أبطال “جنين” وأخواتها

عبدالحليم قنديل

    قد يختلف الزمن، وتتغير الظروف والمعادلات، لكن القضية تبقى نفسها، وتبقى “جنين” ومخيمها عاصمة للمقاومة الفلسطينية المسلحة، فهى أقرب مناطق شمال الضفة الغربية اتصالا بالداخل الفلسطينى المحتل فى نكبة 1948 ، عبر مروج “بنى عامر” إلى الشمال ، كما تطل على منطقة “الأغوار”من جهة الشرق ، والقدس إلى جنوب “جنين” بمسافة 75 كيلومترا ، وقبل ما يزيد على العشرين سنة ، برزت “جنين” ، ومخيمها الذى لا تزيد مساحته على كيلومتر مربع واحد ، وصدت الغزو الإسرائيلى فى العملية المعروفة باسم “السور الواقى” ، وقد كانت عملية اجتياح شاملة للضفة الغربية ، وصلت ذروتها فى مخيم “جنين” بالذات ، وسقط 13 جنديا إسرائيليا قتلى ، وكان الوضع حينها مختلفا ، كانت العمليات الاستشهادية دائرة قبلها فى الداخل الفلسطينى ، وسقط 36 إسرائيليا قتلى ، وأرادت “إسرائيل” وقتها اجتثاث المقاومة ، وأدارت عملية الاجتياح الهمجى التى لم تحقق أهدافها ، فلجأت إلى بناء جدار الفصل العنصرى ، وتصورت أن بوسعه عزل الداخل الفلسطينى عن الضفة الغربية ونيران مقاومتها ، و”خض ورج” السلطة الفلسطينية ، خصوصا بعد رحيل “ياسرعرفات” مغتالا بالسم الإسرائيلى عام 2004 ، وتوالت تغيرات سالبة كثيرة وانقسامات فلسطينية منذ عام 2007 ، وبدا أن بوصلة المقاومة قد حوصرت فى “غزة” ، التى جلا عنها العدو فى 2005 ، وخاضت وحدها حروبا متطاولة مع جيش العدو إلى اليوم ، أعادت حربها الأشرس “سيف القدس” فى مايو 2021 ، وصل ما انقطع فى وحدة الكفاح الفلسطينى ، وأعادت رسم خرائط المقاومة الجديدة الجامعة بين “القدس” و”غزة” والداخل الفلسطينى ، وفيها بدت “جنين” على هيئتها الأولى ، وكأنها “غزة” انتقلت لشمال الضفة ، ونشرت إشعاعها إلى جوارها فى “نابلس” و”وطولكرم” وغيرها ، وتناسلت كتائب الفداء على غرار “كتيبة جنين” ، التى أدارت وحدها حربا ضارية مع غزو جيش الاحتلال قبل أيام ، ومع طائراته وعرباته المصفحة ، وأعطبت سبع آليات وأصابت سبعة من جنود العدو ، وأوقعتهم فى كمائن داخل المخيم ، وطورت عبوات ناسفة محلية الصنع بوزن 40 كيلو جراما ، وجعلت أفضل أمنية لجيش الاحتلال أن يسهل هروب جنوده ، ثم جاء التجاوب المباشر مع صمود مخيم “جنين” ، ونفذت المقاومة عملية فداء فى مستوطنة “عيلى” جنوب “نابلس” ، أسقطت أربعة قتلى من الإسرائيليين ، مما دفع البلطجية وأرباب السوابق فى حكومة “بنيامين نتنياهو” الحالية ، إلى المطالبة بتكرار اجتياح “السور الواقى” ، فيما خرج ثلاثة جنود “إسرائيليين” من العرب “الدروز” فى “فيديو” لافت ، يمجدون بسالة وبطولة “جنين” ويحقرون “إسرائيل” ، فى تعبير ظاهر عن اليأس الذى يضرب جيش الاحتلال .

