سيتوجب على الدولة اتخاذ الإجراءات التصحيحية لمعالجة الثغرات المحددة. تزداد الأخطار المحدقة بالدولة اللبنانية يوماً بعد يوم، فالمسؤولون لا يزالون يتعاملون باستهتار مع التحذيرات والشروط المالية الدولية، خصوصاً بعد تخلف البلاد في شهر مارس (آذار) 2020 عن سداد ديونه الخارجية (اليوروبوندز) للمرة الأولى في تاريخه، مما دفع السلطات إلى السعي للحصول على تمويل جديد.
وكان “صندوق النقد الدولي” أعلن استعداده لمساعدة لبنان وشعبه على تجاوز أزمته الاقتصادية التي وصفها بالأسوأ منذ عقود، واضعاً شروطاً مسبقة للقيام بذلك، منها تشكيل حكومة جديدة لديها الإرادة والصلاحيات المطلوبة لتنفيذ الإصلاحات الشاملة الضرورية وإعادة المالية العامة إلى مسارها الصحيح وإعادة هيكلة الدين العام وإعادة تأهيل النظام المصرفي وتوسيع شبكة الأمان الاجتماعي وإصلاح المؤسسات المملوكة للدولة وتحسين الحوكمة، كما إغلاق المعابر “غير الشرعية” مع سوريا، إحدى أبرز أدوات التسرب المالي والسلعي.
وفي يونيو (حزيران) من عام 2020 نبهت “مجموعة الأزمات الدولية”، في تقرير لها إلى أن “الأزمة الاقتصادية الراهنة غير مسبوقة في تاريخ البلاد”، كما أن “لبنان يحتاج إلى مساعدات خارجية ملحة لتفادي أسوأ العواقب الاجتماعية”، وأشارت إلى أن على الجهات المانحة أن “تركز على الجهود الهادفة إلى استئصال الفساد والمحسوبية”، مذكرة بأنه “للحصول على دعم المانحين الدوليين، اعتادت الحكومات اللبنانية البدء بإصلاحات مؤسسية، إلا أنها لم تجعلها ملموسة قط”. وشكك التقرير حينها في قدرة الطبقة السياسية على الإشراف على هذا التحول، إذ إنها “موضع شك كبير” لأنه “يسحب البساط من تحت أقدامها”.
الأزمة مستمرة و”معقدة”
في السياق، حذر “صندوق النقد الدولي” على لسان رئيس بعثة الصندوق إلى لبنان إرنستو راميريز ريغو في مارس الماضي من أن “البلاد في لحظة خطرة للغاية وعند مفترق طرق”، مؤكداً أن “التقاعس عن اتخاذ إجراءات مطلوبة من شأنه أن يدخلها في أزمة لا نهاية لها”. وفي ما يتعلق بتطبيق الإصلاحات أشار ريغو إلى أن “اللبنانيين أحرزوا تقدماً، لكن مع الأسف التقدم بطيء جداً بالنظر إلى مدى تعقيد الوضع”، لافتاً إلى أن “البلد في أزمة كبيرة”، وحض الحكومة اللبنانية على التوقف عن الاقتراض من البنك المركزي.
توجه لوضع لبنان على اللائحة الرمادية
وما يزيد الوضع تعقيداً إضافة إلى تلك الإخفاقات، عدم تعاون السلطات اللبنانية بجدية مع صندوق النقد والبنك الدوليين، وأخيراً تجاهلت بيروت خطوات القضاء الفرنسي في قضية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي يواجه اتهامات فرنسية بقضايا احتيال مالي، مما تسبب في استلام إشارة حمراء من منظمة الشرطة الدولية (الإنتربول).
ودفع ذلك المجتمع الدولي إلى تشديد الرقابة وهذا ما كانت كشفت عنه ثلاثة مصادر لوكالة “رويتز” عن اتجاه “مجموعة العمل المالي” (FATF)، وهي هيئة حكومية دولية أنشأتها “مجموعة السبع” (G7) لتحديد البلدان المتورطة في غسل الأموال وتمويل الإرهاب، إلى وضع لبنان على القائمة الرمادية للدول الخاضعة لرقابة خاصة “بسبب ممارسات غير مرضية لمنع غسل الأموال وتمويل الإرهاب”. وكانت المصادر أشارت إلى أن القرار يبقى حالياً في دائرة الترجيح، إلا أنه يعطي مؤشرات غير محمودة. أما في حال اتخاذه، “فسيكون بمثابة ضربة كبيرة أخرى لدولة تعاني تدهوراً مالياً منذ عام 2019 وتكافح للتوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي”، مشيرة إلى أن “العملة الوطنية فقدت أكثر من 98 في المئة من قيمتها، مما أدى إلى إغراق معظم السكان في براثن الفقر”. وذكرت المصادر ذاتها أن “قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التابع لمجموعة العمل المالي، وهو هيئة مراقبة الجرائم المالية، أجرى تقييماً أولياً لاقتصاد لبنان”، لافتة إلى أن “الدول الأعضاء ستطلع عليه هذا الأسبوع في البحرين”. وبحسب ما أفادت به قناة “أل بي سي آي” اللبنانية، فإن “لبنان منح فترة سماح مدتها سنة لإتمام معالجات مالية ونقدية ومصرفية لتفادي وضع اسمه على اللائحة الرمادية بصفة دولة غير متعاونة”. وكانت هيئة التحقيق الخاصة، وحدة الإخبار المالي اللبنانية، أصدرت بياناً أمس الجمعة، قالت فيه إنه “بالإشارة إلى البيانات والتحليلات غير المبنية على وقائع التي صدرت أخيراً بأن لبنان ربما يدرج هذا الأسبوع على اللائحة الرمادية، نفيد بأنه تمت مناقشة واعتماد تقرير التقييم المتبادل للجمهورية اللبنانية خلال اجتماعات فرق العمل والاجتماع العام الـ36 لمجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENAFATF) التي اختتمت أعمالها أول من أمس الخميس في مملكة البحرين”. إن اعتماد هذا التقرير يأتي نتيجة عملية طويلة امتدت 16 شهراً، تم خلالها وفي ظل ظروف صعبة، تقييم نظام مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب اللبناني وفقاً لمنهجية مجموعة العمل المالي (FATF)المعتمدة لتقييم كل البلدان. وسيحدد تقرير لبنان الثغرات التي يجب معالجتها. كذلك، سيبين الجوانب الإيجابية في نظام مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب في لبنان، والتقييم خطوة حاسمة في استعادة الثقة بالنظام المالي اللبناني الذي يمر بحال فوضى منذ عام 2019.
وتكافح السلطات اللبنانية من أجل تنفيذ إصلاحات لتأمين اتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على حزمة إنقاذ. وقالت الهيئة إن التقرير المعتمد سينشر في يونيو (حزيران) المقبل من دون الإشارة إلى أي تعديلات على المسودة. وأظهرت مسودة اطلعت عليها “رويترز” أن لبنان حقق امتثالاً جزئياً فحسب في فئات عدة، من بينها تدابير مكافحة غسل الأموال والشفافية في شأن ملكية الشركات والمساعدة القانونية المشتركة في تجميد الأصول والمصادرات.
من جهته، أكد مصدر دبلوماسي اطلع على نسخة من التقرير الأولي أن “النتيجة التراكمية لهذا التقييم تضع لبنان علامة واحدة فوق عتبة القائمة الرمادية”. وأضاف البيان “سيتوجب على لبنان اتخاذ الإجراءات التصحيحية لمعالجة الثغرات المحددة على أن يقدم لمجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تقرير متابعة خلال عام 2024”. وخلص “صندوق النقد الدولي” في بحث عام 2021 إلى أن “إدراج لبنان على اللائحة الرمادية سيعطل التدفقات الرأسمالية على البلاد، إذ من المحتمل أن تنهي البنوك علاقاتها مع العملاء في الدول عالية الأخطار لتقليل كلف الامتثال”، وتشمل الأخطار الأخرى الضرر على سمعة البلاد وتعديل التصنيف الائتماني ووجود عقبات في الحصول على التمويلات العالمية وارتفاع كلف المعاملات.
مهمات “مجموعة العمل المالي” و”القائمة الرمادية”؟
تتمثل مهمات مجموعة العمل المالي (FATF) في وضع المعايير الدولية التي تهدف إلى منع الأنشطة غير المشروعة والأضرار التي قد تلحق بالمجتمع بصفتها الهيئة المسؤولة عن صنع السياسات. وتعمل المجموعة على توليد الإرادة السياسية اللازمة لإحداث الإصلاحات التشريعية والتنظيمية الوطنية في هذا المجالات. ووضعت المجموعة سلسلة توصيات تعد بمثابة المعايير الدولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وانتشار أسلحة الدمار الشامل، كما أنها تشكل الأساس لاستجابة عالمية منسقة لمنع الجريمة المنظمة والفساد والإرهاب، وتعمل المجموعة على وقف تمويل أسلحة الدمار الشامل. كما تراقب التقدم الذي تحرزه الدول الأعضاء في تنفيذ التدابير اللازمة للمكافحة وتراجع وسائل غسل الأموال وتمويل الإرهاب وتقنيات مكافحتها وتدابيرها وتشجع على اعتماد وتنفيذ التدابير المناسبة على الصعيد العالمي بالتعاون مع الجهات الدولية الأخرى المعنية بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
وبحسب مراقبين “فإن التلويح بالتصنيف الرمادي هو بمثابة تحذير من عقوبات غير مباشرة تفرض على شكل مقاطعة من المستثمرين ومؤسسات التمويل الدولية، نظراً إلى ارتفاع أخطار التعامل مع لبنان، خصوصاً مع المصارف، وهذا ينعكس على عمليات الاستيراد والتصدير، أي إن لبنان ربما يجد نفسه في عزلة دولية ومزيد من الانغلاق، مما يؤثر سلباً في الوضع الاقتصادي وسعر صرف الليرة”.
في هذا السياق، تقول الأكاديمية والمتخصصة في القوانين المصرفية سابين الكك إن “القائمة الرمادية هي البيان الذي يصدر عن مجموعة العمل المالي والذي توضع بموجبه البلدان تحت مراقبة مشددة، بعدما يتبين أن لديها أوجه قصور في أنظمتها وإجراءاتها لناحية مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. في المقابل تتعهد تلك الدول بإيجاد حلول ضمن إستراتيجية زمنية محددة. لكن اللافت في هذا السياق هو توسع نطاق النشاطات المدنية التي باتت تنطلي على عمليات مشبوهة، تخفي جرائم تبييض أموال والتي تضعها المجموعة في خانة المراقبة الحثيثة، مما يعني أنه في حال تم وضع دولة معينة على اللائحة الرمادية، فلن يسلم أي مواطن من إجراءات المراقبة المالية، حتى لو كان مثلاً يقوم بنشاط فني أو ثقافي. طبعاً الغالبية العظمى من المشاركين في الأسواق ليست لديهم صلة بالأنشطة غير المشروعة، إنما هناك أخطار مرتبطة بعمليات التداول وعلى مستويات متنوعة، وعادة ما تكون شعوب الدول المدرجة على القائمة الرمادية تفتقد إلى الوعي والفهم الكافيين لها. وينتج من ذلك نقص في موارد وخبرات التحقيق وصعوبات في متابعة التحقيقات عبر الحدود، مما سيضيق الخناق على المواطنين في روتينهم التجاري”.
على ماذا تستند مجموعة العمل الدولية في تصنيفها؟
تشير الأكاديمية سابين الكك إلى أن “لبنان عضو في مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENAFATF) وأجرت المجموعة تقييم تنفيذ وتدابير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب في لبنان. وكانت بعثة مناقشة وصلت إلى بيروت في مايو الجاري، بعدما أنهت أعمالها خلال شهر سبتمبر (أيلول) 2022 على تقييم غير مشجع وفقاً لأدبيات المنظمة. ومنذ عام 2009 تتعهد الدولة اللبنانية بتحسين نقاطها على المستويين التشريعي والقضائي وتفعيل العمل القضائي، إلا أن تحسناً ملموساً لم يحصل، ومن هنا لا تتوقع المجموعة أن يكون من شأن المهل الإضافية الدفع قدماً بالاتجاه الصحيح”.
الفرق بين القائمتين الرمادية والسوداء
وفقاً لمعايير “مجموعة العمل المالي”، تحديداً التوصية 19 من توصياتها ذات الصلة بالدول مرتفعة الأخطار، فإنه يجب إلزام الجهات المالية والجهات غير المالية الخاضعة لأحكام قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب رقم 46 لعام 2007 النافذ تطبيق تدابير العناية الواجبة المشددة، بحيث تكون فاعلة ومتناسبة مع درجة الأخطار على علاقات العمل والعمليات التي تتم مع أشخاص طبيعيين أو اعتباريين (بما في ذلك المؤسسات المالية) من فئات الدول التي تدعو المجموعة إلى اتخاذ ذلك الإجراء بحقها، وغيرها من الإجراءات المضادة التي لها تأثير مماثل في تخفيف الأخطار، وكذلك ينبغي على الدول أن تكون قادرة على اتخاذ تدابير مضادة بصورة مستقلة عن أي دعوة من قبل مجموعة العمل المالي.
وتشير الكك إلى أنه “في بيان القائمة السوداء تستشهد مجموعة العمل المالي بأوجه قصور كبيرة وخطرة في أنظمة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب في الدول المدرجة عليها، وتقترح أن تتوخى الدول المتعاملة معها الحذر الشديد حتى تجاه الشركات الموجودة فيها، كما تدعو إلى تطبيق تدابير مضادة ذات فاعلية عالية”. وتضيف أنه من بعد المهلة التي أعطيت للبنان “علام التعويل؟ ذلك أن لبنان لم يكن جدياً ولم يلتزم ولا مرة بأي من التعهدات مع صندوق النقد، ولا المهل المالية المعطاة له”. وتشدد على أن “مجموعة العمل الدولية ربما تكون حذرة بأنها لن تدق آخر مسمار في النعش”.
وتصنف الدول التالية دولاً مرتفعة الأخطار لغايات تطبيق تعليمات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وفقاً للفئتين التاليتين.
الفئة الأولى: الدول مرتفعة الأخطار (القائمة السوداء) وهي الدول التي لديها أوجه قصور إستراتيجية في نظام مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وانتشار التسلح والتي تدعو مجموعة العمل المالي جميع الدول الأعضاء إلى اتخاذ تدابير مضادة بحقها وتصنف دول عالية الخطورة وعلى القائمة السوداء، وهي جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية (كوريا الشمالية) وإيران وميانمار.
الفئة الثانية: الدول الخاضعة للمتابعة المتزايدة (القائمة الرمادية) وهي الدول التي تعمل مع “مجموعة العمل المالي” لمعالجة أوجه القصور في أنظمة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وانتشار التسلح، بحيث تتعهد هذه الدول باتباع خطة العمل المحددة للوفاء بمعالجة أوجه القصور لديها. والدول المصنفة على هذه اللائحة وبينها دول عربية هي ألبانيا وبربادوس وبوركينا فاسو وجزر كايمان والكونغو وجبل طارق وهايتي وجامايكا والأردن ومالي وموزمبيق ونيجيريا وبنما والفيليبين والسنغال وجنوب أفريقيا وجنوب السودان وسوريا وتنزانيا وتركيا وأوغندا واليمن. أما الدول التي لم تعد خاضعة لزيادة المراقبة من قبل المجموعة فهي كمبوديا والمغرب.
المصدر: اندبندنت عربية