ملاحظات على مشروع وثيقة توافقات وطنية

د. مخلص الصيادي

قرأت هذا المشروع من مقدماته، وأسماء المشاركين، والملاحظات على علاقة المشاركين بالنص المقترح، وصولًا إلى متن المشروع.

وما معمول به في التعليق على مشروع ما، أن نستعرض الملاحظات الجزئية، نقدا أو إشادة قبل أن نجمل ذلك بعرض الموقف أو التقييم العام.

وأمام هذا المشروع المقدم، فإنني أبدأ بعكس هذا المعهود لأسجل:

أن هذا المشروع لا يصلح لأن يكون وثيقة ل “توافقات وطنية” يلتقي حولها السوريون، بل إنه لا يصلح لأن يكون قاعدة أولية للحوار، لأسباب عديدة أهمها أنه يفتقد لعرض ما يشغل القطاع الأوفر من السوريين بشأن مستقبلهم، ومستقبل وطنهم، بل إن التدقيق في النصوص الواردة يشي بأن المشروع المقترح يستبطن إستخفاف بوعي وإدراك هذه القطاع حين يدعو في غير موضع إلى مراعاة الأغلبية الإسلامية، وإلى ضرورة اختيار الفاظ وصياغات لا تثير هذه الأغلبية.

ثم إن هذا المشروع يحتوي على مجموعة من التناقضات لا يمكن تغطيتها، وهذه تزيد من حدة الخلاف حوله، بدل أن يكون بحق مشروعا لتوافقات وطنية، وفي هذا التعليق ليس مفيدا الوقوف على كل نقطة، وكلمة، ويكفي أن نقف على بعض الإطارات العامة التي أرجح أنها ستكون مانعا من النظر والتفاعل مع هذا المشروع باعتباره” وثيقة توافقات” كما أراد معدوه، الذين أحسنوا إذ لم يرجعوا النص إلى المشاركين في الحوار، وإنما للجهة التي وضعته مستفيدة من الحوارات والآراء، لكنها هي وحدها المسؤولة عنه.

1ـ الحديث عن قواعد فوق دستورية ضابطة للدستور، وتوفر قاعدة استقرار قانونية للوطن والمواطن، حديث غير مفهوم، لأنه غير محدد، وغير معروف موقعه من الدستور، هل هذه القواعد متضمنة فيه؟، هل هي حاكمة له؟ هل توضع خارج الدستور ويصار إلى الاستفتاء عليها؟ أم توضع في مقدمة الدستور؟ وهل تخضع للآلية نفسها التي تخضع لها مواد الدستور من حيث التغيير والتعديل؟، أم يصار إلى تعديلها وتغييرها وفق آلية خاصة مستقلة.

وإذا كان لهذه المواد صفة الهيمنة على المواد الدستورية الأخرى، فما معنى القول “بقابليتها للتجميد”، ومن يقوم بتجميدها!، والمشروع يصفها ويضعها في خانة ” فوق الدستورية”.

2 ـ القول بأن ” القواعد الدستورية المحصنة، فوق الدستورية ” تعالج المسائل الخلافية الكبرى بين الجماعات السورية ” تحديد مبدئي مهم، وهو إذ يوفر معيارا عمليا للتفكير وللحركة، لكنه كما هو واضح من نصه يستدعي تحديدا للمسائل الخلافية الكبرى بين مكونات المجتمع السوري. فما هي المسائل الخلافية الكبرى في المجتمع السوري؟

وكيف السبيل الى تحديدها؟

والإجابة على التساؤل الثاني هو الأهم، لأنه المدخل لتحديد هذه المسائل.

هل نلجأ إلى استطلاع مواقف المفكرين والتيارات والفصائل السياسية في سوريا، أو نلجأ إلى جمهور الشعب السوري، والجمهور المعنى هنا هو الأغلبية بمكنوناتها الوطنية المختلفة.

وإذا كان اللجوء إلى الأفراد والأحزاب من شأنه تشتيت الجهد، خصوصا وأن نظام الحكم الاستبدادي الطائفي شوه الحياة السياسية في سوريا، وأفقرها، وصحرها، فإن أمامنا مقياسا تَمردَ على تلك القيود التي نتجت عن ذلك النظام المستمر منذ أكثر من خمسة عقود، وهذا المقياس نجده بسهولة ويسر في الحراك الثوري السوري، في الثورة السورية، وشعاراتها التي سيطرت على الشارع السوري، من درعا إلى الساحل إلى حلب، ودير الزور، مرورا بكل المحافظات السورية، وقد شاركت في هذا الحراك الثوري كل المكونات العرقية والقومية والدينية والمذهبية والمناطقية.

هل رفعت في تلك المرحلة أي شعارات تجزئ وتقسم الشعب السوري، أو تشكك بهويته العربية الإسلامية، أو تطالب بتغيير العلم السوري، أو تطالب بحذف المادة الخاصة بدين رئيس الدولة، أو تعلن كفر النظام ورئيسه، أو تطالب بتغيير قوانيين الأحوال الشخصية… الخ.

في حدود علمي لم يرفع أحد شعارات من هذا القبيل، حتى المكون الكردي في الجزيرة الفراتية وريف حلب وإدلب لم يخرج عن المطالب الوطنية العامة، لكنه شدد على مطالبا برفع غبن وقع عليهم، وسياسة جائرة ارتكبت بحقه، تم تنفيذها خصوصا في عهد البعث.

وحينما شاركت الفصائل الكردية المختلفة في التكوين الأول لهيئة التنسيق الوطنية شاركوا في إطار هذا الموقف الوطني العام.

إذا أردنا أن نستخلص قواعد فوق دستورية تحصن الدستور فلنمعن النظر والتدقيق في الحراك الثوري الأول، فهو ما يمثل منجاة للوطن والمواطن.

إن تغييب هوية المجتمع ليس سبيلا لتحقيق إجماع وطني يصون سوريا، ويبني مستقبلها، وإنما تَمَثُل هذه الهوية في أي برنامج بناء وطني هو ما يبني المستقبل السوري، ويصونه.

والهوية ليست امتيازا، ولا تعطي أحدا حقوقا على حساب أحد، ولكنها تحدد اتجاه التطور والعمل والتفاعل داخل المجتمع.

الامتيازات يعطيها الدستور، وتعطيها القوانين، على قاعدة تمايز العمل الفردي، وعلى قاعدة الاحتياج الإنساني الفردي، وعلى قاعدة الوظيفة الاجتماعية المختلفة، الامتيازات “تعطى للعالم ولصاحب الجهد المميز، تعطى لأصحاب الاحتياجات الخاصة، تعطى للمرأة والطفل”، ولا تعطى على قاعدة الاختلافات العرقية أو الدينية أو المذهبية، والمساواة أمام القانون في الحقوق والواجبات هو ما يصون الحياة الاجتماعية.

واضح أن الوثيقة تشعر بحرج إزاء ما تطرحه بشأن الهوية، وبأنه بعيد كثيرا عن الواقع السوري، لذلك تذهب إلى التشديد على ضرورة ” التأكيد الدائم على الانتماء الثقافي للحضارتين العربية والإسلامية”، إن هذا النص المضطرب يدفع لفتح الباب واسعا للبحث في تحديد معنى الحضارتين: العربية والإسلامية!

2 ـ يسود الوثيقة فكر علماني صرف، يراد له أن يسود في كل أنحاء المجتمع، بل وأن يفرض على المجتمع، فالوثيقة المقدمة تعترف بأن الأغلبية في المجتمع السوري مسلمة وعربية، وهي تحاول مواجهة هذه الأغلبية بالدعوة إلى تخفيف العبارات، وعدم الأخذ بالنصوص القاسية، وبتدوير الزوايا حتى يتم تمرير هذه العلمانية، هذا موقف غير سوي تنتهجه الوثيقة المقدمة، فيه كثير من الاستهانة بوعي الناس وفهمهم.

كان أفضل وأكثر مصداقية أن تقول الوثيقة إننا نتبنى العلمانية ولا نرى سبيلا غيرها، وإن علينا أن ندفع الناس للقبول بها، وقد ذكر مثل هذا التصريح في فقرات لاحقة، لكن بشكل مخفف.

وكمثال على هذه العلمانية الصرفة فإن هذه الوثيقة تدعو إلى تحرير الدستور حتى من ” قوانين الأحوال الشخصية” التي تستند بالنسبة للمسلمين على الشريعة الإسلامية، وإذ تشعر بصعوبة قبول هذا العرض تدعو إلى تقديم نصوص قانونية تسمح للفرد أن يختار بين قوانين العلمانية الصرفة، أو قوانين الشريعة، والأحوال الشخصية الخاصة بمذهبه ودينه، وهذا الخيار مجرد خطوة مرحلية.

ومن هذه العلمانية أيضا تدعو الوثيقة إلى تمرير ما ورد في منظومة حقوق الانسان مما يخالف الشريعة بشكل تدريجي يسهل على جمهور وطننا قبولها، ولعل الوثيقة تذهب هنا الى ما يخص” قضايا الشذوذ بأشكالها المختلفة، والأشكال المختلفة المزعومة للأسرة، والجندرة، والجنس العابر….. الخ”.

والوثيقة تعترف بأن هذه المسائل التي تدعوها بالحقوق الإنسانية الدولية “تعارض ثقافة المجتمع وقيمه السائدة، أو تعارض بعض العادات والتقاليد والأعراف القارة في وجدان الناس”.

 3ـ تتحدث الوثيقة في شكل الدولة في سوريا الجديدة عن اللامركزية الإدارية الموسعة، وهذا شعار أو حديث مغرٍ جدا للكثيرين، لكن في الحقيقة غير مفهوم، لأنه غير محدد بشكل واضح.

إذا كان يختص بالتنمية الكفؤة، والمتوازنة، للمجتمع السوري فليس في هذا الطرح أي إشكال، بل لنقل، بأنه طرح لا ضرورة له، لأن نظاما وطنيا يخضع لإرادة الناس، لابد أن ينزع إلى نظام لا مركزي يكون أكثر كفاءة وانتاجية من النظام المركزي.

لكن مثل هذا النظام محدد بدقة وبحسم، وهو وسيلة للتنمية والتقدم، وليس خطوة نحو التقسيم والتفتيت للجغرافيا الوطنية، وللجسم الوطني.

وحتى تتحقق هذه الرؤية فلا بد أن يضمن هذا النظام:

** عدم خضوع تقسيم الدولة إلى إدارات لامركزية محلية إلى أي اعتبارات عرقية، أو دينية، أو طائفية، أو جهوية، أو قبلية، وإنما فقط لاعتبارات تنموية نهضوية.

** ضمان حرية المواطن السوري في الانتقال والعمل في أنحاء سوريا، لا يمنعه عن ذلك اختلاف في الدين، أو العرق، أو المذهب، أو اللون، أو الأصل.

** وضمان حرية المواطن السوري في التملك في أي بقعة من الأرض السورية لا يمنعه عن ذلك أي مانع، ما دام يحمل الجنسية السورية، ويخضع للقوانين السورية.

** وتوفير حرية المواطن السوري في الانتساب إلى أي حزب، أو جمعية سياسية، أو اجتماعية، أو ثقافية، دون تمييز، ما دامت تتوفر فيه شروط العضوية العامة التي لا تخضع لغير مفهوم المواطنة.

** وأخيرا أن يكون ذلك كله في إطار خضوع جميع التقسيمات الإدارية المقررة في هذا الشكل من الحكم، للسيادة الوطنية العامة.

 4ـ تعرض الوثيق مفهوم أن “العلمانية تحارب الطائفية” وهي سبيل للقضاء عليها، ولا تقدم أي دليل أو إشارة لصحة هذا المفهوم، لا من المفهوم نفسه، ولا من التجارب الإنسانية، ولا مما تطرحه هي من أفكار ومفاهيم، ويكفي الإشارة هنا إلى دعوتها لاعتماد مفهوم “لين” للعلمانية، وإلى ضرورة إيجاد صيغ مرحلية قانونية وتشريعية تراعي الحساسية الخاصة الدينية والمجتمعية لمعظم السوريين، وإلى ضرورة التوكيد على الصلة بالحضارة العربية والإسلامية، والى إيجاد تمرير مفاهيم ” الحقوق الدولية” على المواطن السوري بالتدريج،… الخ

وكل هذه التفاصيل تؤكد الاعتقاد الراسخ لدى واضعي هذه الوثيقة أن “الناس” ليسوا مع هذا الطرح، ليسوا مع العلمانية، وأن “العلمانية المقصودة” ستزيد السوريين انقساما، وتفرق بينهم بدل أن تجمعهم وتشد أزرهم.

ثم إن الوثيقة لا تقدم مفهوما مدركا لحياد الدولة تجاه الأديان والمذاهب، غير قولها بتحريم الأحزاب القائمة على أساس ديني أو مذهبي، وتحريم قيام مثل هذه الأحزاب لا صلة له بالعلمانية، وإنما صلته بمفهوم المواطنة، إذ من حق المواطن أن ينتسب إلى أي حزب سياسي يعمل على أرض الوطن، لا يمنعه عن ذلك انتماء ديني او عرقي أو مذهبي، وقد يكون المناسب أن نذكر هنا أن حزب مثل “حزب الحرية والعدالة” الذي شكله الاخوان المسلمون في مصر عام 2011   كان مفتوحا للمسلمين والمسيحيين، وكان المفكر المصري المسيحي رفيق حبيب  نائبا لرئيس الحزب .

إن واضعي هذه الوثيقة لم يسألوا أنفسهم كيف يمكن أن تكون الدولة حيادية تجاه الدين الإسلامي!.

في الدين المسيحي الكنيسة مؤسسة مستقلة عن الدولة في كل شيء تقريبا، وهي تقدم خدماتها للمواطن الغربي وتستجيب لاحتياجاته، ومع ذلك يندر في الدول الغربية أن ترى الدولة منفصلة تماما أو مستقلة تماما عن الكنيسة، ولمن يريد أن يتأكد من ذلك فليراجع دساتير الدول الأوربية العلمانية، لكن في دولة الإسلام دين غالبة شعبها، كيف يمكن أن يحدث هذا الفصل؟

حالة واحدة يمكن أن توفر هذه الاستقلالية أو نوع منها، وهذه الحالة تتحقق بوجود “مؤسسة كنسية للدين الإسلامي” ولما كان هذا مستحيلا، فإن الحيادية شعار مستحيل التطبيق في مثل مجتمعاتنا، والذي لا يدرك هذه الحقيقية عليه أن يدرس التجربة التركية القاسية والدامية في هذا المجال، ومآلاتها.

5 ـ من الغريب أن يتم طرح قضية “معالجة الأزمة القومية بين القوميتين العرب والكرد”، إن هذا الطرح يشعر بأن هذه ” الأزمة” عنصر رئيسي في ” الملف السوري” يحتاج إلى معالجة خاصة، وهذا تدليس في عرض الحقيقية.

نحن لا نقول إنه لا توجد أزمة، لكن ليس بين العرب والكرد، وإنما هناك أزمة بين جماعة انفصالية كردية مرتبط بحزب كردي انفصالي موصوف بالإرهاب، يمارس افعاله الإرهابية ضد الكرد والعرب على السواء، ومرتبط بدول ومشاريع غير وطنية، ثم هناك مشكلة لها ظلالها العرقية بين نظام البعث والمكون الكردي وخصوصا في الجزيرة وأرياف حلب وادلب، ولعل ما قام به نظام “بشار الأسد” من ظلم وقهر للسوريين وحد الجميع وفرض عليهم الاتجاه معا نحو بناء سوريا الديموقراطية الموحدة لكل أهلها ومكوناتها. وعلى السوريين أن يكونوا مستعدين لمعالجة هذه القضية، من هذه الزاوية تحديدا خلال معالجتهم لمختلف الأزمات الاجتماعية والإنسانية والسياسية التي خلفها نظام البعث.

6 ـ كان مهما لمثل هذه الوثيقة أن تذكر معيارا لوصف مجتمع ما بأنه مجتمع متعدد القوميات ـ وهو وصف أطلقته على المجتمع السوري. وجود المعيار مهم لفهم المقصود، ولتحديد الحالة والمشكلة.

التنوع في سوريا مشهود، لا يحتاج إلى دليل، لكن وصف هذا التنوع الديني والعرقي والمذهبي، بأنه يرسم صورة مجتمع متعدد القوميات يحتاج إلى تدقيق علمي.

ما هي النسبة التي يجب أن تتوفر لأي أقلية حتى يتحول معها المجتمع الذي تعيش فيه، وتنتسب مواطنة إليه بأنه مجتمع “متعدد القوميات”.

السؤال هنا ليس ترفا، ولا من قبيل البحث النظري، وإنما سؤال جوهري تتولد عنه سياسات وميزانيات، ومواقف.

هل توفر نسبة تسعين بالمائة من قومية واحدة في بلد ما، وتوزع العشرة بالمائة الباقية بين عدة قوميات أخرى، يتيح تسمية هذا البلد بأنه متعدد القوميات.

هل الأخذ بتسمية “متعدد القوميات” يفرض أن تتعدد اللغات المعتمدة في هذا البلد على قاعدة المساواة، فيصبح للبلد الواحد ثلاث أو أربع لغات أو خمس لغات، بعدد هذه “القوميات”.

وبالمثل وللقياس فقط، هل علينا أن نناضل لنجعل اللغة العربية، وهي لغة أكثر من خمسة ملايين شخص، لغة ثانية في فرنسا البالغ عدد سكانها 68  مليون نسمة، مساوية للفرنسية في الحقوق، أو أن نجعل اللغة التركية لغة ثانية في ألمانيا مساوية للألمانية في الحقوق، واللغة العربية لغة ثالثة فيها، خصوصا وأن عدد الأتراك في المانيا وصل إلى أكثر من تسعة ملايين تركي، وعدد العرب فيها وصل إلى مليون ونصف المليون عربي، فيما عدد سكان المانيا 82  مليون نسمة.

أم أن هناك ضوابط لابد من توفرها حتى نطلق هذه الصفة” دولة متعددة القوميات”، وأنه بناء على هذه الضوابط تتحدد الواجبات، والطريقة التي يتجلى فيها هذا التعدد.

لقد كان أجدى لمثل هذه الوثيقة أن تقدم علاجا لهذه المسألة بدل أن تعتمد توصيفات تفتقد لأي أساس علمي أو عالمي معتمد.

7 ـ ولقد كان ملفتا أن الوثيقة تقول لا للنظام الرئاسي لأنه كنظام ، كان مدخلا للحكم الاستبدادي، وتقول لا للنظام البرلماني متذرعة بأن ظروف سوريا لا تتحمل نظاما برلمانيا، وتدعو إلى نظام مختلط، يحمل بعضا من صفات النظامين، لكن الوثيقة لم تقدم توصيفا أو تعريفا أو تحديدا لهذا النظام المختلط.

