التسويق السياسي ضرورة للأحزاب السياسية والعمل السياسي الناجح

محمد علي صايغ

الجزء الأول

ما زالت البنى التقليدية للعمل السياسي سواء في  الرؤى أو الٱليات المعتمدة تطبع بطابعها المنظمات والتنظيمات والأحزاب في بلادنا، فلم تستطع الأحزاب تغيير بنيتها وطبيعة تواصلها مع جمهورها ، وما زالت تشتغل بالرغم من التطور الحاصل في برامج التواصل والاتصالات ، وبرامج الحراك والتعبئة المجتمعية بوسائل تقليدية تجاوزها الزمن ..

وعندما نتحدث عن التسويق السياسي ، فإننا هنا لا نريد الدخول في هذا المجال على طريقة الدراسات والبحوث الأكاديمية لهذا المفهوم .. وإنما ما نبغيه الاستفادة من التسويق التجاري وٱلياته وما يمكن أن يعكسه في العمل السياسي للأحزاب في علاقاتها مع الجمهور بما يمكن من توظيف ذلك في الحشد وجذب الجمهور الى رؤى وبرامج الاحزاب وتفعيل حضورهم في ممارسة العمل السياسي و يدعم الدور والفعالية في إنجاز التغيير الديمقراطي …

ومن الطبيعي أن فعالية استخدام التسويق السياسي ومعوقات تطبيق ٱلياته ترتبط بدرجة تطور النظم السياسية باتجاه الديمقراطية ، فكلما ازدادت درجة تطور النظم السياسية في هذا الاتجاه كلما زادت إمكانية تبني استراتيجية فعالة للتسويق السياسي وكلما انخفضت هذه الدرجة كلما ازدادت المعوقات التي تحول دون تبنيها.

 ويُعَّرف التسويق السياسي بأنه ” مجموعة من العمليات والأنشطة التي تؤدي إلى اكتساب الأحزاب والقوى السياسية القدرة على توسيع قاعدتها الجماهيرية، أو هو نظام متكامل تتفاعل فيه مجموعة من الأنشطة التي تعمل فيه بهدف تخطيط وتعزيز دور الحزب من أجل الوصول الى القاعدة الجماهيرية التي يطمح إليها “

 ‏فلو نظرنا الى السياسة  بعين تسويقية ، سوف نرى ان السياسيين هم الباعة، والناس هم العملاء، والحزب السياسي هو العلامة التجارية، ووعود الحزب وفلسفته ومشروعه أو برنامجه هو المنتج، والنشرات والمجلات والملصقات والمناظرات والتجمعات والإعلانات هي خطة الترويج.

ومع أن التسويق السياسي يتطابق مع تسويق المنتجات والخدمات في الإجراءات والوظائف، ولكنه يفترق في الاستراتيجيات والأهداف النهائية التي يهدف إليها كل منها ، إذ توجد اختلافات جوهرية بين التسويق السياسي والتسويق التجاري. فالأول يركز على قضايا وقيادات معينة وفى أوقات محددة، ويسعى عدد محدود من المؤسسات السياسية إلى تطبيقه، وتنتفي الربحية المادية فيه، ومن ثم يتطلب تكتيكات أكثر تحديداً، تركز على الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي المعاش، ويتطلب بناء حوار بين المؤسسات والقيادات السياسية من جانب والمواطنين من جانب آخر.

ولذلك فإن عملية التسويق السياسي تبدأ بدراسة السوق السياسي للتعرف على احتياجات المستهلكين، وإنتاج وتقديم منتج سياسي يلبى احتياجات السوق ، والترويج لهذا المنتج السياسي، وما تتطلبه هذه العملية من مهارات وأساليب للبيع، وخدمة ما بعد البيع سواء بهدف خلق علاقة ولاء للمستهلك بالحزب التي يتم الترويج لمنتجاته أو تطوير السلعة أو الخدمة المقدمة.

 ‏ويجب التأكيد هنا أن التسويق السياسي،  ليس مجرد نشاط تسويق تجاري فقط، بل هو عبارة عن خليط متعدد الجوانب لكونه: نشاط تسويقى يستخدم التقنيات الحديثة في التأثير على الأفراد داخل المجتمع، ونشاط سياسى لأنه يعنى بالكيفية التي يمكن لحزب أو منظمة سياسية أن تمارس العمل السياسي في الوسط الجماهيري ، ونشاط استراتيجي يعتمد في مضامينه على الفكر الاستراتيجى في التخطيط ووضع الخطط وصياغة الاستراتيجيات بما يتضمن من سياسات وبرامج مختلفة للأنشطة التسويقية السياسية المراد تحقيقها وفقاً لأهداف هذا الحزب أو ذاك ..

