ما يحصل في تركستان الشرقية يؤرقني كثيراً, وخاصة بعدما شاركت في “المؤتمر العالمي لنصرة قضية تركستان الشرقية” في اسطنبول ما بين 10 إلى 12 حزيران 2022, ومنذ ذلك الحين لم تعد تغادر مخيلتي وأفكاري ووجداني ما سمعته في هذا المؤتمر من الناجين وشهود العيان من أبناء تركستان الشرقية حول أشكال القمع والإضطهاد والوحشية والطرق الفاشية التي تطبقها السلطات الصينية ضد المسلمين هناك.
تبلغ مساحة تركستان الشرقية أكثر من 1.8 مليون كم مربع, أي خمسة أضعاف مساحة ألمانيا, ويعيش فيها حوالي 30 مليون مسلم, وهي غنية بثرواتها الطبيعية والزراعية والمياه. أما ثرواتها الباطنية فهي كثيرة جداً ومنها على سبيل المثال البترول (25% من احتياطي الصين) والغاز الطبيعى (28% من احتياطي الصين) والذهب والفضة والبلاتين والفحم واليورانيوم النقي، وبذلك فإن 40% من دخل الصين كله يأتى من تركستان الشرقية بينما فى المقابل يعيش 80% من مسلمى الإيغور تحت خط الفقر.
بعدما احتلت الصين تركستان الشرقية في عام 1949 قامت بتحويلها إلى مقاطعة بوليسية حقيقية تحت ذريعة مكافحة الإرهاب, حيث يمكنك أن ترى كاميرات المراقبة ونقاط التفتيش في كل مكان, ورجال الأمن مزروعين في كل زاوية, مسلحين بقوانين وصلاحيات عنصرية تقيّد الحياة الدينية للسكان المسلمين وتمنعهم من أن يطيلوا لحاهم، أو يسموا أطفالهم بأسماء إسلامية، أو يقيموا طقوس الزواج الدينية أو إرتداء الحجاب.
السلطات الصينية بنت سجوناً كثيرة على شكل معسكرات يُسجن فيها مئات الآلاف, حيث وصل مجموعهم الآن إلى عدة ملايين من المسلمين بسبب اعتقادهم الديني أو إرثهم الثقافي. هذه المعسكرات يطلقون عليها أسماءً مضللة مثل “معسكرات التأهيل” والتي هي في الحقيقة ليست إلا أماكن لغسل دماغ المسلمين حتى يتخلوا عن دينهم وثقافتهم ويصبحوا مواطنين “صالحين” حسب ما تراه السلطات الصينية. وبهذا أصبحت كل تركستان الشرقية سجناً كبيراً محاطاً بأسلاك شائكة, يصعب الهروب منه, وحتى القلة القليلة التي استطاعت أن تهرب من هذه السجون, ومنهم الذين التقيت بهم في مؤتمر اسطنبول, لا يشعرون بمأمن من سطوة ذراع الصين الطويلة, حيث أن الصين تستخدم سفاراتها في الخارج من أجل قمع النشطاء والمعارضين, وهي تهدد حتى وسائل الإعلام الأجنبية والجامعات ومنظمات حقوق الإنسان في الدول الأخرى وتمنع أعضاء البرلمانات من الزيارات الميدانية لكي لا يطلعوا على الجرائم التي تحصل في هذه المعسكرات وعلى الأوضاع اللاإنسانية في تركستان الشرقية.
لقد تم تسريب تقارير ووثائق صادمة حول الأوضاع اللاإنسانية في المعتقلات الصينية مما دعى المفوضة السامية الأممية لحقوق الإنسان آنذاك, السيدة ميشيل باشلية, أن تزور تركستان الشرقية وتقف على حقيقة ما يجرى هناك. بعد زيارتها لم تنشر تقريرها حول هذه الزيارة إلا قبل نهاية مهمتها في الأمم المتحدة بعشرة دقائق وذلك في ليلة 31.08.2022, والتي وصفت فيه انتهاكات حقوق الإنسان في تركستان الشرقية على أنها “إجرام ضد الإنسانية”, وعلى أثر ذلك وقّعت 43 دولة بيانا يدين انتهاكات الحكومة الصينية ضد أقلية أتراك الأويغور. وبذلك فرض الإتحاد الأوربي عقوبات ضد مسؤولين في الصين إضافة إلى شركات صينية.
الجريدة الألمانية, تاغيس شبيغل (Tagesspiegel) , سلّطت الضوء بتاريخ 24.05.2022 على الوضع اللاإنساني في المعتقلات الصينية وخاصة على الصلاحيات التي تعطى لرجال الأمن في المعتقلات والتي تصل إلى حد قتل الذين يحاولون الفرار من هذه المعتقلات, مبدأهم في ذلك “أقتله قبل أن تُخبر عنه”.
