الشيوعيون وحرث البحر

علي العبدالله

عرضت ثلاث مقالات سابقة لكاتب هذه السطور الأثر السلبي لوجود سياقيْن متداخليْن ومشتبكيْن في الدول العربية ذات الأغلبية المسلمة، محلي وآخر وافد فرضته قوى الاستعمار. عرضت المقالة الأولى (في ضرورة إيجاد نقطة توازن، “العربي الجديد”، 15/2/2023)، التعاطي الفاشل مع هذه الإشكالية من الدول التي شكّلتها المملكة المتحدة وفرنسا في بلاد الشام والعراق. وعرضت الثانية (الإسلاميون واللعب في الهوامش، “العربي الجديد”، 12/4/2023) تعاطي الإسلاميين السطحي مع هذه الإشكالية. والمقالة الثالثة (القوميون العرب وتضييع البوصلة، “العربي الجديد” 26/4/2023) تعاطي القوميين العرب غير المتّسق مع هذه الإشكالية. وها هنا عرض لتعاطي الشيوعيين مع هذه الإشكالية.

أحدثت الثورة الشيوعية في روسيا القيصرية عام 1917 انعطافة كبيرة في التاريخ المعاصر بإثارتها موجة تفكيرٍ وتقويمٍ للسياسات الوطنية الداخلية والخارجية، وأطلقت آمالاً بوجود بدائل للسياسات غير العادلة التي اتّبعتها الدول الغربية داخلياً، وللسياسات الاستعمارية ونهب مقدّرات الشعوب خارجياً، فحفّزت أحزاباً اشتراكية قائمة على التحرّك وتفعيل أطرها وبرامجها السياسية والاجتماعية؛ ودفعت نحو قيام أحزاب اشتراكية جديدة في دول كثيرة، منها عربية، حيث لعب انسحاب روسيا من اتفاقية سايكس- بيكو ونشرها نصّي الاتفاقية المذكورة ووعد بلفور دوراً في تشكيل انطباع إيجابي عن الثورة وسياساتها لدى نخب عربية. عزّز هذا الانطباع تأييد الاتحاد السوفييتي القضايا العربية وتنفيذه مشاريع عملاقة في مصر وسورية، السد العالي وسد الفرات، وتقديمه دعماً عسكرياً لهما في مواجهة عدوانية إسرائيل. وأحدث هذا مناخاً للنظر إلى السردية الشيوعية عن العدالة الاجتماعية وحق الشعوب في تقرير مصيرها بعين الرضا ولتفاعل شخصياتٍ اجتماعيةٍ وثقافيةٍ مدينيةٍ معها بإيجابية وتأسّس أول حزب شيوعي في لبنان عام 1924، تحت اسم حزب الشعب اللبناني، التحق الحزب الجديد بالأممية الثالثة، ولنجاحه في جمع محازبين في سورية ولبنان، أخذ نشاطه في التنظيم والتثقيف يتصاعد ويتطوّر عبر إصدار مطبوعات متنوّعة ومتعدّدة الأشكال والأحجام، نضال الشعب 1934 والطليعة 1936 والطريق 1941 والنداء والثقافة الوطنية والأخبار، كما أطلق نشاطاتٍ ميدانية، احتفالات بعيد العمّال وتظاهرات تأييداً لمطالب سورية في لواء إسكندرون ودعم إضرابات عمّالية تطالب بتحسين ظروف العمل. استمرّ الحزب على هذه الحال حتى عام 1944 حيث اتّفق قادته على قيام حزبين مستقلين، شيوعي سوري وشيوعي لبناني.

غير أنّ الترحيب العربي بمواقف الاتحاد السوفييتي والتعاطف مع دعواته إلى تحرّر الشعوب لم يكن كافياً للتغاضي عما تنطوي عليه السردية الشيوعية من تباين وتناقض مع البنية التاريخية والثقافية للدول العربية ذات الأغلبية المسلمة؛ فأساسها المادّي يتعارض مع نظرة الإسلام وفلسفته التي توازن بين المادّي والروحي، وسياساته لم تكتفِ بمحاربة الأديان، بل منعت المؤمنين بها من ممارسة شعائرهم الدينية، إغلاق الكنائس والمساجد وتحويلها إلى متاحف ومنع المسلمين من أداء فريضة الحج، ما دفع أغلبية النخب السياسية والاجتماعية إلى النظر إلى الاتحاد السوفييتي صديقا ومؤيدا لحقوق العرب، مقارنة بالتأييد الغربي الأعمى لإسرائيل ودعمها سياسيا وإعلاميا واقتصاديا وعسكريا من دون حدود؛ والقلق من تداعيات عقيدته الفلسفية على المجتمع وعلى عقائده الدينية وأعرافه الاجتماعية.

مثّل تبنّي الحزب الشيوعي السوري للعقيدة الماركسية ببعديها الفلسفي والاجتماعي انفصالا شاملا عن السياق المحلي ومستدعياته، وعن التجربة التاريخية ودورها في تشكيل المجال العام بأبعاده الشخصية والاجتماعية والثقافية. وتحرّك الحزب ليس بمعزل عن كل هذه المعطيات والحقائق فقط، بل وعلى الضد منها في أحيانٍ كثيرة، فمنطلقه العقائدي/ المادي لا يمتّ إلى الواقع الثقافي المحلي بصلة؛ يتحرّك وكأنه في أرضٍ بكر؛ أرضٍ ليس فيها جذور محدّدة أو ثقافة خاصة، يخطّ عليها السطر الأول من تاريخها؛ يتجاهل وزن النموذج الحضاري الراسخ في الوعي الاجتماعي والمخيال الشعبي وتأثيره على سلوك المجتمع، أفرادا وجماعاتٍ، في المجالين السياسي والاجتماعي؛ وخياراته ودوره في تحديد الهوية وضمان استقرار المجتمع واستمراره. ومواقف الحزب السياسية لا تنطلق من تحليل الواقع المحلي ببناه العقائدية وتشكيلاته الاجتماعية، كما تقتضي الماركسية ذاتها التي تقول بأولوية الواقع على الفكر، بل تعتمد، في الغالب، على قراءات نظرية مجرّدة أو نصوص معمّمة من الأمميتين، الثالثة والرابعة، ومن الحزب الشيوعي السوفييتي، تُسقط على الواقع المحلي بوصفها أمرا مبرما من دون تحفظ أو تعديل، ما جعلها مثيرة للشقاق، نشأت فيه تيارات وتباينات في الرأي حول مواقف وقرارات سياسية سوفييتية تضرّ المصالح العربية، مثل الموقف من قرار تقسيم فلسطين ومن الوحدة السورية المصرية، ووقعت فيه انشقاقاتٌ متتاليةٌ بسبب الخلاف بشأن إلزامية توجيهات موسكو السياسية وارتباطها بالحسابات والمصالح السوفييتية.

شكّل البعد المادي الصرف للعقيدة الماركسية ومحاربة الإيمان بالأديان نقطة افتراق حادّة بين الشيوعيين والمجتمع السوري بعمومه، فالإيمان بالله هنا جزء رئيس من بنية الفرد والجماعة، والإسلام ليس مجرّد عقيدة دينية بل عاملٌ مكوّن، تاريخ وحضارة وثقافة، لا يمكن إضعافه ولا تقليص دوره وتأثيره في حياتنا، لأنه قد امتزج بهذا المجتمع امتزاجاً تكوينيا، والعمل على إضعافه أو إبعاده من الحياة العامة لن يمرّ دون عواقب وخيمة، فقد أثبتت التجارب السياسية في الأنظمة الشيوعية، الاتحاد السوفييتي الصين أوروبا الشرقية واليمن الجنوبي، استحالة تهميش الأديان وإبعادها عن التأثير في الشؤون العامة، فقد بقيت الأديان تلعب دورا مؤثّرا رغم الضغوط والقمع الشديد. روى الراحل، القيادي السابق في الحزب الشيوعي السوري، يوسف نمر، واقعة حصلت معه خلال مشاركته في دورة حزبية في ثمانينيات القرن الماضي، في أذربيجان السوفييتية، وكان الوقت صيفا والطقس حارّا ورطبا، والمحاضرات الصباحية تنتهي عند الثانية، حيث ذروة الحر، شاهد عند انتهاء المحاضرات معظم المشاركين يتوجّهون إلى البحر بلباس السباحة فقرّر أن يفعل مثلهم فارتدى لباس السباحة وخرج من غرفته، وإذا بالمشرف الأذربيجاني على الدورة أمامه، قال فأمسك بيدي وسألني ألست سوريا، قلت نعم أنا سوري، قال إذن فأنت مسلم، كيف تخرج هكذا كاشفا عورتك. قال فشعرت بالحرج وعدت إلى غرفتي.

تجاهل بنية الواقع المحلي واستعارة نظريات وخطط وبرامج منفصلة عنه وصفة للفشل، وهذا ما واجهه الشيوعيون في سورية، حيث بقيت الظاهرة الشيوعية نخبوية وفي نطاق ضيق، وما زاد الطين بلة أن رد الشيوعيين على فشلهم لم يأخذ شكل مراجعة المسيرة والبحث في الأسباب الحقيقية وإعادة النظر في الأسس التي وقفت خلف هذا الفشل، بل ذهبوا إلى تجريب أساليب شيوعية أخرى، ماوية وتروتسكية وغيفارية وكاستروية وتيتوية، تحت ذريعة أن الفشل سببه النموذج السوفييتي. في عام 1981، وكنت حينها أسكن في حي الغبيري في الضاحية الجنوبية بيروت؛ كان سكّان الحي، وأغلبهم من الشيعة، يقضون الليل في خوف وقلق نتيجة رشقات رصاص الكلاشنكوفات وانفجارات قذائف آر بي جي؛ حيث الاشتباكات من أجل السيطرة على الحي بين أفواج المقاومة اللبنانية (حركة أمل) وكتائب الحسين الانتحارية، فصيل شيعي رافض لسياسات الحركة، شبه يومية، خرجت تظاهرة في ذكرى انطلاق الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تهتف “لاح العلم الأحمر لاح في الغبيري والشياح”.

ظلّ هذا الموقف البعيد عن الواقع والمثابرة على معاندة حقائقه التاريخية والاجتماعية ماثلا في ممارسات الشيوعيين، ففي تجمّع عفوي في مأتم قبل أشهر في كنيسة كان أغلب الحضور من الشيوعيين وكان حديثهم بعد السلام والاطمئنان على الأحوال مركزا على استيائهم من المظاهر الإسلامية في المجتمع، الأذان ووجود مساجد كثيرة ترفع الأذان في وقت واحد واصطحاب الأطفال إلى المساجد.

ما زال الشيوعيون منفصلين عن الواقع المحلي واعتباراته ومستدعياتها؛ وفشلهم، رغم جهودهم الكبيرة وتضحياتهم الجسيمة، في اختراق المجتمع الأهلي وتشكيل ظاهرة شعبية كبيرة وثابتة. ليس تجاهل دور العامل الديني في المجتمع السوري/ العربي/ الإسلامي تفصيلا، إنه عائق كبير أمام أي حركة سياسية في مجتمع تدين غالبيّته بدين معين، فما بالك إذا كان الدين هو الإسلام بدوره في التاريخ وتوجيهاته الواقعية لإدارة الحياة. قال الباحث في مؤسسة الأبحاث والتطوير الأميركية (راند)، غراهام فولر، “الحقيقة المحورية الوحيدة أن الإسلام هو المحرّك الطبيعي للسياسة عبر العالم الإسلامي. ففي العالم الإسلامي يُعتبر الإسلام مقياسا للعدالة والإنسانية والحكم الصالح ومحاربة الفساد، ويمثل الإسلام مرجعية عقائدية للصراعات الداخلية ضد الحكومات الاستبدادية العلمانية ولصراعات الأقليات المسلمة من أجل التحرر من السلطات غير الإسلامية القاسية في أحيان كثيرة”. وكشفت دراسة استقصائية حديثة نشرتها “أصداء بي سي دبليو” أوائل شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2022، أن 41% من 3400 شاب عربي من 17 دولة عربية أعمارهم بين 18 و24 عامًا قالوا إن الدين أهم عنصر في هويتهم، مع الجنسية والأسرة (أو القبيلة) والتراث العربي، وجاءت الهوية الجنسية في آخر العناصر. وقال أكثر من نصف الذين شملهم الاستطلاع (56%) إن النظام القانوني في بلادهم يجب أن يستند إلى الشريعة أو القانون الإسلامي. وأعرب 70% عن قلقهم إزاء فقدان القيم والثقافة التقليدية. وجادل 65% بأن الحفاظ على هويتهم الدينية والثقافية أكثر أهمية من إيجاد مجتمع معولم. وأعرب 73% عن شعورهم بأن الدين يلعب دورًا كبيرًا جدًا في الشرق الأوسط، بينما يعتقد 77% أنه يجب إصلاح المؤسسات الدينية العربية. هذا حصل بعد مرور أكثر من قرن ونصف قرن على دخول مفاهيم ثقافية واجتماعية خارجية، غربية بشكل خاص، المجتمعات العربية، وترويجها وامتزاجها بمفاهيمها الثقافية وسلوكها الاجتماعي.

الواقع أن التمسّك بالسياق المحلي بما فيه من عقائد وتاريخ اجتماعي وثقافي لا يشكل عائقا أمام التطوّر السياسي والاجتماعي؛ فقد شهدت التجارب التاريخية بإمكانية الجمع بين الثقافة التقليدية والحداثة، فاليابان والصين الحديثتان لم تتخلّيا عن البوذية والكونفوشية، ودول أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى حافظت على ثقافاتها وتقاليدها الخاصة خلال فترة الهيمنة السوفييتية، حتى التنافس والصراع بين قومياتها والتوجيه الأممي السوفييتي المزعوم بقي قائما. ولما تفكّك حلف وارسو وانهار الاتحاد السوفييتي عادت هذه الدول إلى تلك الثقافة والتقاليد كجدار حماية ووقاية من الفوضى والانهيار.

ليس أمام الشيوعيين فرصة للتحوّل إلى ظاهرة شعبية راسخة والنجاح في استقطاب قطاعات واسعة من المجتمع السوري، ما لم يندمجوا في السياق المحلي، ويعيدوا النظر بموقفهم من الدين عموما، والإسلام خصوصا.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى