كشف تحقيق صحفي هولندي عن وجود العشرات من جلادي النظام السوري يعيشون حياتهم في هولندا بعد أن مارسوا التعذيب وارتكبوا جرائم ضد كثيرين في معتقلات النظام، ورغم ذلك “اتضح أنه من الصعب للغاية محاكمتهم”.
وفي تحقيق مشترك لصحيفة “تراو” الهولندية وبرنامج أرغوس على قناة VPRO التابع لهيئة الإذاعة الهولندية، روى لاجئ سوري كيف فوجئ وأصيب بالذعر عندما رأى أحد جلادي الأسد الذين عذبوه في السجن.
ففي أحد الأيام كان اللاجئ السوري (رينيه اسم مستعار) ينظر من نافذة القطار الذي يُقلّه في محطة أمستردام لكنه فجأة تجمد حين رأى وجهاً يعرفه جيداً لواحد من ثلاثة رجال عذبوه واغتصبوه في أثناء احتجازه في أحد سجون نظام الأسد بسوريا.
ويقول السوري الذي كان حينئذ مقيماً في هولندا قبل 4 أعوام “لقد أصبت بالذعر(..) عدت إلى المنزل ولم أتمكن من فعل أي شيء”.
وبعد أيام قليلة، أبلغ اللاجئ السوري “فريق الجرائم الدولية”، وهو فريق متخصص من الشرطة قرأ عنه في ملف وزعته “منظمة مساعدة اللاجئين”. ويقول رينيه: “قيل إنه يجب عليك إخبارهم إذا كانت لديك معلومات عن مجرمي الحرب”.
وتم الاتصال به بعد محادثة هاتفية واجتمع معهم، ويقول “أخبرتهم بما أعرفه، لكنني لا أعرف اسم السجان.. وقالوا إنهم سيفحصون لقطات كاميرات المراقبة”.
وكان ذلك بحسب اللاجئ السوري في عام 2017 ويضيف “لم أسمع أي شيء منهم بعد ذلك”.
ولم يكن رينيه الوحيد الذي فوجئ برؤية أحد جلاديه، رحاب عبد الفتاح سورية اعتقلت لخمسة أشهر عام 2013 في “الفرع 227” في دمشق، والذي تديره المخابرات العسكرية.
وكانت رحاب تسير في ساحة دام في أمستردام عندما رأت أحد السجانين وتقول: “كل ما حدث في سوريا عاد إلى ذاكرتي، بكيت وهربت”، لكنها لم تجرؤ على الذهاب إلى الشرطة بعد اعتقالها في سوريا لا تزال تشعر بالخوف، وفق صحيفة “تراو”.
عشرات الجلادين في هولندا
ويُظهر البحث الذي أجرته صحيفة “تراو” و”أرجوس” أنه قد يكون هناك العشرات من الجلادين الآخرين التابعين لنظام الأسد في هولندا. ويتم التعرف إليهم من قبل ضحاياهم أو تعقبهم من قبل السوريين هناك.
ويقول المعالج النفسي أنطوان فان سينت فييت من مركز Arq ’45 المتخصص في صدمات الحرب، إن الجناة والضحايا أيضا يعالجون من الصدمات.
ويعتقد أوغور أوميت أنجور، أستاذ دراسات الهولوكوست والإبادة الجماعية في جامعة أمستردام ومعهد (NIODأن “الأمر يتعلق بما يتراوح بين 50 و 100 شخص”.
ويعيش حالياً أكثر من 125 ألف سوري في هولندا وكان آلاف منهم محتجزين في سجون النظام السوري.
وبحسب صحيفة تراو الهولندية، من الصعب تعقب الأشخاص الذين عملوا في السجون السيئة السمعة وإدانتهم.
ولا يمكن للنيابة العامة الهولندية أن ترفع دعوى أمام المحكمة إلا إذا كان الضحية أو الجاني موجوداً في هولندا بحسب “الولاية القضائية العالمية”.