ونجاح التسويق السياسي يتطلب ضرورة وجود رؤية استراتيجية، فالمؤسسات السياسية يمكنها القيام بإدارة عملية التسويق السياسي استراتيجيًّا، من خلال الاستعانة بخبراء في التسويق الاجتماعي والتجاري؛ بحيث يمكنها تحديد ومعرفة أراء واتجاهات المواطنين تجاه القضايا المثارة، وبناء الاستراتيجيات التي تحقق المصالح المشتركة، وبناء علاقات قائمة على الحوار حتى يمكن للمواطن المشاركة في صنع القرار أو الشعور بأنه يشارك في ذلك.

والتسويق السياسي يقوم على مجموعة من الأنشطة المتكاملة وهى (تنظيم، وتخطيط، وتوجيه، ورقابة، وتطوير) لمختلف الجهود التي ينبغى أن تقوم بها أي منظمة سياسية سواء كانت حزباً سياسياً أو مرشحاً سياسياً، وهذا يعتبر تطبيق للبعد الإدارى في نشاط التسويق السياسي ، مما يتطلب استخدام أسس وتكتيكات التسويق التجارى بما يؤدي الى ضرورة وجود مزيج تسويقى سياسى متكامل يحكم خطوات واستراتيجيات في ظل إدارة رشيدة .

ولا بد من التركيز على البيئة التسويقية السياسية التي لا يمكن أن تتم بمعزل عن متغيرات وعوامل البيئة المحيطة، وهذا يؤكد تفاعل النظم البيئية بعضها البعض ، فالتسويق السياسي جزء من نظام أكبر منه وهو الاتصال السياسي، والاتصال السياسي نظام فرعي من نظام أكبر منه وهو النظام السياسي، وهكذا تتفاعل هذه النظم وتتكامل مع بعضها البعض وهذا لن يحدث إلا من خلال توافر نظام معلومات للبيئة التسويقية السياسية ووجود جهاز كفء لإدارة التسويق السياسي.

والبيئة التسويقية مهمة جدا في تسويق الافكار أو المنظومات الفكرية للأحزاب ، إذ من الضروري جدا أن تكون المنظومات الفكرية لا تتصادم مع البيئة السياسية والاجتماعية وحتى الدينية ، كما من الضروري في الترويج لهذه المنظومات أن لا تكون اللغة المتداولة في طرح الأفكار غير مفهومة أو استعلائية ومفاهيمها غريبة ومستوردة وبعيدة عن فهم واستيعاب الجمهور العريض .. فالماركسية مثلا لم تستطع الانتشار أفقيا ، وبقي تداولها محصورضمن نخب محدودة لاصطدامها مع المعتقدات الشعبية وخاصة في الوسط المتدين . ومع أن بعض القوى الماركسية حاولت تبيئتها في الإطار الوطني  والابتعاد عن التصادم مع البيئة الدينية ، وبالرغم من أن الماركسية تنادي بالعدالة والمساواة والاصطفاف مع الطبقات الفقيرة إلا أنها بقيت في ذهنية الجمهور متصادمة مع قيمها ، وأنها وافد غريب عن مجتمعها ، إضافة الى لغة الاستعلاء والتفوق التي كانت تلازم لغة الكتاب او حديث المبشرين أو المسوقين للفكر الماركسي .

والجانب الأكثر أهمية في أي حملة تسويقية هو السرد, الذي يتناول قصة المنظمة أو الحزب أي منتجه السياسي ( تاريخه، معتقداته ، صورته أمام الجمهور ، برامجه السياسية القريبة والبعيدة )، وجميع السمات والخصائص التي يمكن أن تشد الجمهور له ، فالسرد هو أحد أهم عناصر إدارة حملة التسويق السياسي ويجب أن يكون مقنعا وله صلة بالناس .

وفي عملية السرد لا يجوز أن نجعل الجمهور يشعر بأن الحزب يبيع ما لديه بلغة المبيعات ليقتنعوا به ، وإنما يتم ذلك مثلا بعرض المشاكل الموجودة بالمجتمع بطريقة تجعل الجمهور يفكر بأنه ” فعلا نحن لدينا هذه المشكلة ” ومن ثم يباع له بأن الحزب سوف يضع الحل بأفضل طريقة . فمثلا لا يقول الحزب بأنه سوف يحسن الاقتصاد فقط وانما عليه ان يظهر ذلك بطريقة عملية وذو فائدة كأن يقال له بأنه سيحرص على أن لا يضطر ابناءنا الى مغادرة بلدهم ، وسوف نوفر لهم سبيل عيش أفضل ، ونوفر لهم الوظيفة باجور مناسبة ، وسيكون ذلك من خلال تنفيذ سياسة كذا وكذا ..على أن عملية السرد في التسويق عليها أن تسعى الى عدم النيل من حرية المواطن في الاختيار ، وإلى إحداث استجابة لحاجات حقيقية وليس خلق حاجة ترتبط بسلعة  كما يفعل الإعلان التجاري .

ويكون التسويق مميزا عندما تقوم المؤسسة السياسية بخدمة أكثر من مجموعة مستهدفة ، فأنها تستطيع تحقيق أقصى فعالية ممكنة عن طريق تمييز خدماتها المقدمة ، وطرق الاتصال بهذه المجموعات ، وأماكن تقديم الخدمة ودفع تكاليفها .. وهكذا..  لذلك فإن الوصول إلى مركز الريادة في سوق المؤسسات السياسية يقتضي التميز التسويقي الذي تقدمه لكل مجموعة مستهدفة.

ومن الآليات الرئيسية للوصول للمجموعات المستهدفة في سوق المؤسسات السياسية هو البحث عن الميزات التفضيلية المناسبة لهذه المجموعة او تلك .. الميزة التي تمثل اهتمام هذه المجموعات يتم التركيز عليها مثال ذلك جودة الخدمات أو مكان تقديم الخدمة … فالبحث عن المزايا التفضيلية التسويقية للمجموعات المستهدفة يمثل مفتاح الإقتراب من الجمهور واتساع امتداد فعالية حضوره وتأثيره .

ومن الٱليات التسويقية اعتماد الإعلان السياسي لشد الجمهور أو الناخبين استنادا على المقارنة التفضيلية للناخب ، ووضعه أمام أولوية كبرى وأولوية أقل تفضيلا ، فمثلا قد تكون أولوية محاربة الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية وإرساء نظام ديمقراطي ليست أولوية اساسية اليوم لأنها تشكل وعدا مستقبليا لا يمكن استقبال نتائجه فورا ، في حين أن الأولوية الكبرى للجمهور في ظل الصراعات الداخلية والتهديد المجتمعي من أطراف خارجية او التهديد الإرهابي الداخلي تعتبر اليوم الأولوية التي تفرض نفسها ارتكازا على أن الاستقرار والأمن وتحرير المجتمع من الخوف والإرهاب يعتبر من أهم الأولويات لدى الناخبين عموما .. وقد تبدى الموقف التفضيلي للناخب المصري عندما انحاز الجمهور المصري إلى الاستقرار والأمن الذي تبنى شعاره الرئيس السيسي مقابل الوعد بالعدالة والتنمية والديمقراطية الذي كان شعار الحملة الانتخابية ” لحمدين صباحي ” .

كما أن التكامل بين الأنشطة التسويقية المختلفة التي تتضمنها منظومة عناصر البرنامج التسويقى وبين الأنشطة الأخرى غير التسويقية التي تمارسها تلك المؤسسات مثل التثقيف السياسي والثقافى، والنشاط الاجتماعي … وبدون تحقيق التكامل بين الأنشطة التسويقية وغير التسويقية يحدث خلل في أداء المؤسسات السياسية .

وكذلك فأن تحليل سلوك العميل ( الأعضاء او الاصدقاء أو الجمهور ) مهم في المؤسسات السياسية فكثير ما يكون سلوك العميل  سلبيا أي توجيه انتقادات للمؤسسة أو عدم المشاركة الجادة في أنشطتها أو تركها نهائيا واللجوء إلى مؤسسة أخرى. وتحويل هذا السلوك السلبي إلى سلوك إيجابي يقتضى ضرورة تحليل سلوك العميل والتعرف على مسبباته والقضاء عليها حتى يتحول إلى سلوك إيجابى وهذه العملية ليست بالسهولة بمكان، لكنها تحتاج إلى خبرة متخصصة في مجال تحليل السلوك لمعرفة الأسباب الحقيقية للسلوك السلبي واتخاذ اللازم من الإجراءات ، ومن هنا نجد أن السلوك الشرائي يعتبر من المفاهيم التسويقية الفعالة التي يجب استخدامها في مجال تسويق المؤسسات السياسية للقضاء على الإشاعات والنقد غير البناء داخل الحزب أوالأحزاب والمؤسسات السياسية بصفة عامة. وعليه فالتسويق الفعال يقضي بضرورة التعرف على رد فعل العميل عن الخدمات المقدمة من المؤسسة السياسية  وما هى أهم المشاكل التي تواجهه من أجل وضع الحلول الفورية والسريعة لمواجهتها.

وهذا يقتضي المراجعة التسويقية بإعادة النظر في الأهداف التسويقية والإستراتيجيات والسياسات التي توضع من قبل المؤسسات السياسية بين مرحلة وأخرى ، وإجراء التغيرات الضرورية على ضوء المستجدات والتحديات والتغيرات التي تحدث بين الحين والآخر. فالتغيير مطلوب في حالة وجود مبررات قوية ولكن التغيير من أجل التغيير يعتبر تبديد في الموارد والإمكانيات وفى النهاية فشل تلك المؤسسات السير في الاتجاهات التي تحقق رسالتها وأهدافها.

يتبع …..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى