لعل أهم مايمكن أن يستفاد منه ويُستنتج في الانتخابات التركية الرئاسية والبرلمانية، هو نموذج الممارسة الديمقراطية التي عاشها الشعب التركي خلال الأيام المنصرمة، والتي أظهرت مدى عمق التجربة الديمقراطية التركية، وقدرتها الأكيدة على إعادة تأسيس العمل السياسي التركي ليكون ملمحًا فريدًا في الإقليم، يمكن أن يُحتذى به، عبر الوصول المبتغى إلى بوابات العمل الوطني، في محيط تركيا، وخاصة في الجغرافيا السورية، حيث تُفتقد الديمقراطية ويُستعاض عنها بالقمع والقتل والاعتقال الأسدي، الذي يتخارج كليًا مع المسألة التغييرية الديمقراطية، ويتنافى جملة وتفصيلًا مع كل الحالة الديمقراطية، مستبدلًا إياها بنماذج أخرى طالما عانى منها الشعب السوري، وخلقت منه شعبًا متطلعًا للحرية والكرامة على طول المدى.
رغم حالة الاستقطاب الكبرى التي شهدتها تركيا خلال الأيام والأسابيع الآفلة، والتحاجز الداخلي والأيديولوجي الذي عبر عن نفسه في جل تموضعات الدولة التركية، فإن ماجرى من انتقال إلى جولة انتخابية رئاسية ثانية، يدل بما لا يقبل الشك، على أن الحكومة التركية بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان كانت مصداقة كل الصدق في التعاطي مع الممارسة الديمقراطية، في وقت كانت فيه قادرة كل القدرة على الإلتفاف بعيدًا عن الحالة الديمقراطية، ومن ثم وقف عملية الوصول جولة الإعادة، حيث تم الانتقال إليها بفارق بسيط جدًا، لكنها وهي مؤمنة كل الإيمان بشعبها وصادقة معه، لم تسمح بأي تلاعب ولأي التفاف على العملية الديمقراطية، وبقيت مصرة على الممارسة الديمقراطية، بشفافية واضحة، شهد بها ولها العدو قبل الصديق.
في التجربة الديمقراطية التركية برزت عدة عوامل ومحددات أنارت الطريق وساهمت في الدفع قدمًا نحو تركيا الحرة الديمقراطية، عبر قطيعة كلية مع الفكر الشوفيني المتعصب، وانفتاح عصري على واقع جديد متجدد، لم يزل ضمن القدرة والاقتدار على إنجاز ماعجز عن إنجازه سواها، رغم ادعاءات الآخرين بامتلاك العَلمنة والديمقراطية، التي انكشفت هلاميتها، ولا جدواها، في مقابل من يمتلك السلطة ويدفع بالديمقراطية إلى الأفضل والمصداقية الأكثر.
إن جملة الملامح والمحددات التي تمظهرت خلال هذه الانتخابات كانت الشخصية الكارزمية للرئيس رجب طيب أردوغان وقدراته السياسية المحنكة في الولوج جديًا في عملية القيادة والبناء وتخطي كل المعوقات التي حاول الآخر وضعها في الطريق.
إضافة إلى ذلك كانت تجربة (تحالف الجمهور) من التجارب التركية الأردوغانية التي تجاوزت كل الأشواك وتمكنت من إيصال الأغلبية المريحة لحزب العدالة والتنمية، ليقود البرلمان بهدوء، ولجم كل محاولات الطرف الآخر لعرقلة ذلك، وهي تجربة عميقة وقوية وعاقلة جمدت كل طموحات الطاولة السداسية ووضعتها في الزاوية دون القدرة على التخطي.
ولم تكن الأصوات الكثيرة التي حصدها (تحالف الجمهور) ضمن الولايات التي أصابها الزلزال المدمر، إلا دلالة واضحة على ماتم إنجازه من عمل وصل الليل بالنهار وأقنع كل المتضررين وأوصلهم إلى التصويت لصالح الحكومة وحزبها، رغم آلامهم، ورغم أزمة وعمق الجرح جراء الزلزال.
لن ننسى السياسة التركية الخارجية التي راحت تعمل على (صفر مشاكل) وتفتح العلاقة مع الجميع في الإقليم، وفي العالم، كي تحقق مصالح شعبها وتبني دولة لها وزنها السياسي والاقتصادي والعسكري الذي بات يُحسب له كل الحساب.
لقد حققت هذه التجربة الديمقراطية التركية البرلمانية والرئاسية ماعجز عن تحقيقه سواها، وضمن إمكانيات ذاتية فعلت كل شيء من أجل تركيا الواحدة والقوية. ومن ثم فإن السوريين في تركيا مابرحوا يتحسرون على أوضاعهم، عندما يقارنون ماجرى في تركيا بحالهم الذي يعيشون فيه منذ عشرات السنوات، عبر استمرار سياسات القمع وكم الأفواه، وممارسة الانتخابات والاستفتاءات (المهزلة) التي هي أبعد ماتكون عن الديمقراطية أو أدوات الحرية. فهل يأمل الشعب السوري أن يعيش الديمقراطية الحقة كما يعيشها اليوم إخوتهم الأتراك؟
المصدر: صحيفة إشراق