يتابع العديد من شعوب منطقة الشرق الأوسط التقارب الذي تشهده العلاقات بين إيران والمملكة العربية السعودية بشيء من الاستغراب، لأن الطرفين كانا على قطيعة وعلى عداء لبضع سنوات. إلا أن في عالم العلاقات الدولية هذا ليس بشيء غير عادي. فالدول تختلف في ما بينها وأحياناً الخلاف يتصاعد إلى حد العداء والقطيعة وربما الحرب. يجب التذكر دائماً أن الحرب هي استمرار للسياسة لكن بوسائل عنيفة. التقارب بين السعودية وإيران لا يعني أن الخلافات بين الطرفين قد انتهت وأنهما باتتا حليفتين.
فالاتفاق الذي رعته الصين يتضمن بنوداً على الطرفين تنفيذها لإنهاء الخلاف بينهما وتسهيل عملية تطبيع العلاقات. وبالتالي، فإن الأمور ما زالت في مراحلها الأولى ويجب استكمال خطوات لبناء الثقة وتعزيز الاستقرار في المنطقة.
يبدو أنه حتى هذه اللحظة الأمور تسير في الاتجاه الصحيح بين الطرفين. لكن لا تزال هناك العديد من الجهات، بخاصة في الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، ممن تراهن على أن إيران لن تلتزم ما تعهدته، بخاصة في ما يخص إنهاء دعمها الميليشيات وتصدير الثورة وتهديد الملاحة البحرية والتدخل في شؤون الدول العربية. ولذلك لا تبدي هذه الجهات قلقاً كبيراً من هذا الاتفاق وتبعاته، بل تتابع سياساتها من دون تغيير يذكر. ولا تزال إدارة الرئيس جو بايدن تسعى للوصول إلى اتفاق نووي جديد مع إيران يؤدي إلى وقف تخصيب اليورانيوم إلى مستويات عالية وبكميات كبيرة واستئناف عمليات التفتيش، الأمر الذي سيساعد على منع عمل عسكري من جانب إسرائيل. وبحسب تقارير صحافية إسرائيلية وغربية، فإن الطرفين الأميركي والإيراني أحرزا تقدماً في محادثاتهما.
أكثر ما يهدد أي محاولة لتطبيع العلاقات بين الدول العربية وإيران هو استمرار اعتماد إيران سياسة تصدير الثورة بهدف تعزيز نفوذها في المنطقة، وتوسيع انتشارها العسكري خارج حدودها عبر الميليشيات المذهبية. وهذا ما تمت الإشارة إليه سابقاً من جهات عدة، ترى أن على إيران أن تختار بين أن تتصرف كحكومة ثورة إسلامية أو كدولة ضمن مفاهيم المجتمع الدولي ومعاييره وأعرافه، والحوكمة العالمية التي تتبعها الغالبية العظمى من دول العالم.
فعلى سبيل المثال، قامت السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر بتطبيع علاقاتها مع تركيا، وقد قررت الأخيرة قطع علاقاتها مع حركة الإخوان المسلمين التي تحرّض ضد حكومات الدول العربية. الخطوات السريعة والحازمة للحكومة التركية بوقف نشاطات الإخوان المسلمين المعادية للحكومات العربية تعكس قراراً استراتيجياً أدى إلى تحسن كبير في العلاقات مع أنقرة وادّعاء تدفق الاستثمارات العربية بمليارات الدولارات على تركيا. فهذا تصرف دولة أخذ بالاعتبار مصالح الشعب التركي ومؤسساته. فهل تستطيع إيران أن تقوم بالأمر وتتصرف كدولة تبحث عن أمن شعبها واستقراره ومصالحه، أم تستمر وراء حلم تصدير الثورة وإنشاء الميليشيات المذهبية في الدول العربية المحيطة بها؟
وعلى المقلب الآخر، تحاول الحكومة الإسرائيلية، بمساعدة واشنطن، توقيع اتفاق سلام مع السعودية لتعطي زخماً جديداً للاتفاقيات الإبراهيمية وترفع من رصيد حكومة بنيامين نتنياهو داخلياً ودولياً وتعطي دفعاً انتخابياً لبايدن قبل عام ونيف من الانتخابات الرئاسية الأميركية. لم تغلق السعودية الباب أمام مقترحات السلام مع إسرائيل، إلا أنه لا يبدو أنها ستقدم على خطوة كهذه وبأبعادها الكبيرة إقليمياً من دون الثمن المناسب. فالمملكة اليوم تتبع سياسة تخفيض التوتر في المنطقة وإعطاء دور أكبر لدول الشرق الأوسط لحل خلافاتها بنفسها. لكنها في الوقت عينه تسعى لتحقيق رؤية 2030 الإنمائية التي ستؤدي إلى مضاعفة قوة المملكة اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً. وبحسب مصادر أميركية مطلعة، فإن من بين الأمور التي تطالب بها الرياض مقابل توقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل هو أن تمتلك برنامجاً نووياً مطابقاً للذي تملكه إيران، أي أن تكون لديها القدرة على تخصيب اليورانيوم. فكما رضيت أميركا والدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن بامتلاك إيران برنامجاً كهذا، فعليها أن ترضى بالأمر مثله للسعودية. تجدر الإشارة إلى أن السعودية كانت قد أعلنت مطلع العام عن اكتشاف حقول من اليورانيوم يمكن استغلالها في تشغيل مفاعلات نووية لتوليد الطاقة محلياً.
من الصعب على واشنطن وتل أبيب أن توافقا على امتلاك دول في الشرق الأوسط برامج نووية متكاملة، أي أنه يمكن أن تكون لها استخدامات عسكرية مستقبلاً. فالدولة التي تملك القدرة على تخصيب اليورانيوم تستطيع وفي وقت قصير أن تخصّب ما يكفي بنسبة 90 في المئة لتصنيع سلاح نووي. فأميركا تعارض امتلاك أنظمة غير ليبرالية ديموقراطية برامج نووية وتعتبرها خطراً عليها وعلى السلام الدولي. هذا فيما تريد إسرائيل أن تحتكر ملكية السلاح النووي في الشرق الأوسط منعاً لوجود أي تهديد وجودي لها. لكن موافقة القوى العظمى على امتلاك إيران برنامجاً نووياً متكاملاً قوّض السياسة الأميركية ولم يعد من المنطقي أن ترفض أن تمتلك دولاً أخرى مثل السعودية ما وافقت هي (واشنطن) عليه لإيران وقبلها لإسرائيل.
التنافس بين الصين وأميركا على رعاية اتفاقيات السلام في الشرق الأوسط بات جلياً. فبعدما نجحت الصين في التوسط بين الطرفين السعودي والإيراني، ها هي واشنطن تحاول التوسط بين السعودية وإسرائيل. لكن الأهم من التوصل إلى الاتفاق هو النجاح في تنفيذه واستمراريته لإتمام التطبيع في العلاقات بين الطرفين. وهذا الامتحان الذي تواجهه إيران اليوم التي أتيحت لها فرصة ذهبية لتغيير الاتجاه السلبي التي كانت تتجه صوبه. والدول تختار مسار الدبلوماسية بعد أن تكون قد اقتنعت بأن المسار العسكري لم يعد مجدياً ولا يحقق أي مكاسب. وفرص إقناع الخصم بالتوقيع على اتفاقية مصالحة وسلام نادرة، وبالتالي يجب عدم إهدارها لأن انهيار عملية التطبيع سيؤدي إلى فقدان الثقة من جديد والاتجاه إلى تصعيد كبير أخطر مما كان سابقاً. فالكرة في الملعب الإيراني اليوم، إذ إنه هو الطرف المهاجم والذي عليه التراجع لإنجاح المبادرة الصينية.
أما بالنسبة إلى إسرائيل وأميركا، فهما بلا شك يدركان الموقف السعودي وشروطه للانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية. توقيع اتفاقية مع السعودية سيفتح الباب على مصراعيه لإسرائيل لتوقع مع دول عربية أخرى، الأمر الذي سيعزز موقعها في المنطقة. لكن حتى حينه فإن واقع الحال هو أن المواجهة بين إسرائيل وإيران مستمرة على الساحة السورية وإمكان التصعيد بينهما قائم ويزداد سخونة مع تأخر توقيع اتفاق نووي جديد بين طهران وواشنطن. فكما تكون اتفاقيات السلام بين الخصوم ممكنة ومفاجئة، كذلك هي الحال بالنسبة إلى الحروب. فهي قرارات تؤخذ في دقائق تغير واقع الحال وشكل المستقبل.
المصدر: النهار العربي