  ولا شئ مستبعد من جيش الاحتلال ، الذى أصابته “جنين” بالجنون ، لكن قادة العدو يعرفون يقينا ، حتى وإن منعهم العناد والكبر من الاعتراف بالحقيقة ، أن تكرار عملية “السور الواقى” لن يفيدهم ولن ينقذهم ، فالذى أمر بعملية “السور الواقى” الأقدم ، لم يبن ملكا مستقرا بعدها ، وراح “شارون” ـ ملك إسرائيل ـ بعدها فى غيبوبة عميقة اتصلت لسنوات ، وهلك كجثة متعفنة تقرحت من طول الرقاد ، ونصيب خلفائه لن يكون أفضل ، فهم يواجهون شعبا لا تهزمه التضحيات ، ويتسابق شبابه إلى منصات الشهادة ، ويؤمنون بقضيتهم كإيمانهم بالله ، وليس بوسع جيش الاحتلال ولا قطعان المستوطنين التى تحرق قرى الضفة ، أن يفوزوا فى الصدام مع كتائب “جنين” و”نابلس” وغيرها ، وقد جربوا كل طرق القتل والحرق والتنكيل وهدم المنازل وقطع أشجار الزيتون ، وقتلوا 175 شهيدا فلسطينيا فى العام الجارى وحده ، ولم يؤد ذلك وغيره من الهجمات الوحشية ، إلا إلى إشعال جذوة المقاومة ، واقتحموا ويقتحمون المسجد الأقصى المبارك كل يوم تقريبا ، ويعتدون على “كنيسة القيامة” ، ولم تؤد تلك الهمجية المروعة ، إلا إلى تدافع مواكب من الشباب الفسطينى ، واندفاعهم إلى تكوين كتائب مقاومة عفوية أو منظمة ، ومع كل 24 ساعة تمر ، ينفذ الشباب ـ وحتى الأطفال ـ عشرات من أعمال المقاومة ، بالصدور العارية ، وبما ملكت الأيدى من حجارة أو زجاجات حارقة وطلقات رصاص وعبوات ناسفة ، لا يمنعهم التواطؤ الدولى ، ولا التخلى العربى الرسمى عن قضيتهم ، من الدفاع عن حقهم المؤكد دينيا وتاريخيا وقانونيا فى تحرير وطنهم المحتل ، ومن جعل مثال “غزة العزة” قابلا للانتقال والتكرار المضئ ، وإلى حيث يؤلم العدو أكثر فى القدس والضفة والداخل الفلسطينى ، وإلى تطوير وحدة ساحات كفاح الشعب الفلسطينى ، ومن دون أن يرتعبوا من مقارنات السلاح مع عدوهم ، الذى يملك مئات آلاف أضعاف السلاح الذى يحوزون ، لكن فوارق الإيمان والصبر والتصميم لصالحهم كلما امتد الزمن ، وكما فى كل حركة مقاومة وتحرير وطنى على طول التاريخ الحديث ، لم تملك أى حركة تحرير وطنى ما ملكه العدو المحتل من سلاح وتكنولوجيا متطورة ، لكن إلحاق الأذى بالعدو ، ظل دائما ممكنا ، وانتهى بالمحتل إلى الجلاء عن الأرض ، حدث ذلك فى كل تجربة كفاح ضد الاحتلال ، بالإنهاك والاستنزاف المتصل ، والوصول بالاحتلال إلى نقطة اتخاذ القرار الأخير ، حين تصير تكلفة الاحتلال فوق فوائد بقائه ، وهذا ما حدث مرات مع جيش الاحتلال الإسرائيلى نفسه ، حين اضطر للانسحاب من الجنوب اللبنانى بعد ربع قرن من المقاومة ، وحين قرر الجلاء عن “غزة” وتفكيك مستوطناتها السبع من طرف واحد ، بعد ربع قرن من انتفاضات الشعب الفلسطينى الأحدث ، توجت بانتفاضة الأقصى الثانية ، التى امتزج فيها سلاح الحجارة بطلقات الرصاص والعمليات الاستشهادية ، ولن يكون القادم مختلفا بالمعنى عن سيرة الماضى القريب ، برغم كل ما يقال وهو صحيح ، عن اختلالات الوضع السياسى الفلسطينى وانقساماته على السطح ، وعن انصراف