إقرار إدارة الرئيس الأميركي الديموقراطي جو بايدن بمحورية القيادة السعودية خليجياً وعربياً واقليمياً وعلى صعيد القضايا العالمية ليس أمراً عابراً، وإنما هو تحوّل جذري في ذهن وأداء هذه الإدارة، وتطوّرٌ لافت في صفوف الحزب الديموقراطي، التي نظرت تقليدياً إلى السعودية بكثيرٍ من الحقد والكراهية. زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى جدّة الأسبوع الماضي، أوضحت كيف حلّت البراغماتية مكان الإملاءات الأميركية المعهودة، وكيف تراجعت الفوقية في موازين تأقلم الطرفين. الأمر مهمّ لأنّ المطروح على الطاولة لا يقتصر على مواضيع أسعار النفط والاستراتيجية الأمنية، وإنما يشمل شراكة أميركية- سعودية جديدة من نوعها، وتوافقاً خليجياً- أميركياً على مواجهة التطرّف العنيف في كل أنحاء العالم، وليس فقط التوافق التقليدي بلغة مواجهة الإرهاب.
لنبدأ بما كشفه وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان في مؤتمر صحافي مع نظيره الأميركي، عن أنّه “ليس سرّاً أننا نطوّر برنامجاً نووياً مدنياً، ونفضّل جداً أن تكون الولايات المتحدة من بين مقدّمي العروض في هذا البرنامج”، مؤكّداً في الوقت ذاته، أنّ الصين شريكٌ مهمّ للسعودية ودول المنطقة.
هذه لغة سعودية جديدة تخاطب الولايات المتحدة كإحدى الدول المرحّب بها لتقديم العروض في البرنامج النووي السعودي، وتعبّر عن الاستعداد لتعطيها الأفضلية، إنما ملمّحة في الوقت ذاته إلى أنّ هناك خيارات أخرى.
تحدّث فرحان بلغة جريئة، عندما طالب الدول الغنية بالاضطلاع بمسؤولياتها في مسألة عودة مواطنيها من مناطق النزاع. قال: “من المؤسف أنّ عدداً من الدول الغنية والمتقدّمة ترفض استعادة مواطنيها وترمي بهذا العبء على الدول الأكثر تأثراً بالإرهاب”. ثم أنّه وفي المؤتمر الصحافي الذي أعقب الاجتماع الوزاري لدول التحالف الدولي ضدّ تنظيم “داعش” الذي عُقد في الرياض، أكّد فرحان أهمية مواجهة التنظيمات الإرهابية في أفغانستان “لضمان ألاّ تصبح مجدداً ملاذاً آمناً لهذه التنظيمات”.
أما البيان الخليجي- الأميركي الذي صدر بعد اجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي- وهي السعودية والإمارات وقطر وعمان والكويت والبحرين- بالوزير الأميركي، فإنّه أكّد بدوره على مواجهة التطرّف العنيف والإرهاب “في كل أنحاء العالم”. هكذا حرص الوزراء الخليجيون على رفض التلقائية السابقة في تصنيف الدول العربية معقلاً للإرهاب وللتطرّف العنيف. فهم ينظرون إلى دولهم بأنّها في طليعة الدول التي كافحت الإرهاب والتطرّف، وأخذت شعوبها إلى منعطف جديد بتطلّعات إلى التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والكفاءات التي تمكّن الشباب من المنافسة عالمياً. فهذه قيادات واثقة من نفسها ومن قدراتها ومن مشاريعها التنموية، وهي عازمةٌ على خفض التصعيد وحلّ المشاكل بالحوار وبدبلوماسية جديدة، إنما ليس بطلاق عن مبادئ أساسية وعن مفهوم متجدّد لبوصلة المصالح الوطنية والعربية.
بالطبع، كانت مسألة حرّية الملاحة والتصدّي الجماعي للتهديدات الموجّهة ضدّ السفن، أساسية في اجتماع وزراء خارجية الدول الخليجية بوزير الخارجية الأميركي، وكذلك التركيز على الشراكات الاستراتيجية المتنامية والطموحة، المرتكزة إلى تعزيز الأمن والاستقرار والتكامل والازدهار. أنتوني بلينكن حرص على رسالة أساسية في لقاءاته الخليجية، وهي التزام الولايات المتحدة بأمن المنطقة وبالشراكة الأمنية الاستراتيجية مع دول مجلس التعاون، وشدّد على إدراك الولايات المتحدة لدور حيوي للدول الخليجية، وتحديداً السعودية، في الاقتصاد العالمي كما في معالجة الأزمات الدولية.