وفي شهر آب من العام الماضي، بدأت القضية الأولى ضد أحد “شبيحة” الأسد.
وبحسب النيابة الهولندية، فإن الرجل كان عضواً في ميليشيا لواء القدس وكان حاضراً عند اعتقال اثنين من المدنيين، وهو متهم بالتواطؤ في اعتقالهم وتعذيبهم من قبل المخابرات الجوية السورية.
يحاكم الادعاء المتهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، مما يعني أن الجرائم جزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي ضد السكان المدنيين.
وفي ألمانيا العام الماضي، أُدين عقيد في مخابرات النظام السوري بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم تعذيب وقتل حدثت في السجن الذي كان يعمل فيه.
وقال فريتز ستريف، محامي حقوق الإنسان في المركز السوري للإعلام وحرية التعبير: “عندما تتحدث عن جرائم حرب وخاصة عندما تتحدث عن جرائم ضد الإنسانية، فإن الأمر يتطلب تحقيقاً عميقاً لأنه يتعين عليك أيضاً إظهار ما وراء التهم في هذه القضية”.
وتساعد تلك المنظمة غير الحكومية الضحايا السوريين في رفع دعوى قضائية، إذ أبلغت السلطات الهولندية بشأن قضية لواء القدس وسلّمت ملفات تتعلق بخمسةٍ آخرين على الأقل مشتبه فيهم إلى النيابة الهولندية، وقال ستريف: “آمل أن يكون هناك مزيد من الدعاوى القضائية في السنوات الخمس المقبلة”.
وذكرت الصحيفة الهولندية أن النيابة العامة وفريق الجرائم الدولية التابع للشرطة يتلقى كل يوم بلاغات وجزءٌ كبيرٌ منها من سوريين، لكن ليس كلُّها صالحاً للاستخدام.
صعوبات في الملاحقة
وتقول ميريام بلوم، كبيرة المدعين العامين بقسم الجرائم الدولية في مكتب المدعي العام الوطني “يحتوي جزء صغير فقط من البلاغات على معلومات يمكن أن تحدث فرقاً حقاً (..) ومنها من شهود عيان على جرائم حرب ارتكبها شخص موجود في هولندا”.
ويتكون الفريق من 43 شخصاً، 20 منهم يركزون على الشرق الأوسط. وهذا يجعلها واحدة من أكبر الفرق التي تتعامل مع جرائم الحرب في العالم.
ويجري الفريق نحو 20 تحقيقاً سنوياً، كما تقول بلوم “نصفها تقريباً يتعلق بسوريا والعراق. لكن بالإضافة إلى تلك التحقيقات العشرين، لا يزال هناك عدد كبير من التحقيقات الأولية في مراحل مختلفة”، مضيفة “ليس كل تحقيق أولي يؤدي إلى تحقيق جنائي أو إلى دعوى قضائية”.
ومن الصعب جمع الأدلة على جريمة ارتكبت في سوريا لا يكفي الدليل على أن سورياً عمل في سجن معين. لا يمكن اعتبار شخص ما مشتبهاً فيه إلا إذا كان على سبيل المثال، متورطًا في التعذيب وبعد ذلك يجب أن يرغب الضحايا في الإدلاء بشهادتهم بشأن هذا الأمر أو يجب العثور على وثائق أو أدلة أخرى تثبت ذلك، ووفقاً لبلوم “لذا فمن العائق القانوني العالي تصنيف شخص ما كمشتبه فيه في جرائم دولية”.
ويقول أنجور إن هناك فئتين من الجناة في سوريا: المحترف أو مختص بالعنف والجاني العرضي”، ويضيف “هناك المحترفون الذين يعملون في واحد من أربعة أجهزة استخبارات لنظام الأسد.. لديهم مهمة اعتقال وتعذيب الناس (..) وهذا ما يفعلونه”.
ويضيف أن هناك مجرمين عرضيين “لديك أناس تورطوا بالأمر (..) لم يتمكنوا من العثور على عمل.. انتهى بهم الأمر كسجانين في مكان ما، لأن أحدهم أعطاهم وظيفة”.
وبحسب الصحيفة فإن الفئة الأخيرة كثيراً ما تهرب من البلد، ويتضح هذا أيضاً من بحث أجراه أنجور.
وأجرى أنجور مقابلات مع 85 ضحية و35 من الجناة لبنك الشهادات، وقامت “تراو” و برنامج “أرغوس” بترجمة مقابلة مع واحد من “الجناة العرضيين” كان غير قادر على العثور على وظيفة كمهندس وعمل في الاستخبارات وكان يتنصت على الآخرين.
وقال إن “أوضاع السجون تدهورت بشكل كبير بعد عام 2011″، مضيفاً “الموت هو الخيار الأول، والبقاء على قيد الحياة هو الخيار الثاني”.
ويضيف “قال أحد مأموري السجن مرة للسجانين أن يقتلوا 60 في المئة من المعتقلين.. قال ذلك لهم مباشرة “.
ويقول إن السجون “فزاعة كبيرة للسوريين”، لأن الجميع في سوريا يعرف ماذا سيحدث إذا انتهى بك الأمر هناك.
ووفق الصحيفة الهولندية فإن الشهود مهمون في القضايا المرفوعة ضد السجانين.
ويقول الجاني الذي أخفت الصحيفة هويته “لا يمكن العثور على الحراس على وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف محظورة تماماً في السجون”.
لكن في معظم الأحيان، يخشى الشهود التحدث، ويقول خالد الحاج صالح، الذي نجا من السجن ويحاول الآن تعقب الجناة السوريين في هولندا: “هنا في هولندا، هناك العديد من ضحايا الأسد السوريين، الناس خائفون ولديهم عائلة هناك.. النظام لا ينسى أبداً، إنهم يشاهدون كل شيء”.
وقالت هوب ريكيلمان، رئيسة مشروع سوريا والعراق لمؤسسة “نوهانافيك”، التي تساعد ضحايا جرائم الحرب، “إن أقارب الشهود أو الضحايا الذين تحدثوا عن أنفسهم تعرضوا للتهديد في سوريا.. أحد الحلول الممكنة لهذا هو جعل الشهود يشهدون وهم يخفون هويتهم”.
ضحايا الأسد يطالبون بمحاكمة السجانين
وتقول الصحيفة إن هناك شيئا آخر يزعج الضحايا، إذ من الصعب عليهم قبول حقيقة أن التركيز ينصب على تقديم أعضاء “داعش” إلى العدالة. في حين أن نظام الأسد مسؤول عن ما يقرب من 90 في المئة من مجموع القتلى المدنيين، وأكثر من 98 في المئة من جميع الوفيات تحت التعذيب.
وأقامت هولندا حتى الآن 4 دعاوى قضائية لجرائم دولية تورط فيها تنظيم الدولة، وفي ربيع هذا العام، حوكم 12 هولندياً من الذين عادوا إلى هولندا، وكانوا من بين أمور أخرى أعضاء في تنظيم “داعش”.
“في اللحظة التي أحصل فيها على جزء من المعلومات حول عضوية أحد في تنظيم الدولة، أرى أن النيابة بكاملها تعمل بعد تلك المعلومة.. لكن إذا قدمنا 100 معلومة عن أحد جلادي الأسد فلن يحدث شيء”، يقول الحاج صالح بمرارة.
وتتفهم بلوم هذا الإحباط لكن هناك أيضاً سوء فهم “يمكننا فقط توجيه الاتهام لمن يخالف القانون.. نحن لسنا شرطة فكرية. يمكنك القول في هولندا، مهما كان ذلك مؤلماً للضحايا، إنك من مؤيدي الأسد.. لكن لا يمكنك دعم الإرهاب ولا يمكنك ارتكاب جرائم حرب”، مضيفة “لذلك نحن نبحث من كثب.. هل ارتكب أي شخص بالفعل أي جرائم جنائية؟”.
