تبدو معالم الفشل أو عدم المبالاة الدولية في التعامل مع ما يحدث للنظام السياسي في العراق، ومسيرته المتعثرة بمطبات الطائفية والقبلية واضحة، في ظل أسس الديمقراطية التي جاء بها الغزو الأمريكي، التي وعدت العراقيين في بناء دولتهم الجديدة، وكانت نتائجها بعد عقدين من الزمن، خراب البلاد وتهميش هوية أهله، مع الاكتفاء بعامل بقاء المشروع الطائفي، الذي يضمن للولايات المتحدة الاستمرار والبقاء في مشروعها الذي جاءت من أجله، من خلال إرضاء الأحزاب والشخصيات النافذة للمكونات الرئيسية، وكسب ولائهم اجتماعياً ومادياً، وهذا ما يفسر في الوقت نفسه، أسباب أزمة النظام السياسي العراقي واستمرارها الذي ما زال يتعزز حتى الآن، على الرغم من وصول العملية السياسية إلى هذا النفق المسدود، في الوقت الذي يستمر تعزيز سلطة ونفوذ النخبة الحاكمة في دوائر النفوذ الإقليمي والدولي، من خلال السفارات والممثليات الدبلوماسية في بغـداد وباقي مدن العراق.
وعلى العكس ثمة من يرى أن هناك رغبة دولية أكيدة للبدء بتغيير وجوه العملية السياسية في العراق، وصولا لإجراء تغيير حقيقي في طريقة حكم البلد، عبر تغيير آليات النظام السياسي الطائفي الحالي، وإبدالها بأسس وطنية تتوافق وتتلاءم مع التغيرات المقبلة على الساحة الإقليمية والدولية، التي لا تزال تتفاعل أحداثها وأجنداتها باستمرار، ومعرفة الطبقة السياسية الحاكمة بحقيقة هذا التحرك الدولي، على الرغم من الطابع السري لهذه الأحداث، وإبعادها من الوضع الأمني الاقتصادي العراقي، الذي يعمل الغرب على الحفاظ عليه في الوقت الحاضر، من خلال دعم ولقاءات السفيرة الأمريكية المتكررة مع زعماء العملية السياسية من الشيعة والسنة والكرد، الذي قد يُفسر من باب الدبلوماسية كإجراء بروتوكولي يخدم المصلحة الأمريكية والغربية، ويراعي أيديولوجيتها المعروفة تجاه التمدد الروسي والصيني في القارتين الآسيوية والافريقية.
ومن المدهش ونتيجة لهذا، تذهب تصريحات وأحلام البعض إلى حد التفاؤل المفرط بقرب حدوث هذا التغيير، معلنين للعراقيين أن العراق على موعد مع تغيير مقبل، نتيجة لمخطط دولي لدعم نظام يسمح لهم بقيادته وحكم شعبه، وهذا ما سيفرض على إنهاء العملية السياسية، وإعادة شكل من أشكال أسس النظام القديم الذي أسقطه الغزو الأمريكي، سواء كان من خلال الوراثة العائلية، أو الصلة الحزبية، أو إبداله بنظام جديد يتم اختياره من قبل الغرب، عن طريق دفع بعض الشخصيات الموجودة على أراضيه، من الذين رحبوا بغزو العراق، وشاركوا بعض الوقت في تجربته الفاشلة، من لمعت أسماؤهم بأضواء الفضائيات، من الذين نصبوا أنفسهم وأعطوها الأفضلية والزعامة الشرعية الوحيدة المقبلة لحكم العراق. ففي الوقت الذي تتنبأ بعض الأبواق، وتعلن أن «النظام السياسي في العراق على موعد مع تغيير مقبل نتيجة لمخطط دولي، وأن هذا النظام بلغ منتهاه، وأن العراق صار بحاجة إلى عقد اجتماعي وسياسي جديد، وإلى ميثاق تاريخي بين الدولة والمجتمع» سواء كان هذا عن طريق الوراثة العائلية والحزبية، أو الصلة الطائفية التي رحبت بغزو العراق، يتساءل كل من له بصيرة وطنية إلى معرفة حقيقة ما سيطرأ على البلد في الفترة المقبلة، حيث تكمن موضوعية دراسة ومعرفة طبيعة وحجم التغيرات، انطلاقا من التفكير، ومن خلال التحليل وبناءً على معطيات متوفرة تتعلق بالوضع السياسي والاجتماعي للبلد، الذي فرضه التدخل الأجنبي منذ 2003 عن طريق مشروع صراع الهويات بين الدولة والمكونات والتمسك بالهويات الفرعية، في ظل غياب الهوية الوطنية، وموقف الأحزاب الحاكمة ومن يدعمها من دول الجوار، من هذا المعيار الجديد، والقبول بتنحيتها من السلطة بهذه السهولة التي يتخيلها المنجمون من المتلهفين والحالمين بالقدرة الأمريكية في المساعدة للوصول للسلطة، وعلى حساب ما حصل ويحصل للعراق والعراقيين منذ أكثر من عقدين من الزمن. وكي لا يبقى مفهوم السر سراً، لم يخف على أحد في أن آلية النظام الطائفي تتم من خلال تركيز السلطة في أيدي النخب الطائفية الشيعية والسنية، حيث تشارك هذه النخب في اقتسام عائدات النفط والمناصب المهمة لشراء الولاء، ويتم إجراء أعمال الدولة وفقًا لمصالحهم، وبالتالي لا مصلحة لهؤلاء في تغيير النظام السياسي الذي يضمن لهم الثروة والسلطة. وكما ان لا مصلحة للولايات المتحدة الأمريكية والغرب في تغيير النظام، طالما لم تفلح من إبعاد الخطر الإيراني وحلفاء طهران في الصين وروسيا من هذا البلد.
أما على الصعيد الداخلي، يبقى خطر اندلاع الصراع على السلطة بين التيار الصدري والإطار التنسيقي قائما لحد الآن، في حال تم العمل على تغيير الحكومة، حيث بلورت الانتخابات السابقة عن حجم التنافس بين هاتين الكتلتين على قيادة المعسكر الشيعي ورغبة السيد مقتدى الصدر المعلنة على بسط هيمنته، على الرغم من ابتعاده المشكوك به وللمرة السابعة عن العملية السياسية في الوقت الحاضر.
لا شك في أن بوصله النظام السياسي العراقي ما زالت تتراوح في الطريق الذي رسمه الغزو الأمريكي، ولم تنته بعد من إثارة المخاوف من عودة الصدام والاقتتال بين العراقيين أنفسهم، في الوقت الذي يُفرض على العراق الاستمرار في تبني دوره المؤثر، على رقعة شطرنج إقليمية ودولية معقدة ومضطربة ليست لصالحه. من هنا ونتيجة لذلك فمن المستبعد أن يرى العراق بادرة أو إرادة دولية قريبة المدى للتغيير، قادرة على توجيه العملية السياسية في الطريق الصحيح، بعد فشل النظام السياسي في إدارة الدولة، طالما لم يخرج هذا البلد المهم من قبضة تجار الدين السياسي، الذين لم ينتهوا بعد من إدامة الأجندة الإقليمية الإيرانية والغربية الأمريكية على حد سواء، خدمة للمصالح الفئوية والحزبية الضيقة وعلى حساب مصلحة الوطن.
كاتب عراقي
المصدر: القدس العربي