كان مفاجئاً اقتراح كازاخستان إنهاء مسار أستانة التفاوضي السوري، مع ختام الجولة العشرين من المسار مساء الأربعاء الماضي. وبدا أن هذه الخطوة جاءت بدون التشاور مع روسيا، التي تقود المسار منذ ستة أعوام، إذ أبدت موسكو رغبتها باستمرار المسار، لا سيما أنها أقحمت عليه، في الجولة الأخيرة، محادثات التطبيع بين النظام وتركيا.
وفي أعقاب انتهاء الجولة العشرين، قال نائب وزير خارجية كازاخستان كانات توميش، إن هدف اللقاءات قد تحقق. وأضاف: “بالنظر إلى عودة سورية إلى أسرة (الدول) العربية، نقترح الإعلان رسمياً أن الاجتماع العشرين لعملية أستانة هو الأخير”. غير أن رعاة المسار الثلاثة، روسيا، وتركيا، وإيران، لم يكونوا على علم بالإعلان الكازاخستاني، إذ قالوا، في بيان مشترك بعد المحادثات، إن الاجتماع المقبل سيعقد في وقت لاحق من هذا العام.
كما قال المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سورية ألكسندر لافرنتييف: “لا يمكن أن نقول إن عملية أستانة انتهت… لكن إذا قرر الجانب الكازاخستاني أن هناك حاجة لنقلها إلى موقع مختلف، فسنناقش ذلك ونختار مكاناً”.
ورغم أن مسار أستانة بدأ كمسار عسكري – ميداني، فقد تطرق طرفاه، النظام والمعارضة، وضامنوهما، خلاله لمشكلات السيطرة الميدانية، ونجمت عنه أربع مناطق خفض تصعيد، عمدت روسيا فيما بعد لتسوية وضع ثلاث منها، بالتفاف على مخرجات المسار، وبقيت منها “منطقة خفض التصعيد الرابعة” (إدلب وما حولها)، إلى أن زُجت ملفات سياسية وإنسانية في الجولات المتتالية لهذا المسار، منها ملف المعتقلين وسبل الحل السياسي.
لعب موسكو على عامل الوقت
ومنذ إطلاق هذا المسار، بجهود روسية، وشاركت فيه كل من إيران وتركيا، فإن موسكو عمدت خلاله للعب على عامل الوقت، وإبعاد الحل السوري عن أروقة الأمم المتحدة ومسار جنيف التفاوضي بشكل رئيسي، ليتسنى لها فرض رؤيتها بعيداً عن حلفاء المعارضة الغربيين، لاسيما الولايات المتحدة. كذلك لجأت إلى تمييع المسار بالمراوغة على أجنداته ومخرجاته، فزجت بمواضيع وملفات لا يمكن مناقشتها إلا بعد إقرار الحل السوري بشكل نهائي، كعودة اللاجئين وإعادة الإعمار، في حين غطت من خلاله على توسع النظام وإعادة فرض سيطرته عسكرياً، بالإضافة للمماطلة بملف المعتقلين.
نهاية يناير/كانون الثاني 2017 بدأت أولى جولات المسار، ذلك بعد سيطرة النظام بعد حملة جوية روسية، ومعارك طاحنة على الأحياء الشرقية من حلب وخروج المعارضة منها.
لكن الجولة الأبرز في تاريخ المسار كانت الرابعة، في مايو/أيار 2017، حين تم الاتفاق على إقرار مناطق خفض التصعيد الأربع، وهي: درعا والجنوب، غوطة دمشق، شمالي حمص وجنوب حماة، وإدلب ومحيطها.
لكن روسيا عمدت للالتفاف على هذا الاتفاق وإخراج المعارضة منها تباعاً، من خلال سياسة التسويات. ولم يتبقَ تحت سيطرة المعارضة إلا إدلب، أو “منطقة خفض التصعيد الرابعة”، التي تضم كامل محافظة إدلب وأجزاء من أرياف حماة الشمالي والغربي، وحلب الجنوبي والغربي، واللاذقية الشرقي، بالإضافة للمناطق الخاضعة للنفوذ التركي شمالي حلب وشرقي الفرات.
وحاولت روسيا الضغط، نهاية 2018، على إدلب عسكرياً بعد انتهائها من الاستحواذ على كافة المناطق السابقة، لتحاول تركيا تجنيب إدلب ذات سيناريو سابقاتها من خلال اتفاق سوتشي الموقع في سبتمبر/أيلول 2018، والذي يقضي بنشر نقاط مراقبة حول إدلب، وإنشاء منطقة منزوعة السلاح في محيطها.
إلا أن روسيا ضربت بالاتفاق ومخرجات أستانة عرض الحائط، ودعمت قوات النظام والمليشيات الإيرانية التي اجتاحت “منطقة خفض التصعيد الرابعة” في إبريل/نيسان 2019، في ثلاث عمليات متتالية، وسيطرت على ريف إدلب الجنوبي، وحماة الشمالي، وأجزاء من ريفي حلب الغربي والجنوبي، والسيطرة على الطريق الدولي حلب – دمشق المعروف بطريق “أم 5″، قبل أن تتدخل تركيا عسكرياً بوجه النظام إلى جانب المعارضة، وتتوقف العمليات باتفاق لوقف إطلاق النار بين روسيا وتركيا في مارس/آذار 2020.
عموماً، تقلصت سيطرة المعارضة في سورية مع بداية مارس 2020 لتقتصر على نحو 11 في المائة من الجغرافيا السورية، بعد أن كانت تسيطر على أكثر من 50 في المائة.
الهدف من مسار أستانة
وحول كل ذلك، وتأثير المسار على الملف السوري برمته، قال رئيس وفد المعارضة المفاوض في مسار أستانة، أحمد طعمة، لـ”العربي الجديد”، إن “المسار أُنشئ من أجل هدف محدد، وهو تبريد الواقع العسكري على الأرض، تمهيداً للبدء بإيجاد حل سياسي في سورية”.
وأضاف: “صحيح أن النتائج لم تكن كما كانت تريد الثورة السورية، لكن المسار استطاع أن يحفظ للثورة الحد الأدنى من الأرض، وتلك أرض يعيش فيها ما لا يقل عن 6 ملايين سوري في الشمال الخارج على سيطرة النظام”.
ونوّه طعمة إلى أنه بناء على التهدئة التي جاءت بعد وقف إطلاق النار في مارس 2020 بين روسيا وتركيا، تحسن الوضع المعيشي في الشمال السوري، بالحصول على حالة من الاستقرار، ما يفضي لإجراءات تحقيق شيء من الحوكمة، “ونرى أنه بات من الممكن الانصراف لتحسين الواقع المعيشي، والذهاب لتكريس إدارات مدنية في تلك المناطق”.
وأشار طعمة إلى أن “من الإيجابيات التي أفرزها المسار، أن حجم الانتهاكات في الفترة الأخيرة أصبح أصغر، وكذلك دخول الجيش التركي إلى مناطق في الشمال يجعل من المستحيل تقدم النظام إلى مناطق المعارضة في الشمال والاستيلاء عليها، وقد تم منع النظام من فرض هيمنة كاملة على البلاد”.
أما بالنسبة للجانب السياسي، فرأى طعمة أن “المسار، وإن لم يكن المقصود منه بحث الحل السياسي ذاته، إلا أنه استطاع حلحلة بعض الملفات السياسية، ومنها إقرار مسار اللجنة الدستورية كخطوة لإيجاد حل سياسي”.
وتابع: “صحيح أن النظام السوري حاول عرقلة أعمال اللجنة، لكن ذلك أثبت للجميع رغبة النظام بعدم الذهاب إلى الحل السياسي، وأن المعارضة هي التي تلتزم بالحل السياسي والرغبة بالتوصل له، وكان هناك خلال الجولة الأخيرة بحث جاد لاستئناف عمل اللجنة وفق قواعد صحيحة”.
وحول قضم النظام والروس لثلاث مناطق ونصف من مناطق خفض التصعيد المتفق عليها في أستانة، أشار طعمة إلى أن “النظام والروس نقضوا الاتفاق بما يخص منطقتي ريف دمشق وحمص الشمالي، أما درعا والجنوب فكان هناك اتفاق بين الروس والأميركيين على إخراج هذه المنطقة من تفاهمات أستانة، وبالتالي فإن مسار أستانة لا يُحمَّل تبعات ما حصل في درعا”.
وأضاف: “أكرر أننا ربما لم نحقق المأمول في هذا المسار، لكننا استطعنا حماية أجزاء واسعة في الشمال (منطقة خفض التصعيد الرابعة، إدلب وما حولها) من تقدّم النظام، وهذه الحماية شملت بتفاهمات المسار مناطق ريف حلب الشمالي، أي (درع الفرات، غصن الزيتون، نبع السلام)”، التي تسيطر عليها المعارضة تحت النفوذ التركي.
مسار أستانة أحدث تغييرات على الأرض
من جهته رأى الباحث في “مركز جسور للدراسات” وائل علوان، أن المسار أحدث تغييرات كبيرة على الأرض، وأن هذه التغييرات كانت مهمة بالنسبة لتركيا، التي تمكنت من أن توقف تقدّم النظام في عملياته شمال غرب سورية، لا سيما في إدلب.
وأضاف علوان لـ”العربي الجديد”: “صحيح أن المسار استفادت منه روسيا، في مناطق مختلفة من سورية، لكن بشكل أو بآخر هو الباب الذي دخلت منه تركيا ميدانياً لتضمن مصالح أمنها القومي، وبهذا استفادت المعارضة من دفاع تركيا العسكري عن مناطق تواجدها في إدلب وشمال حلب”.
ونوه علوان إلى أنه “على المستوى السياسي كانت هناك فاعلية في أستانة لم تكن موجودة في مسار جنيف، رغم أن المسار الأخير كان أممياً ورسمياً للحل، لكنه بقي من دون أي منتج، في حين وجدت الدول الضامنة مساحات مشتركة أكثر في أستانة”.
رغبة إيرانية بإنهاء مسار أستانة
وتوقع علوان أن “يستمر المسار بجولات جديدة، سواء في كازاخستان أو مناطق أخرى يتم التوافق عليها، فهناك رغبة من روسيا وتركيا باستمرار المسار، في حين هناك رغبة من إيران بإنهائه وهي تحرّض النظام على المضي معها في ذلك. والأخطر من ذلك أن إيران تحرض النظام على التحرر من التزامات أستانة، أي ما تم التوافق عليه في المسار”.
وأشار إلى أن “روسيا وتركيا تلتزمان وإن كان بشكل نسبي باتفاقات وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى وغيرها من الملفات ضمن المسار، غير أن إيران تحاول إنهاءه للانخراط أكثر في المسار الجديد الموازي، وهو مسار (الرباعية) التي نتجت عن فتح الحوار بين النظام وتركيا لتطبيع العلاقات بينهما”.
وأشار علوان إلى الموقف الضبابي للولايات المتحدة من المسار، بأن قدرته على “خفض التصعيد” ربما تناسب التوجهات الأميركية التي ترمي إلى خفض التصعيد في سورية، مضيفاً “على واشنطن أن تكون حازمة أكثر في الفترة المقبلة لعدم حدوث خروقات وتطاول النظام على إدلب تحديداً، والانتقال من مرحلة خفض التصعيد إلى مرحلة وقف إطلاق النار الشامل”.
المصدر: العربي الجديد