برهنت الثورة البلشفية التي انطلقت في أضعف حلقات السلسلة الرأسمالية عام 1917، وكما جاء في ادبيات مفكريها الاوائل ان الحروب البشرية بشكل عام والحروب العالمية كذلك بشكل خاص ليست قدراً الهياً لا يمكن الفكاك منه، انما هي فعل محايث للنظام الرأسمالي الذي يفجر هذه الحروب بين الفينة والاخرى بقصد ديمومته، بل وتأبيد وجوده وهيمنته، وأنها ليست قدراً منزلاً من السماء لا يمكن تجاوزه أو منعه.
كما برهن أكثر وللمرة الثانية سقوط دولة هذه الثورة (البلشفية)، ان هذا النظام الرأسمالي الامبريالي ثم المعولم والذي حقق هيمنته المطلقة على الانظمة الدولية في هذا العالم وعوضاً عن أن ينحو بالبشرية نحو السلام والأمن والاستقرار والعدل واحترام حقوق الانسان، كما يزعم، اذ به يكشف عن طبيعته البربرية ويعود لسفك الدماء وممارسة الإبادة في أكثر من منطقة من الكرة الأرضية:
منها تدمير يوغسلافيا وجمهورية الشيشان ومن ثم العراق وما تلاها من دول الربيع العربي، ويمارس الافتعال الممنهج لعمليات الاقتتال البيني في دول وشعوب هذه المنطقة وإطالة آماد هذا الاقتتال، سورية، ليبيا، اليمن، السودان، وكل ذلك بعد انفجار ثورات هذه الشعوب ومطالبتها بحريتها وكرامتها وحقوقها الإنسانية.
وما تبع ذلك من انكشاف للأهداف التي تكمن وراء هذه الإطالة وهذا التأجيج للاقتتال والذي بات الحضور الاسرائيلي وعمليات المصالحات المزعومة معها وصفقات القرن التي يلوح بها بين الفينة والأخرى، وكذلك الترويج للعالم الابراهيمي والديانة الابراهيمية، الامر الذي توضحت من خلاله ارتسام المعالم الأولى لمشروع الشرق الأوسط الجديد، المعلن.
الا انه ومقابل كل ذلك كان التعاطف الغربي الأمريكي البائن والممنهج أيضاً مع ضحايا الحرب الاوكرانية الروسية من المواطنين الاوكرانيين والهرولة التي تفقأ العيون نحو انقاذ اوكرانيا وحمايتها من الهجوم الروسي الأحمق.
جميع ذلك، وما يعنيه من تناقض فاضح بين سرديات الثقافة الليبرالية المعولمة، والتي ظلت إلى حين نقطة جذب واستقطاب ساحر لدوائر واسعة في العالم من النخب المثقفة والساسة الذين يعبرون عن شغف البشرية الأزلي لمزيد من الانعتاق والتحرر والإنسانية والعدل وبين الوقائع التي أشرنا اليها، والتي توجت اخيراً بموقف هذه الدول من حالة الغرق الأخيرة لقارب المهاجرين أمام الشواطئ اليونانية، والتي تعتبر واحدة من عشرات الحالات قبلها والتي راح ضحيتها الألاف من البشر الأبرياء الذين لا ذنب لهم سوى أنهم يبغون الأمان والسلامة والخلاص من بشاعات العيش التي يلقونها في أوطانهم.
هذا التناقض الفظيع والبشع بين سرديات ثقافة النظام الدولي المعولم الذي انتجته مخرجات فكر وفلسفة رواده واباطرته واسياده، وبين ممارساتهم على الواقع بما فيه من طبيعة وبشر، لعله يسمح لنا أن نستشعر أن مقدمات غرق هذا النظام وأربابه قد بدأت، وأن العالم لا بد أن ينحو منحى آخر ينتج فيه نظاماً دولياً أكثر إنسانيةً وأكثر رأفةً وأكثر عدالةً.
وهذا ما يجعلنا ننحاز وبكل قوة إلى كل الشعوب المستهدفة والمستضعفة والتي تناضل من أجل انتاج هذا العالم.