لا يُخفى على أحد، أنّ الطاقة مسألة أساسية، وأنّ إدارة بايدن لا تريد ارتفاع أسعار النفط أثناء الحملة الانتخابية. الرئيس جو بايدن مرشح للرئاسة لولاية ثانية، والناخب الأميركي يصوّت ليس فقط بانتماءاته السياسية، وإنما أيضاً بجيبه وأوضاعه الاقتصادية والمالية. لذلك، وفي لقاءاته الثنائية مع المسؤولين السعوديين، تقول مصادر مطّلعة، عبّر الوزير الأميركي عن إدراك إدارته لأهمية الدور السعودي داخل منظمة “أوبك”، وعلى صعيد مستوى إنتاج النفط وتأثير ذلك على الأسعار.
إنما المسألة معقّدة، تدخل فيها حسابات استقرار أسعار النفط كما مصالح الدول المنتجة للنفط. فلا تلقائية في تلبية السعودية لمطالب إدارة بايدن، النفطية منها أو الانتخابية. ثم انّ حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية تأتي دائماً بمفاجآت من العيار الثقيل، ولذلك ستتجنّب القيادات الخليجية أن تستبق الأمور أو التورط في معركة انتخابات رئاسية -لربما لا سابقة لها- وما زلنا في مطلع الطريق.
هذا لا يعني أنّ السعودية ستضرب بعرض الحائط المصالح الأميركية الاستراتيجية أو الاستراتيجية الأمنية بين البلدين. الرياض وواشنطن متفقتان على أنّ العلاقة الأمنية بينهما ليست عرضة للاستهتار أو لمساومات الدول الأخرى. لذلك، لا قلق أميركياً من تطور العلاقات الاقتصادية- الخليجية مع الصين، طالما أنّ العلاقة الأمنية تبقى حصراً أميركية.
دخول الصين طرفاً مباشراً في تطوير العلاقات السعودية- الإيرانية ولعب دور الضامن للتفاهمات، إنما أيقظ إدارة بايدن إلى تلكّؤ أدائها السياسي في المنطقة، بل إلى مساوئه بالذات، عندما استبعدت الدول الخليجية عن طاولة المفاوضات النووية مع إيران، وكأنّ هذا ليس من شأن الدول الخليجية العربية.
اليوم، تقوم إدارة بايدن بمحاولات إصلاح لنوعية علاقاتها الخليجية، لاسيما السعودية، انطلاقاً ليس فقط من تصحيح أخطاء الماضي، وإنما من الاعتراف بأنّ الشراكة مع الرياض أساسية، وإلاّ فإنّ واشنطن هي الخاسرة.
أمضى بلينكن ثلاثة أيام في الرياض لعقد اجتماعات مهمّة مع حوالى 80 وزيراً، وقد اجتمع في جدّة مع الأمير محمد بن سلمان في لقاءٍ مفصلي، لاسيما على صعيد بناء علاقة مع ولي العهد السعودي، وعلى صعيد الشراكة الأميركية- السعودية.
الأولويات الأميركية الأمنية لا جدال كبير عليها، لأنّ العلاقة الأمنية الثنائية مع السعودية والجماعية مع دول مجلس التعاون آمنة وثابتة. العلاقة النفطية بدورها ليست منفلتة ولها مفاتيحها.
مسألة العملة الأميركية التي قيل إنّ واشنطن تخشى من التلاعب بمستقبلها عن طريق مجموعة “البريكس” BRICS- التي تفكّر السعودية والإمارات بالانتماء اليها- إنما هي مفتعلة بعض الشيء. فلا السعودية مهرولة إلى استبدال الدولار بعملة “البريكس” التي تدخل أساساً في خانة البدعة، لأنّ هناك إفراطاً في تحليلها، ولا هناك استعداد بين الدول الأعضاء في “البريكس” لاعتماد عملة بديلة عن الدولار. فروسيا لا تريد المزيد من عملة الروبل الهندية. والهند لا تود أن تخضع لعملة تتحكّم بها الصين. وكل هذا الكلام عن “البريكس” إنما هو سياسي واستهلاكي، وليس هناك استعداد جدّي لتدمير عملة الدولار.
الجدّي والجديد، هو تلك الشراكة الأميركية- السعودية لمعالجة كل الملفات والقضايا والخلافات والأزمات، والتي بدأت فعلياً من ملف السودان إلى ملف إيران والعراق ولبنان وسوريا وليبيا وكذلك فلسطين.
في الملف الفلسطيني- الإسرائيلي، هناك اختلاف في وجهة النظر الأميركية والسعودية. إدارة بايدن تريد إنجاز توقيع سلام سعودي- إسرائيلي يكون لها بمثابة أضعاف إنجازات إدارة ترامب في الاتفاقيات الإبراهيمية بين إسرائيل ودول خليجية وعربية أخرى. إدارة بايدن تدرك تماماً وزن إعلان السعودية بأنّها جاهزة لتوقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل، وتأثير ذلك الوزن إقليمياً وعالمياً في كل الدول الإسلامية. ولذلك استثمرت زيارة بلينكن في هذا المسعى، لكنها اصطدمت بالواقعية السعودية.
فالسعودية لا ترى مانعاً في توقيع سلام سعودي وعربي وإقليمي مع إسرائيل، إنما شرط أن يُعالج النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي بحل الدولتين، وأن تُعالج قضية القدس. رأيها هو أنّ قيام الدولة الفلسطينية هو مفتاح السلام والاستقرار وليس -كما تقول إدارة بايدن- إنّ مفتاح السلام والاستقرار هو القفزة النوعية في العلاقة السعودية- الإسرائيلية.
البيان الخليجي- الأميركي كان لافتاً على أصعدة عدّة، بما في ذلك ما جاء فيه حول حلّ الدولتين، إذ أكّد الجانبان التزامهما التوصل إلى سلام عادل ودائم وشامل في الشرق الأوسط، وفقاً لحل الدولتين، على أساس حدود عام 1967، وأي اتفاق بين الجانبين على تبادل الأراضي وفقاً للمعايير المعترف بها دولياً ومبادرة السلام العربية. لافتٌ ذلك، لأنّ هناك في واشنطن مَن سعى وراء دحض تعبير حل الدولتين وإلغاء ذكر المبادرة العربية كأساس للاتفاق.
كذلك كان لافتاً الترحيب الأميركي الرسمي في البيان الخليجي- الأميركي بالجهود العربية لحل الأزمة السورية، وكذلك إيضاح المفهوم الخليجي للاتفاق مع سوريا. فقد جاء في البيان، التأكيد على حل سياسي “يتوافق مع القانون الإنساني الدولي، بما يتماشى مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 لعام 2015″، والأهم، ترحيب الوزراء “بالجهود العربية لحل الأزمة بشكل خطوة مقابل خطوة، بما يتوافق مع القرار 2254″، والدعم “للقوات الأميركية وقوات التحالف التي تعمل على تحقيق الهزيمة لـ”داعش” في سوريا”.
إيران أيضاً كانت موجودة في المحادثات كما في البيان، إذ أتى الالتزام الأميركي- الخليجي المشترك بمواجهة أي أعمال عدوانية أو غير قانونية “تهدّد الممرات الملاحية والتجارة الدولية والمنشآت النفطية في دول مجلس التعاون”، أتى تحت بند إيران. كان هناك ترحيبٌ باستئناف العلاقات الدبلوماسية السعودية- الإيرانية، وتحت البند نفسه، أي بند إيران، كان هناك تلميح إلى دور طهران في تحقيق اختراق في موضوع اليمن، أو في تعطيله. ووراء الكواليس، جرت أحاديث حول آفاق الانفتاح الخليجي على إيران، لجعلها دولة عاقلة، وحول الدور العُماني المستمر في تهدئة إيران، وتأكيد النوايا الخليجية الطيبة تجاه إيران، لإزالة مخاوفها وحس المغامرة لديها.
أجواء بلينكن في لقاء جدّة واجتماعات الرياض ليست الأجواء ذاتها التي ميّزت العلاقة الأميركية- السعودية في الماضي. إدارة بايدن أدركت أنّ السعودية دخلت حلبة الدول الفاعلة إقليمياً ودولياً، وأنّ الخطاب السياسي معها تطلّب من إدارة بايدن إعادة النظر فيه وإصلاح قواعده. فلا استغناء عن دور السعودية في حل المشاكل الإقليمية وكذلك الدولية، ولا مجال لتجاهل المواقف السعودية. وهذا هو الجديد في العلاقات الأميركية- السعودية، بعد الإقرار الأميركي في أنّ دور السعودية جيو-سياسي رائد في رسم التوجّهات وليس راضخاً للإملاءات الجيو-سياسية.
المصدر: النهار العربي