ويقول دياب سريح، رئيس جمعية المعتقلين والمفقودين في سجن صيدنايا، إن عليه أن يشرح هذا الفارق الدقيق مراراً وتكراراً ويقدم ورش عمل ليشرح للسوريين الفرق بين السلوك الإجرامي والجرائم غير الجنائية.
ويضيف سريح أنه “لمجرد أن شخصاً ما كان مسلحاً لا يعني أنه ارتكب جرائم حرب.. وكثيراً ما يعتقد الناس أنه يجب اعتقال شخص ما لأنه كان مجردَ جندي.. لأن الجميع يجب أن يؤدوا الخدمة العسكرية في سوريا”.
عداوات شخصية
بدوره يقول البروفيسور أنجور “يجب ألا تنسى أن سوريا بلد في حالة حرب أهلية.. كثير من الأشخاص لديهم حسابات شخصية لتسويتها مع أشخاص آخرين”، مضيفاً “لذا، إذا كان هناك شخص لا أحبه، فيمكنني أيضاً إبلاغ الشرطة وأقول إن هذا الرجل ارتكب جرائم”.
وتنقل الصحيفة عن شخص يدعى محمد وهو متهم من قبل سوري آخر بارتكاب جرائم حرب في سوريا.
وكدليل على ذلك أشار السوري الذي أخبر عنه إلى حساب على فيس بوك به صورٌ للرجل يرتدي أزياء عسكرية مختلفة، بما في ذلك صورة لقوات الرضا، وهي ميليشيا إيرانية.
ويعيش محمد حالياً في روتردام وتزوج الصيف الماضي ويعترف على الهاتف بأن الحساب الذي وجده “المرشد” هو حسابه، لكنه قال إنه استعار الملابس وتم التقاط الصور “من أجل المتعة”.
ويقول إن لديه مشكلات مع سوري آخر ويشتبه في أنه قدم التقرير ولم تقترب منه الشرطة الهولندية أبداً بحسب ما ذكر موقع VPRO.
ويشير الموقع إلى أن أشياء صعبة مثل هذه تتطلب كثيراً من البحث وتنقل عن النيابة العامة قولها إنه لا يمكنها الإفصاح عن معلومات تتعلق بقضية ما إلا بعد القبض على المشتبه فيه.
وهذا سبب في أن الشهود لا يسمعون شيئاً في كثير من الأحيان لفترة طويلة، على الرغم من أن النيابة العامة تحاول الآن إخبارهم بأنهم يعملون في تلك القضايا.
دائرة الهجرة والجنسية الهولندية قلقة
بدورها، تقول دائرة الهجرة والجنسية (IND) إنها رفضت ما لا يقل عن 50 سورياً على مدى السنوات العشر الماضية للاشتباه في تورطهم في جرائم حرب.
وفي حالة وجود مثل هذه المؤشرات، يمكن بدء التحقيق بموجب المادة 1 من اتفاقية اللاجئين، ثم يتم إجراء مسح سريع للهواتف وأجهزة الكمبيوتر.
وتصف IND احتمال أن يتجول مجرمو نظام الأسد في هولندا “مقلق”، لكنها تقول إن العائق مرتفع لتصنيف شخص ما كـ”مجرم”.
“أريد العدالة”
يشعر رينيه بالغضب لأن الشخص الذي عذبه ما زال حراً ويقول “إذا رأيته مرة أخرى، فسأحاول الإمساك به”، ويضيف “لا أريد أن يتمكن الجناة من العيش هنا فقط”.
ويحاول اللاجئ السوري أن يترك وراءه الأهوال التي عاشها في سوريا وسوف يساعده على ذلك إذا تمت محاسبة الأشخاص الذين ارتكبوا بحقه تلك الجرائم ويقول “أنا شاهد، أود أن أقدم أدلة.. لا أعرف الأسماء، لكني ما زلت أتذكر وجوههم كيف تبدو (..) أريد العدالة”.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا