القوميون العرب وتضييع البوصلة

علي العبدالله

عرض مقالان سابقان لكاتب هذه السطور الأثر السلبي لوجود سياقيْن متداخليْن ومشتبكيْن في الدول العربية ذات الأغلبية المسلمة، سياق محلي وآخر وافد فرضته قوى الاستعمار. عرضت المقالة الأولى (في ضرورة إيجاد نقطة توازن، “العربي الجديد”، 15/2/2023)، التعاطي الفاشل مع هذه الإشكالية من الدول التي شكّلتها المملكة المتحدة وفرنسا في بلاد الشام والعراق. وعرضت المقالة الثانية (الإسلاميون واللعب في الهوامش، “العربي الجديد”، 12/4/2023) تعاطي الإسلاميين السطحي مع هذه الإشكالية. وها هنا عرض لتعاطي القوميين العرب، أحزابا وأنظمة، مع هذه الإشكالية.

تبنّت فئاتٌ من النخبة العربية في عدة ولايات عثمانية، بلاد الشام بشكل خاص، الفكرة القومية التي وفدت من أوروبا إلى المجال العثماني بعد قرنين من نشوئها واعتمادها قاعدة في العلاقات الدولية هناك بموجب اتفاقية وستفاليا 1648، التي أقرّت بالدول الوطنية الناشئة هناك وبسيادتها ضمن حدودٍ لها، ثابتة ومعترف بها. تبنّتها هذه الفئات ردّا على تبنّيها من فئاتٍ من النخبة العثمانية، جمعية الاتحاد والترقي على وجه الخصوص، واتباعها، عند تسلّمها السلطة عام 1908، سياسة تتريك وتمييز ضد الأقوام غير التركية في السلطنة، وإعدامها عشرات العرب بذريعة الخيانة والعمل لصالح فرنسا، ومطالبتها، هذه الفئات، بحقوق العرب في الدولة المشتركة ممثلة بالسلطنة، عبر إدارة لامركزية بداية، والدعوة إلى الاستقلال تاليا.

شكّلت هذه الفئات جمعياتٍ أدبيةً وسياسيةً، وعقدت مؤتمرها الأول في باريس عام 1913؛ وبلغ تحرّكها ذروته في “الثورة العربية الكبرى”، التي قادها أمير الحجاز، الشريف حسين بن علي، عام 1916، ونجح بالاتفاق والتعاون الميداني مع البعثة البريطانية في القاهرة، التي وعدته بإقامة مملكة عربية بقيادته، في طرد القوات العثمانية من بلاد الشام. ولم تف المملكة المتحدة بوعدها، بل ذهبت إلى تنفيذ اتفاقية سايكس بيكو مع فرنسا، كانت روسيا طرفا في الاتفاقية، لكنها انسحبت منها بعد قيام الثورة البلشفية فيها عام 1917، سورية لفرنسا وفلسطين والعراق للمملكة المتحدة، وتغطية الاحتلال بقرار من عصبة الأمم يضع هذه الدول تحت انتدابهما، مع بدء الأخيرة بتنفيذ وعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين.

أجّج احتلال سورية والعراق والاستيطان اليهودي في فلسطين الشعور الوطني، فنشطت النخب العربية في عقد مؤتمراتٍ سياسيةٍ وتشكيل أحزاب وطنية، حزبي الاستقلال والاتحاد السوري، واللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني، وتنظيم احتجاجات وثورات من أجل طرد المحتل؛ وقد قادت التجربة إلى اكتشاف ترابط العرب المصيري وذهاب فئاتٍ من النخبة إلى تبنّي الخيار القومي والبدء بتشكيل أحزاب بتوجه قومي عربي، حركة التحرير العربي وحزب البعث العربي والحزب العربي الاشتراكي، ترتكز إلى نظرياتٍ فكريةٍ كانت قد ظهرت في أوروبا قبل ذلك بعقود، يعتمد بعضها العِرق قاعدة لها، ويعتمد بعضٌ آخر اللغة والتاريخ وثالثٌ الولاء والشعور القومي.

