على الرغم من إلغاء المادة الثامنة من الدستور السوري في عام 2012، والتي كانت تقضي ببسط سلطة حزب “البعث” على الدولة والمجتمع، وتُسخّر له كل الموارد للهيمنة على كافة مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الدولة، إلا أن السنوات التي تلت هذا القرار أظهرت تمدد الحزب، ووضع يده على مئات العقارات بطرق غير شرعية.
استولى حزب “البعث” الحاكم في سورية على مقرات الاتحاد النسائي العام، المُحدث بالقانون رقم 33 لعام 1975، وحوّل كامل مقراته في العاصمة والمحافظات السورية إلى ملكية خاصة به، بعدما صدر التشريع رقم 16 في عام 2017، القاضي بحل الاتحاد النسائي العام وتكليف وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بكل ما للاتحاد من حقوق، وما عليه من التزامات، بما فيها الموظفون، من دون التنويه إلى أملاك الاتحاد من مقرات ومراكز تدريب وروضات حضانة وأطفال.
التشريع رقم 16، القاضي بحل الاتحاد النسائي العام، وتكليف وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بكل ما للاتحاد من حقوق وما عليه من التزامات، لم يذكر صراحة عائد ملكية المقرات والعقارات التي كان يمتلكها الاتحاد العام النسائي، والتي بدأ “البعث” باستخدامها لأنشطة الحزب والمنظمات التابعة له.
أسماء تضع يدها على “الأمانة السورية للتنمية”
في الوقت نفسه، ساهم الحزب، من خلال منظماته، في وضع يد “الأمانة السورية للتنمية” التابعة إلى أسماء الأسد، زوجة رئيس النظام بشار الأسد، على الحسابات البنكية للمشاريع الصغيرة “مشروعي”، الذي أنشأه “البعث” من خلال التعاون مع محافظة السويداء والجمعيات فيها.
موظف سابق في “القيادة القُطرية”: تضاعفت عقارات “البعث” أكثر من مرة نتيجة الاستيلاء على شقق وأراضي متهمين بالعمالة والإرهاب
وأنشأت “الأمانة السورية للتنمية”، التي تقودها أسماء، في عام 2011، صندوقاً لدعم المشاريع الصغيرة ومتناهية الصغر بقروض صغيرة إنمائية معفاة من الفوائد بقصد “استهداف أسر الشهداء والجرحى والمخطوفين من أبناء الجيش والقوى الأمنية”. ثم تشاركت مع وزارة الإدارة المحلية، وشجعت الوحدات الإدارية في المدن والأرياف على إنشاء صناديقها وإداراتها من ريع وتبرعات أبناء المحافظة والمغتربين منها تحت مسمى “مشروعي”.
وأُنشئ كل صندوق، وسُمي “جمعية مشروعي”، في كل وحدة إدارية بإشراف مباشر من الفرق الحزبية، بحيث يكون معظم أعضاء الجمعية من العاملين في “البعث”، وبالتالي يكون الحزب صاحب القرار في سير عمل الجمعية والقروض ومصير الصندوق.
وهذا ما حصل عندما قررت “الأمانة السورية للتنمية” توحيد صناديق الجمعيات المستقلة في صندوق واحد، حيث سحبت أرقام الحسابات البنكية من الجمعيات وضمّتها إلى صندوق مشترك، باسم “صندوق الأمانة السورية”، بحجة أنها ستدعم هذا الصندوق والجمعيات من أجل تقديم قروض أكبر ومشاريع إنمائية جديدة. والنتيجة، لم يعترض الحزبيون وهم أكثرية، فيما انسحب معظم المستقلين وهم أقلية، وتوقفت المشاريع منذ نهاية 2019 بعدما استولت الأمانة على كل الصناديق.
وهذا الأمر يتكرر حالياً مع الجمعيات الخيرية التي تتبع إلى وزارة الشؤون الاجتماعية. فقد أنشأت “الأمانة السورية” منصة “تشارك”، ثم روّجت لإنشاء داتا معلومات وصندوق مشترك لجميع الجمعيات، وسخّرت القيادات الحزبية لإقناع الجمعيات بهذا الأمر. وعلى المسار نفس، يستولي الحزب على المقرات المستحدثة في فترة الحرب، كمقرات فصائل “الدفاع الوطني”، و”كتائب البعث”، و”جمعية البستان”، ومنها مكاتب وعقارات امتلكها “حزب الله” اللبناني في بعض المحافظات.
وأكدت مصادر مطلعة في السويداء جنوب سورية أن فرع “البعث” منح مركز الشرطة العسكرية القديم لصالح فصيل الدفاع الوطني بشكل مؤقت، بعدما طُرد أفراد هذا الفصيل من منزل الإعلامي فيصل القاسم، الواقع في بلدة قنوات غرب السويداء، ما يعني عودة ملكية مركز الشرطة العسكرية تالياً إلى الحزب. وأضافت المصادر أن الحزب ما زال يتحكم في فرعه القديم، وفي جميع مقرات الشُعب والفرق الحزبية ضمن المدينة، بالرغم من أنه بنى فرعاً له على مدخلها.
لا يمكن إحصاء مقرات “البعث”
يقول أحد الموظفين المتعاقدين سابقاً في القيادة القُطرية للحزب، لـ”العربي الجديد” إنه “لا يمكن إحصاء العقارات التي تعود ملكيتها بشكل أو بآخر للمؤسسة الحزبية، خاصة خلال سنوات الحرب”.
ويوضح أنه “بالإضافة إلى كل ما يعرفه عامة الناس من مقرّات رسمية متواجدة في المحافظات وجميع القرى والبلدات على امتداد الأراضي السورية، وما يتبع لها من أبنية للمؤسسات الرديفة، كاتحاد الشبيبة والطلائع والأندية والمدارس الحزبية ودور الحضانة والروضات، فإن هناك عشرات الأبنية السكنية الفارهة في أهم الأماكن من العاصمة، مثل المالكي وأبو رمانة والمزة فيلات، ومعظم المحافظات، يستخدمها الحزب لإسكان بعض مسؤولي الصف الأول، كالوزراء وكبار الضباط ومسؤولي القيادات القُطرية والأفرع الحزبية والأمنية”. ويشير إلى أن “هناك كذلك أعداداً كبيرة من الشقق السكنية لمسؤولي الصف الثاني في مشروع دمر وقدسيا والمزة ومساكن برزة”.
تضاعف عقارات “البعث”
ويضيف: “تضاعفت هذه العقارات أكثر من مرة نتيجة استيلاء الحزب على عدد كبير من الشقق والأراضي التي تعود ملكيتها لمتهمين بالعمالة والإرهاب من وجهة نظر السلطة، خاصة في مناطق العشوائيات المدمرة، مثل مخيمات اليرموك وفلسطين والمعضمية ضمن العاصمة دمشق. بالإضافة إلى عقارات استولى عليها الحزب، بقرار من القيادة في مناطق حمص والقلمون وحلب وريف حماة. كما تم الاستيلاء على قرى ومناطق زراعية بأكملها، بعد تجريد نازحي بعض البلدات من أملاكهم كونهم مجهولي المصير”.
وسار “البعث”، منذ سيطرته على السلطة في 8 مارس/آذار عام 1963 واحتكاره القيادة العامة للدولة والمجتمع، في خطين متوازيين: الأول سياسي اجتماعي، تمثل في ربط جميع مؤسسات الدولة من دون استثناء بالحزب، وبناء مؤسسات رديفة، مثل “اتحاد منظمة طلائع البعث” التي تضم كل طلاب المرحلة الابتدائية، و”اتحاد شبيبة الثورة” الذي يضم طلاب التعليم الإعدادي والثانوي، و”اتحاد طلبة سورية” الذي يضم طلاب الجامعات. وتهدف هذه الاتحادات إلى تربية الأطفال واليافعين والشباب على معتقدات وأهداف وشعارات “البعث”، وبالتالي عسكرة المجتمع ضمن مؤسسات حزبية.
بناء “البعث” دولة ضمن الدولة
ويتمثل الثاني في بناء قاعدة اقتصادية رديفة للخط الأول، تحقق الضمانات والديمومة في حال حصول متغيرات سياسية. ولهذا كان من السهل على قيادة الحزب أن توافق في 2012 على إلغاء المادة الثامنة من الدستور، طالما أنها بنت دولة ضمن الدولة، وحصّنتها بركائز اقتصادية لا يمكن لأي جهة أخرى الاستيلاء عليها أو منافستها، إلا إذا استخدمت هذه الجهة نفس الوسائل والأساليب التي اتبعها “البعث” منذ استيلائه على السلطة.
وبعد مرور 11 سنة على إلغاء المادة الثامنة من الدستور التي تُشرع للحزب استباحة كل موارد الدولة، واستبدالها بنص يشرع التعددية السياسية، ويمنع تسخير الوظيفة العامة أو المال العام لمصلحة سياسية أو حزبية أو انتخابية، يقول متابعون لواقع حزب “البعث” إنه بنى إمبراطورية اقتصادية، قوامها آلاف الأبنية والعقارات، مستغلاً ظروف الحرب والهجرة والنزوح، ومعتمداً على تشريعات تعسفية للسلطة للاستحواذ على أملاك الفارين.
يقول المحامي عبد الناصر حوشان، في 5 أكتوبر/تشرين الأول 2019 لموقع “بوابة حماة” الإلكتروني، إن “النظام السوري يستكمل تجريد السوريين الفارين من حكمه من أملاكهم المنقولة وغير المنقولة، سواء في مصارفه أو دوائره العقارية، حيث بدأ بالقانون رقم 10 لعام 2018 الذي طاول أملاك السوريين المسجلة في السجلات العقارية، ثم انتقل إلى تجريدهم من حقوق الانتفاع والإيجار والمزارع، وقدمها مكافأة لمناصريه”.
وجاء كلام حوشان بعد أن صادر “البعث” أملاك نازحي بلدة كوكب التابعة لمنطقة صوران شمالي حماة، وفق قرار رقم 264 صادر من القيادة القطرية للحزب بتاريخ 28 أغسطس/آب 2019. من جهته، يقول الناشط المدني هاني عزام، لـ”العربي الجديد”، إن حزب “البعث” لم يثق يوماً في النهج والعقيدة التي يزرعها في شرائح المجتمع بقوة السلطة والغطرسة والقمع، وهو يدرك تماماً أن هذه السياسة المرتبطة بحكم العسكر قابلة للانفجار والتغير أمام أي فرصة سانحة، والدليل كان واضحاً في بدايات الثورة السورية.
ارتكاز على الولاءات المرهونة باقتصاد “البعث”
ويضيف عزام: لهذا ارتكزت أيديولوجية الحزب الحاكم على منهج الولاءات المرهونة باقتصاد الحزب، فلجأ إلى بناء دولة موالين ضمن الدولة، وقيّدها بمصيره كحزب حاكم، اعتباراً من الرواتب الشهرية والامتيازات الخاصة، كالسيارة والسكن، وصولاً إلى مقرات الحزب وأماكن الأنشطة الحزبية. ويوضح أنه بالمحصلة هناك بناء هرمي من أسسه الارتهان للمنفعة والحاجة، معتبراً أن أي محاولة أيديولوجية، مهما كانت متكئة على مبادئ الحرية والديمقراطية والعلمانية وما شابه، ستعجز عن مقارعة هذا البنيان، في ظل بلد متهالك اقتصادياً.
ويشدد عزام على أن أي تغيير سياسي قادم في البلاد، الذي ينتظره ملايين السوريين، سوف يصطدم بحجم سيطرة حزب “البعث” على الممتلكات العامة والخاصة، وسيحتاج لإعادة رسم قوانين جديدة، وإلا فإن أي تغيير سياسي لن يجدي نفعاً.
إقفال الباب أمام عودة المهجرين
من جهته، يقول محامٍ، طلب عدم ذكر اسمه، لـ”العربي الجديد”، إن السلطات السورية، وعلى رأسها الحزب الحاكم، تشرّع الاستيلاء على أملاك مواطنين وتستملك عقارات وفق عقود نظامية تُسجل في الدوائر العقارية لصالح “البعث”، ومؤسسات الدولة وعدد من المسؤولين، والجهات الموالية أو الخارجية الداعمة للسلطة الحاكمة، وبهذا تُقفل الأبواب أمام عودة المهجرين، وتهيئ لتغيير ديمغرافي يساهم إلى حد كبير في استمرار سطوة حزب “البعث” والموالين له، حتى في ظل دولة ديمقراطية وانتخابات حرة.
ويبين المحامي اتجاه “البعث” للاستيلاء على ممتلكات العديد من النقابات والاتحادات العامة، من خلال ضمّها أو إلغائها كما حصل بممتلكات “الاتحاد النسائي”، وبطرحه لضم الاتحاد الرياضي العام واتحاد الشبيبة والطلبة في وزارة جديدة تحت مسمى وزارة الرياضة والشباب. ويضيف: “بالمحصلة نحن أمام قوة اقتصادية هائلة تشكل رصيد عمل وتفوق في أي ظرف سياسي قادم”.
المصدر: العربي الجديد