا بفضل علاقاته الشخصية ببوتين، إذ فاز بعقود مربحة لتقديم الطعام ومشاريع البناء مع الحكومة الروسية، وذلك قبيل تأسيس مجموعته التي قاتلت عناصر منها في أوكرانيا وقبلها في دول أخرى، وفقا لصحيفة “نيويورك تايمز”.
وقد اكتسب لقب “طباخ بوتين” بسبب توفير مجموعته خدمات الطعام لمقر الرئاسة الروسية في الكرملين.
في عام 2014، أسس مجموعة “فاغنر” بعد أن استولت روسيا على شبه جزيرة القرم الأوكرانية وأعلنت ضمها من جانب واحد. وأثارت تمردا انفصاليا في منطقة دونباس بشرق أوكرانيا.
ومنذ سنوات نفذت المجموعة شبه العسكرية “مهمات سرية” للكرملين على مسارح عمليات مختلفة، وقبل بدء النزاع في أوكرانيا، تم رصد مرتزقة فاغنر في سوريا وليبيا وفي بلدان أفريقية وفي أميركا اللاتينية.
وبعد الغزو الروسي لأوكرانيا، في 24 فبراير عام 2022، أرسل بريغوجين مقاتليه إلى أرض المعركة، حيث تضخمت المجموعة عبر تجنيد سجناء.
وبلغ عدد مقاتلي فاغنر حوالي 50 ألف مقاتل، وفقا لتقديرات أجهزة مخابرات غربية، بما في ذلك عشرات الآلاف من السجناء السابقين الذين تم تجنيدهم من السجون في جميع أنحاء روسيا، غالبا بواسطة بريغوجين شخصيا، وفقا لتقرير لصحيفة “الغارديان”.
وخلال سنوات، خدمت الأدوار العسكرية لـ”فاغنر” المصالح السياسية للرئيس الروسي، لكنها أخيرا “تمردت ضده”، وبات بريغوجين، الحليف السابق، “خائنا” بالنسبة لبوتين.
ولذلك يصف المحلل السياسي الروسي، أندرية مورتازين، التحول في العلاقة بين بوتين وبريغوجين بـ”الأمر المدهش”، بعدما كان قائد فاغنر “صديقا مقربا وأصبح عدوا”.
ويشير مورتازين، في تصريحاته لموقع الحرة، إلى أن فاغنر كان بمثابة “قوات خاصة روسية”، تنفذ مهام للكرملين بشكل “فعال” خارج البلاد خاصة في سوريا وليبيا وأفريقيا الوسطى والسودان.
وكان يفترض على جميع مقاتلي فاغنر توقيع عقود مع وزارة الدفاع الروسية لكن بريغوجين رفض ذلك، مما تطور لاحقا في “التمرد المسلح”، وفقا للمحلل السياسي الروسي.
ويوضح مورتازين أن قائد فاغنر “رجل ذكي وليس مجنونا”، لكنه أصبح الآن “خائنا”، ووصلت علاقته ببوتين لـ”نقطة اللاعودة”.
ولسنوات، كان قائد فاغنر يكره وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، ورئيس هيئة الأركان، الجنرال فاليري غيراسيموف، وكان الشعور متبادلا، كما قال مسؤولون أميركيون لصحيفة “نيويورك تايمز”.
وقال المسؤولون إن الدافع الرئيسي لتحرك بريغوجين الأخير كان أمر وزارة الدفاع الروسية، في 10 يونيو، بضرورة توقيع جميع مفارز المتطوعين على عقود مع الحكومة، وفقا لتقرير لصحيفة “واشنطن بوست”.
تمرد “مخطط”؟
الخبير العسكري والاستراتيجي، العميد ناجي ملاعب، يوضح أن تأسيس قوات “فاغنر” جاء لتنفيذ “مهام خاصة” تخدم مصالح الكرملين، دون ظهور القيادة السياسية الروسية في المشهد.
ومنذ تأسيسها تنسق “فاغنر” كافة تحركاتها مع السلطات الأمنية المختصة، و”لا تغرد خارج السرب منفردة”، وجاء تمردها المسلح “مدعوما من قوى سياسية واقتصادية” داخل روسيا، وفقا لحديثه لموقع “الحرة”.
ويشير الخبير الاستراتيجي إلى “ضلوع بعض القيادات العسكرية والأمنية في التمرد المسلح”، مستبعدا أن تكون تحركات بريغوجين “منفردة”.
الأمر نفسه يؤكده الخبير المختص في الشأن الروسي، نبيل رشوان، الذي يرى أن أعضاء من طبقة “الأوليغارش” قد دعموا تحركات قائد “فاغنر” بعدما أذتهم الحرب في أوكرانيا.
وأضرت سياسات بوتين بـ”الأوليغارش”، بعدما أجبرهم على دعم الحرب على أوكرانيا، مما تسبب في وضعهم على قوائم العقوبات الغربية واحتجاز أموالهم وممتلكاتهم في دول عدة، وفقا لحديثه لموقع “الحرة”.
ويتفق مع هذا الطرح، الخبير الاستراتيجي، محمد اليمني، الذي يرجح أن يكون هناك أطراف أخرى في “التمرد المسلح” بعضهم من الداخل، وآخرين من خارج روسيا.
ويشير لإمكانية تورط بعض الأوليغارش الروس في حركة التمرد المسلح لأنهم “أحوج ما يكون لأي مخرج للحرب في أوكرانيا وهزيمة بوتين”، حسب تصريحاته لموقع “الحرة”.
وفي سياق متصل، يرجح الباحث السياسي المقيم في فرنسا، طارق عجيب، كون تمرد قائد “فاغنر” كان يحظى بدعم كل من يعارض الرئيس الروسي في محاولة لإسقاط نظام بوتين.
وتشير المعطيات إلى أن بريغوجين “لم يتحرك منفردا ” على مستوى الداخل على الأقل وتصريحاته المهاجمة لقادة الجيش كان يتبناها بعض القيادات العسكرية ضمن “اختلاف الرؤي بشأن التعاطي مع العملية العسكرية في أوكرانيا”، وفقا لحديثه لموقع “الحرة”.
ويشير الباحث السياسي إلى أن هناك بعض الشخصيات في القيادة العسكرية الروسية لا تتوافق مع رئيس الأركان، بينما رفض البعض الآخر “العملية العسكرية” في أوكرانيا، بحسب ما يسميها الكرملين.
لكن على جانب آخر يستبعد مورتازين، تورط “قوى سياسة أو اقتصادية” في تمرد “فاغنر” المسلح.
ويقول المحلل السياسي الروسي إن “الأوليغارش” داخل البلاد يؤيدون بوتين، ومن يعارضه فهو “هارب أو مطرود” خارج روسيا.
لماذا لم يتحرك بوتين؟
تعتقد وكالات المخابرات الأميركية أنه تم إبلاغ بوتين أن بريغوجين كان يخطط لـ”شيء ما”، وقال مسؤول أميركي لصحيفة “واشنطن بوست”، إن من غير الواضح متى تم بالضبط إخبار بوتين بتحركات فاغنر، إلا أنه كان بالتأكيد قبل أكثر من 24 ساعة من التمرد المسلح”.
ويبقى من غير الواضح لماذا لم يتخذ بوتين إجراءات لإحباط استيلاء قائد “فاغنر” على القيادة العامة العسكرية في روستوف، جنوبي روسيا، قبل تحرك قواته نحو العاصمة، موسكو، يومي الجمعة والسبت.
ولم يواجه قائد “فاغنر” مقاومة تذكر حين سار هو وقواته إلى روستوف، وحين سيطروا على مقر المنطقة العسكرية الجنوبية هناك، كما أشار مسؤولون استخباراتيون غربيون وأميركيون.
وعكس تقاعس بوتين عدم وجود تنسيق رفيع المستوى في الحكومة الروسية و”خصومات داخلية محتملة”، كما يعتقد المسؤولون الأميركيون.
ووصفوا ذلك بأنه مؤشر على أن بريغوجين يتمتع بقدر معين من الدعم بين القوات العسكرية النظامية أيضا، مثل أجهزة الأمن الروسية.
ويرى محمد اليمني في التمرد المسلح القصير “بوادر انشقاق” قد يتصاعد داخل المؤسسة العسكرية الروسية.
وتمرد “فاغنر” مؤشر على “بداية عصيان على بوتين”، نتيجة الغليان الداخلي بعد أن ورط جيشه وبلده معه في حرب استنزاف فاشلة وممتدة ولم يعد لها هدف أو مبرر أو نهاية، على حد تعبيره.
وهجوم بريغوجين على الرئيس الروسي ومن قبله القيادة العسكرية، يكشف عن دخول المؤسسات الروسية “مرحلة التخلخل”، وأن قبضة بوتين الأمنية الحديدية بدأت تتراخي وتضعف وتهتز، وفقا للخبير الاستراتيجي.
ومن جانبه يصف طارق عجيب روسيا بـ”دولة مؤسسات” تفرض على الجميع الالتزام بقرارات القيادة السياسية.
وبعد إعلان بوتين أن بريغوجين “خائن” تخلى عنه الكثير من مؤيديه السابقين في الداخل، ومازال من المبكر معرفة “من يقف وراء التمرد المسلح” من الخارج، وفقا للباحث السياسي.
وحسب حديثه فإن مجموعة “فاغنر” تتشكل من مرتزقة لا يقاتلون بـ”عقيدة وطنية” وهمهم الأكبر هو “المال”، ولذلك من السهل التأثير عليهم للانفضاض من حول بريغوجين.
هل انتهي دور “فاغنر”؟
يوضح العميد ناجي ملاعب أن بوتين لم يذكر في خطابه اسم “بريغوجين” قط، وتحدث عن “فاغنر” مرة واحدة، مرجعا ذلك لـ”حاجة الرئيس الروسي للمجموعة لتنفيذ مهام أخرى”.
وبعد خروج “بريغوجين” من روسيا ووصفه بـ”الخائن” فسوف يلجأ بوتين لتعيين قائد جديد لـ”فاغنر” حتى تستكمل مهامها، وفقا للخبير الاستراتيجي.
وسيكون من الصعب “إنهاء عمل فاغنر”، لكنها لن تشارك مستقبلا في أي تحركات عسكرية مشتركة مع القوات النظامية الروسية، خاصة في أوكرانيا، حسب ملاعب.
ومن جانبه يؤكد أندرية مورتازين، أن “فاغنر” سوف تستمر في أداء مهام عملها، وسيتم ذلك من خلال استبدال قائدها، لتستمر كشركة خاصة، أو دمجها داخل الجيش الروسي.
لكن على جانب آخر، يرجح طارق عجيب “انتهاء دور فاغنر”، وبقائها خارج دائرة الأحداث.
ساعات قليلة و”تداعيات كبيرة”
يشير أندرية مورتازين، لـ”قوة نظام بوتين”، ويقول “نظام الحكم في روسيا لن يسقط أو يتأثر بالتمرد”.
وحسب حديثه فإن بوتين يحظى بدعم أكثر من 70 بالمئة من الروس، بينما لا يعرف الناس قائد “فاغنر” ولا يمتلك أي شعبية ولا خبرة سياسية.
ويشير إلى أن طبقة “الأوليغارش” ما كانت تسعى لوصول بريغوجين للحكم لأنهم “يخافون منه أكثر من بوتين”.
وبريغوجين “أخطر بكثير” من بوتين الذي يراه الغرب “شيطانا وديكتاتوريا واستبداديا”، وفقا لحديث المحلل السياسي الروسي.
لكن على جانب آخر، يشير نبيل رشوان إلى “اهتزاز صورة بوتين” داخل البلاد وخارجها، بعد “طعنة غير متوقعة” من حليفه الذي يدعمه في سوريا وليبيا وأفريقيا.
ووضع التمرد “بوتين في موقف صعب” وسوف يدفع ثمن “استعانته بمجموعة غير رسمية مسلحة”،للحرب في أوكرانيا وتحقيق مصالحه الخارجية، حسبما يذكر الخبير بالشأن الروسي.
ويرى الخبير في الشأن الروسي أن القوات الأوكرانية سوف تشدد من هجومها المضاد، ويقول “هذا سيشجع حلفاء أوكرانيا في امدادها بالسلاح للتعجيل بإنهاء الحرب وانتصار كييف”.
وبعدما كشف التمرد القصير عن “ضعف نظام بوتين”، فقد تحاول بعض المناطق الروسية الاستقلال عن الاتحاد الروسي، ويمكن أن نشاهد قريبا “تصاعد النبرات الداعية للانفصال عن روسيا”، وفق رشوان.
ومن جانبه يقول محمد اليمني، إن روسيا بعد “التمرد” ليست كما قبله، بعدما تسببت الاضطرابات رغم قصرها في “محو الهالة التي كانت تحيط ببوتين”، وكشفت أن نظامه “أضعف كثيرا مما يتظاهر به”.
و”التمرد المسلح” يمثل منعطفا في تاريخ روسيا، وسيكون هناك وقفة من بوتين ونظامه لإعادة تقييم الأوضاع بشكل عام في الداخل الروسي وخارجه، حسب اليمني.
ويرجح الخبير الاستراتيجي أن يكون للتمرد تداعيات على الجبهة الأوكرانية، ويقول إن روسيا ستحاول إثبات أن التمرد لم يضعفها، وبالتالي ستزيد “عملية التصعيد”.
ويتفق معه طارق عجيب الذي يؤكد أن “التمرد” سيلقي بظلاله على الحرب في أوكرانيا، متوقعا “تصعيد هجوم موسكو” حتى لا تفكر كييف في استغلال ذلك لتحقيق مكاسب ميدانية.
ماذا سيفعل بوتين؟
يتوقع ناجي ملاعب أن يتحرك بوتين بعد “التمرد” على محاور عدة “داخلية وخارجية” على نحو متوازي، وبداية سيقوم بإصلاحات، وإعادة تشكيل للقوى والأجهزة الأمنية والاستخباراتية.
وستعمل الأجهزة الأمنية الروسية خلال الفترة المقبلة على “تقديم تقارير عن مؤيدي تحركات بريغوجين لإخراجهم من مواقع القيادة وزجهم بخطوط التماس بالحرب، لمنع تشكيلهم قوى قد تهدد بوتين مستقبلا، وفقا للخبير الاستراتيجي.
ولن يكون الجو السياسي والاقتصادي داخل روسيا بمعزل عن “تداعيات التمرد”، وستكون هناك تغييرات على كافة المستويات، وقد يكون هناك توجه لقمع الحريات وإسكات أي صوت مضاد للسلطة باستخدام “القبضة الحديدية”، حسب ترجيحات ملاعب.
ويرى أن بوتين سوف يحافظ على وزير الدفاع ورئيس الأركان، حتى لا يخل بـ” ثقل القوى العسكرية النظامية الروسية”.
وفيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا، فسوف يسارع بوتين لتحقيق “نصر ما في مكان ما”، لإلهاء الشارع الروسي، وفق ملاعب.
ويشير ملاعب إلى “خطورة التمرد المسلح رغم قصر مدته”، ويقول “كان من الممكن أن نكون أمام قوات دعم سريع جديدة، وتكرار لسيناريو السودان، لكن السلطة السياسية الروسية استدركت هذا الوضع وحاولت حل الأزمة وإنهاء الاضطرابات.
المصدر: الحرة. نت