قلت في وقت ما – نحن العرب – لا حاجة لنا بالجيوش، وقد يقول قائل: وهل تقوم الدول من غير جيوش؟! لا شك أنه سؤال مهمّ.. ولكن، هل نحن دول بالمعنى الحقيقي للدولة الحديثة، وبما تنطوي عليه من حريّة وديمقراطيّة، وقوانين ترعى مصالح الشعب، وتفتح أمام أفراده سبل النموّ والإبداع.. دولة تمتلك زمام نفسها، وتقود البلاد نحو تنمية شاملة؟!
يتبيّن اليوم أنّ أغلب الجيوش العربية، ومنذ استقلال بلادها، لم يتجاوز دورها المحافظة على حكم الحاكم العتيد، وترسيخ نظامه الاستبدادي المطلق! ولتبق البلاد على تخلّفها، وليظلّ الشعب في فقر وقهر! يتضح ذلك كلّه من تجارب سوريا وليبيا واليمن وتونس والجزائر وأخيرًا السودان. ومع ذلك فثمّة استثناءات، هي فترات محدودة من تاريخ بعض الدول، وخاصة ممن كان لحكَّامها دور مؤثّر في استقلال بلادهم.. وللمثال: (سوريا سنوات 1954 – 1958).
اليوم، ومن الأخير أبدأ، إنَّ الحرب التي بادر إليها عسكر السودان بطرفيهما تؤكد غايتها وهي لجم ذلك الحراك الثوري المدني الذي اندلع في 9 كانون الأول 2018 واستمر نموذجًا في زخمه وسلمه وإجماعه ومشاركة المرأة الفعالة فيه! ما جعله ينجح في إسقاط الحكم السابق بانقلاب عسكري رأى أنَّ مجابهته غير ممكنة.. وقد قاد الانقلاب “أحمد عوض بن عوف” في 11 نيسان 2019، وكان حينها نائبًا للرئيس السابق عمر البشير. واختلف “عوف” مع شركائه عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو، ولم يوافق الأخير “ابنَ عوف” على تسليم السلطة للمدنيين خلال سنتين، واقترح (مناوراً) أن يكون التسليم بعد ستة أشهر.. عندئذ استقال ابن عوف ولم يكمل مدة 24 ساعة، وسلَّم السلطة إلى عبد الفتاح البرهان المؤَيَّد من “دقلو”. و”دقلو” (شخص ذو طموح سياسي سلطوي..) وهكذا غدا نائبًا للبرهان، وأخذت قواته (الدعم السريع) تعمل على تقوية السلطة العسكرية، فارتكبت مجزرة “فض الاعتصام أمام القيادة العامة”، بعد أقلّ من شهرين، قتل خلالها بين 100 – 120 شاباً وفتاة.. ولم تجْرِ القيادة العسكرية تحقيقًا جديًا لمعرفة القتلة، ولا من قام بالتحرّش الجنسي.
واستمرّت مراوغة العسكر على مدى أربع سنوات في محاولات محمومة للبقاء في السلطة، منذ اتّفاقهم مع المدنيين في 21 آب/ أغسطس 2019 وتجاوزهم كلّ عهد قطعوه على أنفسهم.. وكان انقلابهم على رئيس الوزراء “عبد الله حمدوك” مثالًا واضحًا، وكان حمدوك قد عُيّن باقتراح “قوى الحرية والتغيير” بعد مفاوضات مع العسكر في 20 أغسطس آب 2019 أي لدى الاتفاق على المرحلة الانتقالية، وتعيين المجلس السيادي. و”حمدوك” خبير اقتصادي، كان الأمين العام للأمم المتحدة قد عيَّنه قائماً بأعمال الأمين التنفيذي لـ “لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأفريقيا” مع بدء العام 2016. وكانت أوّليات “حمدوك”: حلّ الأزمة الاقتصادية العميقة وتخليص البلاد من عبء الديْن العام ونشر السلام.. وقد أنجز الكثير مما رسمه، فرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب عام 2020، وحصلت حكومته على قرض/معونة بـ 700 مليون دولار لكنها (لم تستلمه بسبب انقلاب البرهان عليه في 25 أكتوبر 2021) وعقد اتفاق: “سلام جوبا” في 30 آب 2020 وساهم في رصِّ صفوف القوى السياسيّة المدنية، إلا مَنْ ظلّ متشككًا بصدق نوايا العسكر، مستدلّاً بطول الفترة الانتقالية التي أتت تسعًة وثلاثين شهرًا، قُسّمت على مرحلتين، يقود العسكر المرحلة الأولى فيما يقود المدنيون الثانية، وعلى عتبة انتهاء المرحلة الأولى افتعل العسكر خلافًا مع حكومة “حمدوك”، وقام البرهان بانقلابه، فوضع “حمدوك” وعددًا من الوزراء بالسجن، ثم تحت الإقامة الجبرية بعد محاولة فاشلة لاغتياله في التاسع من آذار/ مارس 2020، إذ جرى تفجير سيارة استهدفت موكبه في العاصمة الخرطوم. ولم يُكشف عن الجناة إلى اليوم.
فما الذي يجري في السودان الآن؟! وما دوافعه؟! ولماذا انسحب الجيش من الاتفاق الإطاري؟! وما دوافع “دقلو” للبدء بالمواجهة؟! في الحقيقة ثمة أمور لا بد من الاستنارة بها:
أولًا: غنى السودان بالذهب واليورانيوم والصمغ الطبيعي، ناهيكم بطبيعتها التقليدية كدولة وافرة المياه غنية التربة تؤهلها لأفضل إنتاج زراعي وحيواني.. كل ذلك جعلها محط أنظار المستثمرين في دول لها نفوذها في المنطقة أو خارجها. وللعلم بأن السودان ينتج من الذهب سنوياً بين 90 – 120 طنا بحسب الأرقام الحكومية. كما ينتج من الصمغ الطبي والغذائي عشرات الألوف من الأطنان. ولديه مساحات واسعة لاستثمار أشجاره. وتبلغ حصته من الإنتاج العالمي نحو 75%، لكنه لا يستغل أكثر من 10% من غاباته، وبلغت عائدات الدولة منه 120 مليون دولار عدا ما يهَرَّب من هذه الثروة، كما الذهب، أما اليورانيوم الخام فيعد السودان ثالث احتياطي عالمي.. كل هذه الثروات وديون السودان الخارجية في ازدياد إذ بلغت 56 مليار دولار، بينما وصلت نسبة التضخم إلى 89% فيما انحدر الجنيه السوداني إلى 568 جنيهًا مقابل الدولار وكان 55 جنيهًا..
ثانيًا: إنّ تاريخ حكم العسكر في السودان بدأ عام 1957 أي بعد استقلال السودان بعام واحد، ويرتبط ذلك بالصراع الدولي حول ثرواته، إذ إنَّ هاتين المسألتين مترابطتان، فالحاكم الفرد يُسَهِّل على الدول المتدخِّلة عقد صفقاتها، أما النظام الديمقراطي، فيفَتِّح أعين الشعب على ثروات بلاده، وهذا أحد أهم أسباب الانقلاب ضد “حمدوك” وتمسّك العسكر بالسلطة، ولجم الحراك المدني.