والقضية هنا ليس فقط في تسجيل القصور في هذا الجانب، وهو جانب كان يجب أن يبذل فيه جهد حقيقي، لأنه يمثل إذا تحقق مساهمة فعالة، نقول ليس الأمر هنا في تسجيل القصور، وإنما في أن بحث هذه المسألة، وكثير غيرها مما يخص الجانب القانوني والدستوري في الدولة، يشعرنا بأن الأزمة في سوريا منبعها “دستوري، قانوني”، وهذا غير حقيقي أبدا، ولا أظن أن أحدا في المعارضة يعتقد حقا أن منبع الاستبداد قصور في النصوص الدستورية، أو أن هذه النصوص تسمح “للرئيس” أن يتحول إلى مستبد.

إن المدخل الحقيقي للاستبداد في سوريا ـ وهي هنا مجال بحثنا ـ ليس في النصوص الدستورية والقانونية على أهميتها، وإنما في رمي هذه النصوص في سلة المهملات، وإطلاق إرادة الحاكم، ومن حوله، وتغوله على كل نص قانوني، دون خشية من عقاب أو مسؤولية.

إن تغيير النص الدستوري في سوريا أسهل من تغيير أي شيء آخر، والاستهتار باستقلالية القضاء أيسر من الاستهتار بأي شيء آخر.

في العام 2000 كان الدستور السوري في نظام الأسد الرئاسي يحدد عمر رئيس الجمهورية، وتم تغييره خلال دقائق، وقبل ذلك بواحد وخمسين عاما كان في سوريا نظاما جمهوريا برلمانيا وليس رئاسيا، ومع ذلك تحرك الجنرال حسني الزعيم وافتتح طريق الانقلابات العسكرية. وفي كل هذا التاريخ لم تشهد سوريا تقاليد معتمدة في احترام استقلالية القضاء، والفصل بين السلطات.

القضية أعمق من النصوص، وإن كان لابد من هذه النصوص، لكن لا يجوز اعتبارها واقيا يقي من التغول في الصلاحيات، والعدوان على حقوق المواطنين وحياتهم، وثروات الوطن.

8 ـ تبقى هناك قضية جوهرية غفلت عنها هذا الوثيقة المقترحة، وهي ذات وجوه عدة: وطني سوريا، وقومي عربي، وديني حضاري، وتحرري إنساني، وهي قضية الجولان السورية المحتلة، وقضية فلسطين، ومن الغريب أن تغيب هذه القضية نهائيا، وكان في غيابها تسليم بهزيمة سوريا وخروجها من جغرافيتها السياسية وانتمائها الحضاري، ومسؤوليتها تجاه أرضها الوطنية.

ليس مطلوبا من وثيقة كهذه أن تدخل في تفاصيل هذه القضية، في هذه المرحلة بالذات، لكن الموقف المبدئي أكثر من ضروري، لأن في غيابه إعلان بانتصار إرادة العدو الصهيوني في تعطيل، وشطب الدور السوري، وإخراجه من ساحة الفعل.

ولأنني لم أطلع على كامل المداولات التي تمت على مدار نحو عام ونصف العام، وهي المدة التي انتجت في الختام هذه الوثيقة، ولأن كثير ممن ذكرت أسماؤهم كمشاركين في هذه المداولات تعتبر هذه القضية حاضرة بقوة في فكرهم السياسي وتاريخهم النضالي، فإني أفترض أنها غيبت من قبل معدي هذه الوثيقة، ولم تكن غائبة في مداولاتها.

إذا كان تقديري لطبيعة المشاركين والمساهمين الذين بلغ تعدادهم 186 سوريا وسورية، وانتماءاتهم صحيحا، فإن جانبا من الخلل في مخرجات هذه الجلسات الحوارية يعود إلى اقتصار المشاركين على طيف محدد من السوريين، وغياب أصحاب راي من غير الاتجاهات الموصوفة في هذه الوثيقة، وحتى في إطار هذا الطيف المحدد أرجح أن الوثيقة لم تستوعب جميع الآراء والاتجاهات التي عرضت خلال تلك الجلسات.

زر الذهاب إلى الأعلى