انطوى تبنّي الفكرة القومية، والعمل من أجل تحرّر العرب وسيطرتهم على مصيرهم ومستقبلهم، على تقاطعٍ عميقٍ مع السياق المحلي، في ضوء دور العرب الرئيس في تشكيل هذا السياق، إلا أن تعاطي الأحزاب القومية، التي تشكّلت في النصف الأول من القرن العشرين، والأنظمة ذات التوجّه القومي، التي حكمت في خمسينيات هذا القرن وستينياته في مصر وسورية والعراق، لم يكن منسجما أو متّسقا مع مستدعيات هذا السياق بكامله، بسبب تجاهلها العامل الرئيس فيه: الإسلام، ما أسّس لتعارض سياسة هذه الأحزاب والأنظمة مع المزاج الشعبي العام، وتوظيف جزءٍ مهمٍّ من إمكاناتها للجم هذا التعارض وتبعاته المحتملة، ليس بتعديل سياستها وإجراء عملية موازنة بين مستدعيات السياقين المحلي والوافد، بل بالالتفاف على مستدعيات السياق المحلي بطرقٍ ووسائل هامشية، مثل الاهتمام بالمناسبات الدينية، الاحتفال بمولد النبي (عليه الصلاة والسلام) وليلة القدر والإسراء والمعراج والعيدين وحضور المسؤولين لها وأدائهم صلاة الجمعة والعيدين في المساجد وأداء فريضة الحج ونشر صورهم في الصحف والمجلات. وأضافت، بعد تأطير الرفض الشعبي والنخبوي في جمعيات وحركات سياسية ذات توجّه إسلامي، التوسّع في بناء المساجد، وطباعة القرآن الكريم، طبعاتٍ فاخرة، ونشر كتب التراث الإسلامي، الفقه والتاريخ الاجتماعي والأدبي، وتأسيس مراكز بحثٍ ودراساتٍ عن التاريخ الإسلامي من جميع النواحي التاريخية والاجتماعية والفقهية، جنبا إلى جنب مع قمع مظاهر المعارضة السياسية والاجتماعية بقوة، ومن دون ترك خط رجعة. وهذا عمّق التعارض وكرّس المفاصلة وأهدر قيمة تقاطعها مع السياق المحلي.

لم تعط هذه الأنظمة تقديرا مناسبا لثقل الإسلام في البنية الثقافية والاجتماعية، ولم تلتفت إلى مغزى ودلالة رد فعل المجتمعات العربية على الغزو الغربي وتصدّيها له؛ وتصدّر جماعات وشخصيات إسلامية له، الحركتين المهدية في السودان والسنوسية في ليبيا وعبد القادر الجزائري وعبد الحميد بن باديس في الجزائر وعبد الكريم الخطابي في المغرب ومحمد ولد إمسيكة في موريتانيا وثورة العشرين في العراق، والهزّة التي أحدثها إلغاء مصطفى كمال الخلافة في المجتمعات العربية والإسلامية، ودلالة تشكيل جماعة الإخوان المسلمين في عشرينيات القرن العشرين ردّا على انتشار القيم الغربية في المجتمعات الإسلامية. لذا لم تنجح مقاربتها الشكلية في إقناع المجتمعات الأهلية بصدقها وجدواها، حيث بقي الإحساس العام بتعارض سياساتها وخياراتها مع العقيدة والثقافة السائدتين، وأن مقاربتها مستدعيات العامل الديني شكلية، في حين تميل في سياستها الفعلية إلى تبنّي مفاهيم وقيم اجتماعية غير إسلامية وتمنحها الحضور والسيادة في الحياة العامة، على حساب المفاهيم والقيم الاجتماعية الإسلامية، فجزءٌ رئيسٌ من سياساتها، وفق النخب المحافظة والقوى السياسية ذات التوجّه الإسلامي، هدفه السعي إلى فرض فلسفة الغرب وقيمه الاجتماعية على المجتمعات العربية المسلمة. وشكّل هذا، مع قمع السلطات ضد ظواهر المعارضة الفردية والمنظّمة، خلفية لولادة الحركات الإسلامية التي تتبنّى استخدام القوة “الجهاد”، وتعزيزا لسرديّتها عن مظاهر التغريب النافرة في المجتمعات الإسلامية. وقد زاد تحالف هذه الأنظمة مع الاتحاد السوفييتي، في سياق تشكيل توازنات جيوسياسية في مواجهة الضغوط الغربية، وأحزاب شيوعية محلية تدور في فلكه، تُنكر الأديان وتحاربها علنا، الفجوة وعمّقها.

لم تكتف الأنظمة ذات التوجّه القومي بتحويل عقيدتها السياسية إلى دينٍ للدولة والعمل على فرضها على المواطنين وتطويقهم بمحدّدات وقيود لتنميط سلوكهم وتعويدهم على الخضوع والصمت عبر التعليم والدعاية التي تبثّها وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية، وعبر الفن، الغناء والسينما والمسرح، وتحويل الفقهاء ورجال الدين إلى موظّفين لدى الحكومات، وإلحاق الأوقاف الإسلامية بوزارات الأوقاف، لتجريد المؤسّسات الإسلامية، دور الإفتاء والأزهر … إلخ، من عوامل قوّتها بنزع استقلاليتها، بل سعت هذه الأنظمة إلى تهجين الدين الإسلامي، باستخدام فقه مراحل الجمود والانحطاط وسيادة قيم التغلّب والقهر في التاريخ العربي الإسلامي، بالعمل على تكريس قيم الطاعة والخضوع للحكام، واعتبار الخروج عن طاعة الحكّام خروجا على الإسلام. وهو ما كرّس انعدام الثقة بين المواطنين، وزاد هشاشة الاندماج الاجتماعي والاستقرار السياسي، ورفع درجة تحدي الأفكار الكامنة حول الحرية والعدالة والمساواة في الإسلام. ذلك لأن العمل على المسّ بعقائد ومفاهيم وقيم إيمانية عبر محو التخوم والفواصل والتباين مع مفاهيم وقيم مناقضة يزيد في حدّة ردّ الفعل والتمسّك بالتباين والانخراط في صراع جذري على المفاهيم والقيم والسياسات. وكلما كان التماهي مع المفاهيم والقيم المناقضة للسائد عميقا جاء ردّ الفعل شاملا وعنيفا، وجعل المواجهة محور الرؤية، وأعطى الحركات الإسلامية حُججا لتبرير مواقفها وممارساتها العنيفة. وقد زاد استخدام العنف والبطش الشديد من هذه الأنظمة ضد الأفراد والحركات الإسلامية، الطين بلّة، حيث زاد حدّة التوجّس والاحتقان، ومنح الحركات الإسلامية فرصة الاستحواذ على الإسلام والتحدّث باسمه واستخدامه وسيلة للاستقطاب والحشد والتمرّد والتوسّع في استخدام العنف تحت راية حماية الدين. لقد نقلت السياسات المنفصلة عن الواقع والهويات المصطنعة الصراع إلى داخل المجتمعات العربية، مزّقت إجماعَها وفجّرت استقرارها وشلّت قدرتها على التقدّم والازدهار.

لم يقف تجاهل العنصر الرئيس في السياق المحلي على ممارسات الأنظمة ذات التوجّه القومي، بل امتدّ ليشمل مفكّري هذه المدرسة السياسية وكتّابها، بما في ذلك أهم مفكّريها، عصمت سيف الدولة ونديم البيطار. بذل الأول جهدا كبيرا في استقراء المناهج الفكرية من أجل التيقّن من صحتها لخدمة مسيرة تغيير ناجحة، وحقّق نجاحا ملحوظا وهاما في هذا المسعى بصياغة منهج جديد، جدل الإنسان، متفوّقا في تفسير الظواهر الاجتماعية على المنهجين الغربيين المادي والمثالي. لم يكتف بعدم الالتفات إلى ما في الإسلام والفكر الإسلامي من أفكارٍ منهجية، لو فعل لوجد منهجه الجديد مبثوثا في آيات القرآن الكريم وفي كتابات مدرسة الاعتزال، مثل كتابات القاضي عبد الجبار، بل واستخدم منهجه الجديد في التنظير لحركة سياسية قومية وبتناغم تام مع الحلول المطروحة من النظام الناصري. قفز على أولويات المنهج التي تفرض البدء من فهم الواقع المحلي وسياقاته، حيث السياقات التاريخية والبنى الاجتماعية والثقافية والسياسية السائدة تخبرنا كيف وصلنا إلى ما نحن عليه وتمنحنا الفرصة لإيجاد المخرج المناسب، وتبنّى خيارا مقطوع الصلة بالسياق العربي المحلي. الثاني، نديم البيطار، تجاهل هو الآخر التجربة التاريخية العربية، حتى أنه تجاهل خلال بحثه في كتابه الموسوعي “الأيديولوجية الانقلابية”، سمّاه في طبعة جديدة “الأيديولوجية الثورية”، أكثر من ألف صفحة، عن أجوبة لأسئلته عن التغيير الثوري المطلوب في دنيا العرب التجربة التاريخية العربية والسياق المحلي وبنى تنظيره على التجارب الخارجية، وليس بين مراجع كتابه الـ625، كتاب عربي واحد.

إذا كان التركيز المبالغ فيه على الدين، باعتباره الركيزة الأساسية للهوية، والقلق على القيم والثقافة المحلية، لا يشكّلان شرطا كافيا للتطوّر والنمو وتحقيق الأهداف في العصر الحاضر، فإن تجاهلهما، والقفز عليهما، وصفة لانقسام المجتمع وتكريس المفاصلة واستمرار التوتر والتمرّد، فالتصالح مع الدين الإسلامي في الدول التي يشكّل الإسلام دين الأغلبية فيها ضرورة حيوية من أجل الاستقرار والسلام الاجتماعي والتقدّم المستدام.

 

المصدر: العربي الجديد

زر الذهاب إلى الأعلى