ثالثاً: إن سيرة محمد حمدان دقلو (حميدتي) تؤكد نزعته التسلطية، وهو الذي شارك في قتل نحو ثلاثمئة ألف سوداني في دارفور من خلال ميليشيا شكّلها من أبناء عشيرته “الرزيقات” وهو ذو تعليم محدود.. إذ كان قد ترك المدرسة وهو في الخامسة عشرة من عمره، ليبدأ حياته العملية معتمدًا على مجموعة من الشباب اليافعين، لحماية قوافل الجمال بين ليبيا وتشاد ومالي، ثم اشتراكه في الحرب التي نشأت في دارفور مرتكبًا فظائع، وضعته على قائمة مرتكبي جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وبذلك أصبح مطلوبًا إلى محكمة العدل الدولية، وكان أن تغلب على منافسه في حرب دارفور “موسى هلال” قائد ميليشيا الجنجويد، وزعيم عشيرة المحاميد، وهي (إحدى عشائر الرزيقات التي ينتمي إليها حميدتي)، وخلال تلك الحرب، اكتُشفت مناجم الذهب في جبل عامر في إقليم دارفور عام 2017، وكان هلال قد وضع يده على أكثرها، لكن حميدتي استغل فرصة خلاف هلال مع البشير، فجمع الكثير من ميليشيا الجنجويد إلى ما في حوزته، واعتقل هلال، وهكذا اعتمده البشير، ومنحه رتبة ضابط، وضمّ قواته إلى الجيش واضعًا إيّاها تحت تصرّف جهازيْ الأمن وحرس الحدود، وكانت قد ضمّت نحو خمسة آلاف مقاتل، ولدى الانقلاب على البشير كان عددها قد بلغ عشرين ألفاً، فرفِّع حينئذ إلى فريق أول. أما خلال السنوات الأربع الأخيرة فقد غدت مئة ألف.. وهناك تقارير تشير إلى تدريبها على أيدي ميليشيا “فاغنر” الروسية، وهي تقاتل في اليمن وفي ليبيا وفق مبدأ: “بندقية للإيجار..”.
رابعًا: أن طرفي النزاع يدركان أنهما يأخذان السودان إلى خراب كلّي، بعد أربع سنوات عجاف، أمضياها في المناورة والتسويف، ومحاولات تمزيق صفوف الثورة السودانية! لكنهما، كأفراد أية عصابة، قد وصلا إلى نقطة الافتراق بعد مراوغات اتبعاها مع القوى المدنية، وفيما بينهما.. فإذا كانت نقطة الخلاف حول ضمّ “قوات الدعم السريع” إلى الجيش خلال فترة سنتين فقد تُفَوِّت على “دقلو” فرصة تحقيق حلمه في امتطاء دفة السلطة، وتَهديم مستنَده الوحيد الذي بناه بالدم والذهب! أما تأخير الضمّ، بحسب مطلب “دقلو” فإنه يبقيها لغماً تحت مخدة البرهان! ومن هنا جاءت فكرة الحسم، فسارع “دقلو” إلى البدء، بينما تصدى البرهان باسم الجيش، ويدرك العالم، وخاصة مؤيدي هذا أو ذاك، طول مدة الحرب وشدتها، ولذلك سارعوا إلى إجلاء رعاياهم، لكنهم أبقوا مستشاريهم العسكريين، بينما ظل السودانيون وحدهم يكتوون بنارها موتاً وجوعاً وتشرداً.. ولا أفق إلا في أن يُنهي أحدهما الآخر أو ينتهي الاثنان معاً! ذلك إن لم تمتد إلى دارفور، ذلك البركان المهيأ للانفجار، حيث بدأ “حميدتي” رحلته الدموية. وفي عودة القتال إلى دارفور، يصبح احتمال تفتيت السودان وارداً فتجربة جنوب السودان الغنية بالنفط ليست بعيدة، ودارفور أكثر غنىً، وثمة قبائل عربية، وأخرى أفريقية. وبذلك يفتقد السودان اتفاقية جوبا للسلام، ويكون إرث حمدوك الذي يعني الإرث المدني قد صفِّي كليًا..
وعوْدٌ على بدء، هل تحتاج بلادنا، فعلًا، إلى جيوش أم إلى دول وطنية تمثّل شعوبها بأطيافها كافة؟! وتقوم على أسس من الديمقراطية وحرية الفرد والمجتمع، دول تستطيع أن تضبط جيوشها، وتحدد وظيفتها الطبيعية؟!
المصدر: موقع تلفزيون سوريا