لن يمرّ وقت طويل قبل أن ينكشف مجدداً أن “التورّط” العربي مع دمشق لن يؤدي عمليّاً إلى ترويضها. “الحضن العربي” كان بغنى عن هذا الاحتضان!
لن يتأخّر كلّ أولئك الّذين يدورون في فلك محور الممانعة عن التباهي بالعودة السوريّة المرتقبة إلى جامعة الدول العربيّة بكلّ أجهزتها ومؤسّساتها بعد قرار وزراء الخارجيّة العرب الذي كان متوقّعاً كتتمّة طبيعيّة لمسارات “التطبيع” الثنائي التي سبق أن نشطت خلال الأسابيع المتتالية عقب فكّ القطيعة مع النّظام السوري من قبل عدد من الدول العربيّة الفاعلة والأساسيّة وفي مقدّمها الدول الخليجيّة.
ولن يهدر هؤلاء الوقت قبل الانطلاق في حملات إعلاميّة منظّمة عبر وسائل التواصل أو عبر الإعلام التقليدي للإيحاء بأنّ الخطوات التطبيعيّة العربيّة تحمل الطابع الاعتذاري من دمشق وأنّها تؤسس لحقبة سياسيّة جديدة بكل معنى الكلمة. ومعلوم أنّ “الدكتيلو” القديم قد جدّد نشاطه بعد فكّ القطيعة واستنشق جرعات زائدة من الأوكسجين السياسي والإعلامي التي ستترجم نفسها من خلال ضخٍّ منظّم لعناوين وشعارات تصبّ في خدمة النظام السوري.
هذا جزء من اللعبة السياسيّة والإعلاميّة المفهومة، وإن كانت غير مبرّرة، التي تتوسّلها الجهات المختلفة، لا سيّما تلك التي يحفل سجلّها بكلّ أشكال مصادرة قرار الناس والسطو على حريّاتها وديمقراطيتها.
ثمّة خطأ استراتيجي يُرتكب إزاء الشعب السوري بحيث أنّ التجارب السياسيّة السابقة مع هذا النظام (أقلّه لبنانيّاً) تؤكّد بما لا يقبل الشك أنّ قدرة المراوغة عنده عالية جداً وأنّه قلّما يحترم التّعهّدات الّتي يلتزم بها وأنّ همّه الأول، لا بل الأوحد، هو الحفاظ على بقائه وديمومته مهما كانت الأثمان الأخرى باهظة.
بعد أن تجاوز النظام المراحل الحرجة التي وصلت اهتزازاته خلالها إلى لحظات صعبة ودقيقة بفعل التدخل العسكري الروسي وغياب الإرادة الأميركيّة والغربيّة بإسقاطه، أصبح التعويل الوحيد المتاح الآن يتصل بالدفع نحو قبول دمشق بحل سياسي يتيح إعادة إنتاج واقع داخلي جديد مغاير تماماً للواقع الراهن.
وإذا كانت بعض المطالب منطقيّة مثل الوقف الفوري لتصنيع الكبتاغون وضمان سلامة النازحين تمهيداً لعودتهم إلى ديارهم (المدمرة بالمناسبة)، فإن مدى التزام دمشق بها تحوم حوله الكثير من علامات الاستفهام التي ستبقى بلا إجابات في أغلب الظن لأنّها ستكون مرتكزة إلى الممارسة، والنظام السوري يجيد اللعب على الوقت عندما يكون المعيار هو الممارسة.
إن تقديم الخطوات التطبيعيّة بشكل مجاني قبل التأكد من إيفاء دمشق بتعهداتها ينطوي على مجازفات سياسيّة كبرى وخطيرة من شأنها أن تعيد خلط الأوراق على جميع المستويات في المنطقة وأن تطيح بمسارات الضغط المحتملة على النظام السوري، وأن تؤدي إلى خلاصات قاسية فيما يتعلق بالملف الأكثر سواداً في سجلّه ألا وهو حقوق الإنسان التي انتهكت بشكل فاضح ليس في سنوات الاحتراب الداخلي فحسب، بل أيضاً منذ قيام النظام قبل عقود وتثبيته لنفسه ولأدواته مع مرور الوقت من خلال توسل الأساليب التقليديّة التي تُطبّق في كل الأنظمة الديكتاتوريّة والقمعيّة وهي عبارة عن وصفات جاهزة في خنق الشعوب وإضرام النار بأحلامها وطموحاتها.
لن يمرّ وقت طويل قبل أن ينكشف مجدداً أن “التورّط” العربي مع دمشق لن يؤدي عمليّاً إلى ترويضها. “الحضن العربي” كان بغنى عن هذا الاحتضان!
المصدر: هنا لبنان