الكثرة الغالبة من نظم الحكم العربية عن الهم الفلسطينى ، وعن التواطؤ الدولى ضد الحق الفلسطينى ، وعن احتضان أمريكا ورعايتها الوثقى لكيان الاحتلال ، وعن انشغال العرب بقضايا كثيرة ، بينها حروبهم الأهلية المتكاثرة ، وسعى أغلبهم لالتحاق بركاب محبة “إسرائيل” والتطبيع معها ، وعن انشغال العالم بحروب أوكرانيا وغيرها ، وبمخاضات التوزيع المستجد لموازين الاقتصاد والسياسة والسلاح على القمة الدولية ، وكل ذلك وغيره صحيح ، ويأخذ من بقايا الالتفات إلى القضية الفلسطينية ، وهو متصل لسنوات خلت ولسنوات تجئ ، ولا أحد عاقل ينتظر مددا قريبا داعما للفلسطينيين من خارج وطنهم ، إلا أن يأخذ الشعب الفلسطينى قضيته بيديه ، ويفرضها حاضرة ساخنة على حواس اهتمام الضمير العربى والعالمى ، وهو ما لن يحدث قطعا ، باستجداء عطف أو تعاطف واشنطن وأوروبا ، المشغولة بمصائرها الذاتية فى حروب الكبار ، ولا باقتصار العمل الفلسطينى على الأمم المتحدة ومؤسساتها ودهاليزها ، ولا بمناشدة ضمائر شبعت موتا ، بل بالعمل والكفاح اليومى المباشر ، وبالمقاومة الشعبية والمسلحة ، والمقاومة حتى لو نشأت عفوية ومبعثرة ، تدفعها إرادة الحياة لتنظيم نفسها وتكثيف قوتها ، وتحويل طاقة الشعب الفلسطينى الغالب سكانيا على أرضه المقدسة ، إلى زاد لا ينفد من مواكب الفداء وقوافل الشهداء ، فقضية التحرير الفلسطينى مؤيدة بمئات القرارات الدولية ، وكيان الاحتلال الإسرائيلى آخر صور الاستعمار فى عالمنا ، واتجاه حركة التاريخ يظل فى المحصلة إلى الأمام ، حتى لو تاهت الشعوب لفترات فى محطات جانبية ، وقد عرف الشعب الفلسطينى عقودا من التيه فى الدروب ، وتجريب اتفاقات ومهانات “أوسلو” وأخواتها وسلطاتها ، وهو يعود تدريجيا ، ولكن بثبات وإطراد ، إلى ميدان المقاومة ، ويهجر الأوهام التى احتلت العقول طويلا ، فلم يعد من مكان لمساومات ولا لتسويات فى المدى المنظور ، والعدو تزيد شراسته ، كلما شعر غريزيا بدنو أجل احتلاله ، ولن تتوقف عجرفته ودمويته إلا بزوال إحتلاله ، وما من طريق مفتوح سالك ، إلا بإنهاك قوته فى معارك صغيرة وكبيرة ، لا يختارها الشعب الفلسطينى ، بل تفرض عليه ، ولا يمكنه النجاة منها بتجنبها ، بل بفرز المزيد من طلائعه إلى ميادين المواجهة المسلحة ، فلا يفل الحديد إلا الحديد ، ولا ينكسر سيف الاحتلال إلا بدماء الشهداء ، فليس لدى الشعب الفلسطينى ما يخسره إلا قيوده ، ولا حياة تليق لناسه إلا بإزاحة الاحتلال على مراحل ، وما من أحد يملك حق المزايدة على كفاح الفلسطينيين ، وشعبهم أفضل شعوب الأمة تعليما ، وواجهوا ويواجهون أعتى صنوف الاحتلال الاستيطانى الإحلالى ، ويفتحون بأيديهم طاقات النور فى زمن العتمة ، ويزيدون حماس الضمائر المخلصة إلى نصرة قضيتهم العادلة ، ويعيدون إلى السمع العربى بالذات ، أصوات الأذان الفلسطينى مع كل شهيد يرتقى ، ومع كل عملية فداء وضرب للعدو ، يتسابق إليها أبطال “جنين” وأخواتها .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى