ليس هناك أميركا واحدة. على مساحة البلاد الشاسعة يكاد يصبح البيت الأميركي بمنازل كثيرة. هذه الفجوات العرقية والاقتصادية والاجتماعية لم تظهر مع انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ولن تذهب معه. لكن هذا الرئيس يبرهن يومياً أنه مستعد لإدخال بلده في أزمات وحروب هوية واقتتال عرقي حتى يصرف النظر عن عيوب إدارته الكثيرة، ويضمن الفوز بولاية رئاسية ثانية في الخريف المقبل. استغلال ترامب مكامن ضعف النظام الأميركي، عبر نزعات استبدادية وتقسيمية، يُدخل الولايات المتحدة في أصعب اختبار لها منذ المواجهات الشرسة خلال حركة الحقوق المدنية في القرن الماضي.
ومثلما أدخل نائب الرئيس الأسبق ديك تشيني إلى مخبأ تحت الأرض في البيت الأبيض في أثناء اعتداءات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، سيذكر التاريخ أن جهاز الخدمة السرية الأميركي سارع إلى فعل الأمر نفسه مع ترامب، على مدى ساعة من التظاهرات وسط العاصمة واشنطن، احتجاجاً على مواقفه الاستفزازية من مقتل المواطن الأفريقي الأميركي جورج فلويد في مدينة مينيابوليس. عقلية إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش الابن نفسها مستمرة مع ترامب، في تبرير ممارسات مثيرة للجدل دفاعاً عن سياسات خاطئة. وزير الدفاع الأسبق دونالد رامسفيلد اعتبر، في إبريل/ نيسان 2003، أن “الفوضى والنهب” في بغداد بعد الغزو الأميركي “نتيجة طبيعية للانتقال من دكتاتورية إلى بلد حر”، فيما الدونالد الآخر يتباهى اليوم في استعراض القوة ضد مواطنيه: “عندما يبدأ النهب، يبدأ إطلاق النار”.
تعيش أميركا في ظل ترامب مرحلة شديدة التقلب، يحكمها عدم اليقين، كأنها استعادة لأحداث عام 1968. كانت الولايات المتحدة حينها في ذروة حرب فيتنام، التي قتل فيها أكثر من 58000 جندي أميركي على وقع مواجهات في الداخل بين الشرطة والنشطاء المناهضين لهذه الحرب. وكانت حركة الحقوق المدنية تقود احتجاجات شعبية، زادت وتيرتها بعد اغتيال كل من القس مارتن لوثر كينغ ووزير العدل الأسبق روبرت كينيدي. فيما أميركا اليوم تواجه تداعيات فيروس كورونا، على وقع احتجاجات تنتقل من مدينة إلى أخرى، رفضاً لاستخدام الشرطة للعنف المفرط حتى القتل ضد الأفارقة الأميركيين.
الانقسام عام 1968 كان حول قضايا كبيرة تُحدد مستقبل الأميركيين. لكن الانقسامات التي يغذيها ترامب اليوم لا دوافع لها غير تجهيز أرضية تعزز الانقسامات الحزبية وتحشد قاعدته الانتخابية. لم يكن لترامب أي علاقة مباشرة بقتل جورج فلويد، وكان يمكنه أن يصدر بيان إدانة ويأخذ مسافة من الموضوع. لكن الأسبوع الماضي كان مأساوياً للرئيس على المستوى السياسي، وبالتالي فتح حروب مجانية على أكثر من جبهة لصرف الأنظار عن هذا الأمر، من “تويتر” والصين، مروراً بالتحذير غير المبرر من الاقتراع عبر البريد الإلكتروني، وصولاً إلى أحداث الشغب في ولاية مينيسوتا.
كل هذا لأن الرئيس قرر الاستقالة من الحكم والتفرغ بدوام كامل لحملته الرئاسية. ما يحاول ترامب فعله، هو إخفاء الأرقام الفعلية التي يخشى أن يركز الأميركيون عليها في هذه المرحلة: وفيات كورونا، والوضع الاقتصادي، واستطلاعات الرأي الرئاسية. أولاً، تجاوزت حالات الوفاة نتيجة الفيروس عتبة الـ100 ألف، لكن الرئيس يتوق إلى استعادة الحياة التقليدية، وتمكن من افتعال مشاكل جديدة تُنسي الأميركيين الموت المتنقل نتيجة الجائحة، من دون أي استراتيجية جدية للإدارة في التعامل معها أبعد من الإصرار على إعادة فتح الاقتصاد. ويزداد في هذه الأثناء التردي الاقتصادي، مع انكماش الناتج المحلي بنسبة 5 في المائة في الربع الأول من العام الحالي، والتوقع أن تكون الأرقام أسوأ في الربع الثاني. إدارة ترامب قررت في سابقة عدم نشر التوقعات الاقتصادية هذا الصيف، على الأرجح لأسباب سياسية، كي لا تؤثر بفرص إعادة انتخاب الرئيس، ولا سيما أن هذا التراجع يُعَدّ من الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية. ووصلت البطالة إلى 20 في المائة، وهي أعلى نسبة منذ الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي.
الوقائع التي يحاول ترامب أن يخفيها أيضاً، هي أن نائب الرئيس الأسبق ومنافسه عن الحزب الديمقراطي جو بايدن، على الرغم من بقائه في الطبقة السفلى من منزله في ولاية ديلاور منذ شهرين، يتقدم عليه في معدل استطلاعات الرأي الوطنية بفارق 6 نقاط. وبدأ أيضاً يقلب استطلاعات الرأي لمصلحته في الولايات الأبرز المتأرجحة انتخابياً، مثل بنسلفانيا وفلوريدا وويسكونسن. كل استطلاعات الرأي العشر في الشهر الماضي أعطت بايدن أفضل وضعية فوز لأي منافس يتحدى رئيس في الحكم، منذ اعتماد استطلاعات الرأي في ثلاثينيات القرن الماضي. تشير هذه الاستطلاعات أيضاً إلى أن النسبة الصافية لتقييم الأميركيين لأداء ترامب وصلت إلى ناقص 10 في المائة، وهذا المستوى المنخفض يوازي نسبة موافقة عن أداء الرئيس الأسبق جيمي كارتر خلال حملته الانتخابية عام 1980، والرئيس الأسبق جورج بوش الأب عام 1992، وخسر كلاهما الانتخابات الرئاسية في العام نفسه. عبر إذكاء الفتنة العنصرية، يحاول ترامب أن يبرهن أن استطلاعات الرأي ستكون مخطئة، كما كانت في انتخابات عام 2016، لأنها لا تأخذ بالاعتبار قدرته على تحشيد قاعدته للإقبال على الاقتراع عبر مواقف استفزازية متكررة.
وفي تماهٍ مع ستينيات القرن الماضي، يصرّ ترامب على التمثل بسلفه ريتشارد نيكسون، ليس فقط في فضائح استغلال السلطة والفساد السياسي، بل بتكرار شعار “القانون والنظام”، الذي أعلنه نيكسون بعد احتجاجات حركة الحقوق المدنية، فيما منافسه المرشح الرئاسي الثالث حاكم ولاية ألاباما جورج والاس، كان يغذي غضب “الرجل الأبيض” عبر ترويج التفرقة العنصرية في حملته الانتخابية. الفارق في العام الحالي، أن ترامب يجمع بشخصه كلاً من ريتشارد نيكسون وجورج والاس، بدل القيام بواجبه الدستوري في توحيد الأميركيين خلال مرحلة الأزمات.
فريق الرئيس منقسم بين كبير الموظفين في البيت الأبيض مارك ميدوز، الذي يدفع نحو خطاب رئاسي يعزز مبادئ الحزب الجمهوري، حول ضرورة فرض الأمن، فيما يرفض كبير مستشاري الرئيس وصهره جاريد كوشنر هذه المقاربة، لأنها قد تؤثر سلباً بفرص الفوز بالانتخابات، ولا سيما عبر تهميش الناخبين الأفارقة الأميركيين. وبالتالي لا يملك ترامب أي استراتيجية مركزية، بل يكتفي بارتجال تغريدات يومية تخدم مصالحه السياسية، بدل احتواء الأزمة وإدارتها.
هناك الآن حظر تجول في أكثر من 25 مدينة أميركية، فيما يهدد الرئيس السلطات المحلية لتتشدد في ضبط الأمن، وإلا فستتدخل الحكومة الفيدرالية “لاستخدام القوة غير المحدودة لجيشنا”. هذه العسكرة غير المبررة من ترامب تضغط على الشرطة المحلية لمواجهة المواطنين بدل اتباع نموذج شرطة ميامي، التي تظاهرت مع المواطنين في رفض قتل فلويد بدل قمعهم. الحرس الوطني نشر 5000 جندي في 15 ولاية، لكن استعراض ترامب لعضلات هذه المؤسسة العسكرية ليس فقط خطيراً على الأمن الاجتماعي، بل يعكس تهديدات فارغة لا تعكس صلاحيات الحكومة الفيدرالية. الحرس الجمهوري يتحرك في كل ولاية بأمر من حاكم الولاية، لا الرئيس في واشنطن، الذي هناك ضوابط قانونية عليه من الكونغرس والمحاكم إذا أراد استخدام الجيش لفرض القانون في الداخل الأميركي. هذا التدخل الفيدرالي لا يمكن أن يحصل دون طلب رسمي من حاكم الولاية بموافقة مجلس نواب الولاية نفسها. ولسخرية القدر، القانون فيه سوابق سمحت بالتدخل الفيدرالي في نطاق عمل الولايات، وذلك في خمسينيات القرن الماضي وستينياته لحماية الحقوق المدنية للأقليات ذات البشرة الداكنة، وإنهاء نظام التفرقة العنصرية في الجنوب المحافظ. فضلاً عن ذلك، إن لعناصر الحرس الوطني قواعد اشتباك واضحة تضعها قيادة الجيش الأميركي، وهذه القواعد لا تشمل إطلاق النار في حال وجود أعمال نهب كما طلب ترامب في تغريداته.
والأهم من ذلك، فإنه بالتزامن مع وصف ترامب للمحتجين بأنهم “قطاع طرق”، كان مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض يقول بصراحة إن الرئيس لن يستخدم صلاحيات استثنائية بإحكام السيطرة على الحرس الوطني، ولا سيما أن هذا الأمر قد يؤدي إلى تفاقم الأزمة، سياسياً ودستورياً. بل إن مجلس الأمن القومي حافظ على رسالة هادئة، مفادها أن الحكومة الفيدرالية جاهزة لكل ما تطلبه السلطات المحلية. الارتباك الذي حصل في مينيسوتا لا يتحمل مسؤوليته ترامب ولا الحكومة الفيدرالية، بل القيادات الديمقراطية في هذه الولاية التي فشلت في إصلاح الشرطة، وتباطأت في اعتقال عناصر الشرطة الذين قتلوا فلويد، ولا تزال مترددة في محاكمتهم تحت ذريعة حصانة الشرطة، لأداء مهماتها في بيئة صعبة. هذا الكلام الاستهلاكي لترامب يأتي ضمن سياق تصوير نفسه أنه “الرجل القوي”، ويحاكي تمجيد قاعدته لدور الجيش، ويظهر أيضاً أن الديمقراطيين في مواقع المسؤولية في الولايات ضعفاء في فرض الأمن.
حجم ردّ الفعل الشعبي على مقتل فلويد ليس جديداً، ولا يأتي من فراغ، بل هناك مأسسة للعنصرية في الشرطة الأميركية في بعض الولايات، كما في سلطات فرض القانون عامةً. إحصائية منظمة “رسم خريطة عنف الشرطة” تشير إلى أن 99 في المئة من عمليات القتل على أيدي الشرطة بين عامي 2014 و2019 لم تؤدِّ إلى اتهام أو إدانة عناصر الشرطة المتورطين. أحداث القتل التي تورطت فيها الشرطة بين عامي 2013 و2019 بلغت 7666، وكان هناك 27 يوماً فقط لم تقتل فيها الشرطة أحداً في العام الماضي. والأفارقة الأميركيون هم ثلاث مرات أكثر عرضة للقتل من البيض على أيدي الشرطة، ويشكلون 13 في المائة من نسبة السكان، لكنهم يملكون 2.6 في المائة فقط من الثروات الأميركية.
المصدر: العربي الجديد