لا أحد من الفلاحين راضٍ عن تسعيرة شراء القمح الرسمية. لا في مناطق سيطرة النظام، ولا في مناطق سيطرة “قوات سورية الديمقراطية – قسد”. وذلك رغم البون الشاسع بين التسعيرتين، وبين الفلسفة التي تقف خلف كلٍ منهما.
ووصل الأمر إلى حدٍ هدد فيه بعض الفلاحين بحرق محاصيلهم على أن يبيعوها بخسارة لمراكز الشراء المعتمدة من جانب حكومة النظام، التي اتهموها بأنها تعتبرهم “مرابعين” لديها. فيما نظّم فلاحون في ريف دير الزور احتجاجات ترفض التسعيرة التي حددتها “الإدارة الذاتية” التابعة لـ “قسد” في “شرق الفرات”.
في الإعلام الموالي، أُتيح للكثيرين من الاقتصاديين فرصة انتقاد تسعيرة القمح الرسمية. وصولاً إلى اتهام حكومة النظام بأنها تخدم مصالح التجار والمستوردين، حتى لو كان ذلك يعني القضاء على محصول استراتيجي لسوريا عبر دفع مزارعيه للإقلاع عن زراعته في المواسم القادمة، والبحث عن محاصيل ذات جدوى اقتصادية أعلى.
وكانت إحدى أبرز المقاربات التي انتقدت تسعيرة النظام، هي أنها أقل من السعر العالمي. وقد صدرت هذه المقاربة عن شخصيات من المفترض أنها خبيرة. فهل هذه المقاربة دقيقة؟
بدايةً، لنوضح أن النظام رفع التسعيرة، بعد تصاعد الانتقادات، من 2300 إلى 2800 ليرة سورية لكيلو القمح. فيما اشترت مصر قبل أيام فقط، شحنتين من القمح الروسي بسعر 260 دولاراً للطن، أي 26 سنتاً للكيلو الواحد. وفي أحسن الأحوال، فإن سعر الكيلو الواحد من القمح، لا يتجاوز الـ 30 سنتاً، في الوقت الراهن.
وباعتماد دولار بـ 9000 ليرة (السعر الوسطي الرائج في دمشق)، يكون السعر العالمي لكيلو القمح -في أحسن الأحوال- يعادل نحو 2700 ليرة. أي أن تسعيرة النظام أعلى بنحو 100 ليرة للكيلو الواحد، مقارنة بالسعر العالمي. وقد يُعتقد للوهلة الأولى، أن هامش الربح هذا، غير مجزٍ للفلاح. لكن النقاشات التي دارت بخصوص تكاليف إنتاج القمح في الدونم الواحد، ذهبت إلى أن السعر العادل للكيلو الواحد يجب ألا يقل عن 3500 إلى 4000 ليرة.
فكم تكلفة زراعة كيلو القمح في سوريا، هذا الموسم؟ وفق تصريحات عدد كبير من الفلاحين فإن تكلفة زراعة الدونم الواحد تتراوح ما بين 700 ألف إلى مليون ليرة. وبوسطي إنتاج نحو 350 كيلوغرام في الدونم الواحد، تصبح تكلفة زراعة الكيلو من القمح ما بين 2000 إلى 2860 ليرة. فإن اعتمدنا الرقم الثاني، تصبح تسعيرة النظام للقمح (2800 ليرة)، أقل من التكلفة المحلية. التي هي بدورها، أعلى من السعر العالمي بنحو 160 ليرة في الكيلو الواحد. أي أن القمح السوري، في أرضه، أغلى من المستورد، على ظهر السفينة. وهو ما يفسّر عدم حماس حكومة النظام لتخصيص مبالغ أكبر لشراء القمح المحلي. إذ أن القمح المستورد بات أرخص. وبطبيعة الحال، هذه الفلسفة، تعكس قصراً في النظر، إذ أن القمح المستورد الآن أرخص، لكنه قد يصبح أغلى في توقيت مختلف، كما سبق وحدث. كما أن استيراده يستنزف القطع الأجنبي. ناهيك عن أن القمح كمحصول استراتيجي، يحفظ لصانع القرار هامشاً أكبر من الحرية بعيداً عن الضغط الخارجي تحت وطأة الحاجة للقمح.
اللافت في الأمر، أن استياء الفلاحين كان ذاته تقريباً في مناطق سيطرة “قسد”. رغم أن “الإدارة الذاتية” حددت تسعيرة مجزية للغاية، لكيلو القمح، بقيمة 43 سنتاً. أي أعلى من السعر العالمي بنحو 50%. كما أنها تتجاوز تكاليف إنتاج الكيلو الواحد، التي احتسبناها أعلاه بنحو 2860 ليرة. إذ يُقدّر الكيلو وفق تسعيرة “قسد”، بنحو 3870 ليرة. ورغم ذلك، ادعى الكثيرون من الفلاحين هناك، أن التسعيرة هذه، لا تغطي التكاليف، أو لا تمنحهم هامش ربح مجزٍ. وقد ردّ مسؤولو “الإدارة” بأنهم يشترون القمح المحلي بأعلى من السعر العالمي، مراعاةً لتركيبة المجتمع في “شرق الفرات”، والذي يعتاش نحو 80% منه على الزراعة. أي أن السعر المرتفع المحدد لكيلو القمح هناك، يهدف لدعم المجتمع.
لكن بعيداً عن هذا الجدل بين الفلاحين وممثليهم، وخبراء ميّالين لوجهة نظرهم من جهة، وبين السلطات في مناطق سيطرة النظام، وفي “شرق الفرات” من جهة أخرى، يبقى السؤال الذي يستحق الوقوف عنده ملياً، لماذا يكلّف إنتاج كيلو القمح في سوريا، في أرضه، نحو 2860 ليرة، فيما يصل كيلو القمح الروسي إلى مصر، بنحو 2340 ليرة؟ يجيب الفلاحون في مناطق سيطرة النظام، على ذلك. فهم يشترون ليتر البنزين بنحو ثلاثة أضعاف السعر العالمي، ويشترون المازوت والمبيدات بنحو ضعف السعر العالمي. ناهيك عن بقية المستلزمات. وهو ما يفسّر نقمة الفلاحين، غير الراضين عن حصيلة مجهودهم السنوي.
باختصار، فإن المنتج المحلي السوري، حتى على صعيد السلع الزراعية الاستراتيجية، بات مُكلفاً أكثر من ذاك المستورد. وهو ما ينطبق على طيف واسع من المنتجات الزراعية والحيوانية والصناعية السورية. وهي نتيجة -لطالما حذّر منها الخبراء- لرفع الدعم الحكومي عن المحروقات. نتيجة تقود إلى دوامة من الاستيراد واستنزاف القطع الأجنبي، والعجز عن إعادة الحياة للقطاعات الإنتاجية في بلدٍ، كان يوماً ينتج معظم احتياجاته الأساسية.
المصدر: المدن