في ظل حالة الاستعصاء السياسي للانتقال الديمقراطي ، وفي ظل استمرار الأنظمة الاستبدادية وتأبيدها .. تسود لدى بعض المهتمين مقولات ” المستبد العادل ” ، أو أن الولوج الى الديمقراطية لا يمكن أن يتم إلا بعد مرحلة الانتقال من عقلية القبيلة والعشيرة وتجاوز مرحلة ماقبل الوطنية ، مما يتطلب وعي سياسي وثقافي يمهد لقبول الانتقال الديمقراطي .. وهناك من يذهب بعيدا بالقول بأن الديمقراطية لا تليق بنا ، وشعوبنا لا يمكن أن يقودها إلا نظاما قويا بقبضة حديدية ….
ومن الغريب حقا في عصر التطور والتكنولوجيا ، والفضائيات وانتشار محطات وبرامج التواصل الاجتماعي أن تكون هذه المقولات حامل للكثير من المهتمين والمثقفين الذين لا زالوا يرددون تلك المقولات ويجادلون فيها لإقناع الجمهور بها …
لم أكن أريد أن أجادل في مقولاتهم .. ولكن ردا على مقال لي يتناول التعددية السياسية وضرورتها في النظام الديمقراطي .. جاءتني ردود في سياق الرد على مقالتي بأهمية وجود ” المستبد العادل ” وبأن الوصول الى الديمقراطية يلزمه مشوار طويل من التحضير المجتمعي لترسيخ الوعي الديمقراطي …
ويبدو غاب عن ذهن من يطرح مقولة ” المستبد العادل ” ، أن هذه العبارة جاءت في عصر الاستبداد أيضا ، لم يستطع من تبناها سوى القول بهذه المقولة للتخفيف من وطأة الاستبداد الحاصل .. والسؤال : كيف يمكن للمستبد أن يكون عادلا ؟؟ ، كلمتان في مقولة واحدة متناقضتان لا يربطهما اي مشترك ، هما متناقضتان متجافيتان لا يمكن اختراع القرابة بينهما بأي وجه من الوجوه ، ولا يمكن تطبيق هذه المقولة في انجاز العدالة وتحقيق حرية الانسان ، وإطلاق هذه المقولة ليس وراءها من دافع سوى منع الانتقال الديمقراطي وتأبيد الحاكم المستبد ، والتعويل على عطاياه وتفضله على الدولة والمجتمع ، وبأن ما يمنحه عدل بعينه ، وبدونه وبدون حكمته فإن البلاد ستدخل في الفوضى والاضطراب لا يعلم إلا الله منتهاها ……
ليس هناك أمة أو أوطان تصلح لتطبيق الديمقراطية وأمم أخرى لا تصلح أو لا يليق بها النظام الديمقراطي .. والتعلل بأن دولنا او أمتنا بحاجة لوعي ديمقراطي ، هذا صحيح قبل وأثناء وبعد الانتقال الديمقراطي .. الانتظار حتى يتشكل الوعي الديمقراطي مقولة تطلقها الانظمة الاستبدادية لدوام استبدادها . والتعلل بعدم جدوى الانتقال قبل ترسيخ الوعي الديمقراطي لدى الشعب مقولة لتأبيد الاستبداد.
والسؤال كم من الزمن اللازم حتى تتفضل تلك الانظمة او منظروها لتحقيق الانتقال الى النظام الديمقراطي ..
من الصحيح أن الانتقال الديمقراطي لن يأتي بدون صعوبات أو عثرات أو صادات في وجهه ..
ولكن هل ننتظر خمسون سنة أو مئة سنة او أكثر مثلا حتى تكون الظروف مناسبة لتطبيق الانتقال الديمقراطي .. الى متى ستبقى ” بيبرونة ” الاستبداد في فمنا نرضع حليبها الفاسد ،
الطفل أي طفل عندما يولد ، وبعد أشهر قليلة عندما يحاول المشي يقع مرة بعد أخرى ثم يقوم وينهض ويقع ايضا مرة بعد أخرى الى أن يستطيع المشي بمفرده بدون الاتكاء على أحد . يخوض تجربة المشي ، وإذا لم يخوضها سيبقى كسيحا . وكذلك المجتمعات عند تحولها الى الديمقراطية ستتعثر عند تطبيق مفاعيلها .. ولكنها ستنهض في المحصلة وستعرف كيف تبني مجتمعها ومستقبلها ..
وسواء خضنا التجربة الديمقراطية اليوم أو بعد مئة عام فإننا في بداية الانتقال سيرافقنا عدد من الصعوبات وقدر من التعثر .. ولكن هذه الصعوبات ألا تحفزنا لتحديها ، وإنجاز تجربتنا الديمقراطية الحقيقية من أجل الانتقال من كوننا مستهلكين فقط وعبء على البشرية الى أن يكون لنا دور وحضور في صناعة التاريخ الإنساني ..
أما ٱن الأوٱن اليوم بعد قرون طويلة من التخلف وخنق الحريات وتحويل الناس الى قطيع وهذا الاستبداد المتوالد والمتحكم برقاب البشر ، أن ندخل مرحلة الفطام ، وأن ننزع ” بيبرونة ” الاستبداد ونخوض التجربة الديمقراطية بثبات ، ونمضي بمجتمعاتنا إلى الحرية والتقدم والنهضة ؟؟؟؟..
المصدر: كلنا شركاء