أما الحكومة الألمانية وبناءً على هذه التقارير وصفت ما تقوم به السلطات الصينية ضد مسلمي تركستان الشرقية بأنها “أعمال مرعبة وصادمة”. إضافة إلى ذلك فهي وثًقت, وبعملية غير مسبوقة من نوعها, إنتهاكات حقوق الإنسان في تركستان الشرقية, في عقد الإئتلاف الحكومي بين الأحزاب الحاكمة الثلاثة, الحزب الإشتراكي الديمقراطي والحزب الليبرالي وحزب الخضر, وشجبت بما تقوم به السلطات الصينية في تركستان الشرقية. حتى أن هنالك دولاً ذهبت إلى أبعد من ذلك, مثل هولندا, والتي أقر برلمانها اقتراحا بأن “أقلية الإيغور المسلمة تتعرض إلى إبادة جماعية في الصين”، وهو أول برلمان أوروبي يتخذ هكذا خطوة. وكذلك اعتمد البرلمان الفيدرالي الكندي، قانوناً يعتبر أنّ ممارسات الصين بحق مسملي الأيغور يرقى إلى مستوى “إبادة جماعية”.
ولكن وللأسف, وبالرغم من المواقف الغربية الشاجبة لما يحصل في تركستان الشرقية, يوجد هنالك الكثير من الشركات الأمريكية والأوربية التي لديها استثمارات هائلة في تركستان الشرقية, وحتى منها من يشتري ما ينتجه المعتقلون والمعتقلات في “معسكرات التأهيل” بأسعار زهيدة غير مكترث بانتهاكات حقوق الإنسان ومتجاهل أن عمله هذا يشجع النظام الصيني على ممارسة العبودية الحديثة, وبذلك هي يدوس على القيم الإنسانية بأقدامه من أجل مصالحه الاقتصادية.
من خلال تجربتي الخاصة وما حصل معي شخصيا عندما كنت عضوا في برلمان مقاطعة شمال الراين فستفاليا في لجنة الشكاوي والإسترحام (Petitionsausschuss), حيث زارنا وفد برلماني من الصين يدّعي بأن من بعض مهامه في الصين تشبه مهامنا نحن في البرلمان, ولكنني عندما طرحت عليهم أول سؤال حول الأوضاع اللاإنسانية في تركستان الشرقية وقدمت لهم ثلاثة حالات إنسانية وملفات بهذا الخصوص, استشاط رئيس الوفد غضباً وما كان منه إلا أن يقف فجأة ويغادر القاعة مع أعضاء الوفد المرافق له ومترجمتهم. ما حصل في هذا اللقاء يبيًن لنا بأن حقوق الإنسان في تركستان الشرقية ممنوع الحديث عنها حتى ولو كان ذلك بعيدا عن الأراضي الصينية.
ما يحصل مع مسلمي تركستان الشرقية من انتهاكات لحقوقهم لم يعد مخفيا على أحد ولكن أغلب دول العالم ومنها الإسلامية ضمنا تُغمض عينيها عما يحصل هناك تحسبا لقوة الصين الاقتصادية.
إن الوضع في تركستان الشرقية لا يطاق ولم تعد الدبلوماسية الناعمة لوحدها مجدية للوقوف في وجه السياسة العنصرية التي تتبعها السلطات الصينية ضد المسلمين, بل أصبح الأمر يحتاج إلى مواجهة فعّالة وبكل الوسائل الإعلامية والدبلوماسية والاقتصادية والسياسية وأقلها هو فرض عقوبات على شركات وأشخاص متورطين في انتهاكات حقوق الإنسان أو داعمين لها.
الشيء المخجل بأن هنالك صمت جماعي في كل الدول الإسلامية ما عدا بعض الهمسات الخجولة التي نسمعها من هنا وهناك.
المسلمون في تركستان الشرقية يعانون الكثير وعلى العالم الحر أن يعمل كل ما بوسعه من أجل أن يعيش المسلمون في تركستان الشرقية بكامل حقوقهم وبعزتهم وكرامتهم ويقرروا مصيرهم بإرادتهم, وأن لا يضطهدهم أحد بسبب صلاتهم أو صيامهم أو حجهم أو تسمية أبنائهم وبناتهم بأسماء إسلامية, وأن لا يُعاقَبوا بسبب ملابسهم الدينية أو التقليدية, وأن لا تُجبر فتياتهم على الزواج من غير المسلمين تحت ذريعة ما يسمى ب”عملية الإندماج”.
على كل إنسان حر أن يعلم بأنه إن سكت على ظلم الآخرين فهو من الظالمين, وإن برّر الإجرام فهو شريكٌ فيه, وإن غض الطرف عن إنتهاكات حقوق الإنسان في أية بقعة كانت من العالم فسيأتي اليوم الذي يشهد فيه التاريخ على خذلانه لأخوته في الإنسانية, ومن المعروف بأن للتاريخ ذاكرة قوية وهو لا يرحم.