يستطيع المتابع لاهتمامات وأفكار جمهور التواصل الاجتماعيّ أن يلمح سرعة التبدّل والتغيّر التي تطولها والتي قد تصل إلى حدّ التناقض في بعض الأحيان، ممّا يجعلها قاصرةً نوعًا ما عن الارتقاء إلى مستوى تكوين رأيٍ عام، نستطيع أن نستشفّ من خلاله الروح الواحدة للجمهور التي تمثّل توجّهاته؛ ولعلّ عامل الزمن هو العنصر الأهمّ الذي يسهم في تبلور الرأي العام للجمهور؛ إذ يسهم في إنضاج الآراء والأفكار على ناره البطيئة.
في عصرنا الحاليّ الموسوم بعصر السرعة، يتضاءل عنصر الزمن اللازم لإنضاج الأفكار، وهذا يجعل الجمهور عاجزًا إلى حدّ ما عن تشكيل رأيه الخاصّ به والذي يعبّر عن روحه ونفسيّته؛ ممّا يدفعه في بعض الأحيان إلى تبنّي الآراء التي قد تُلقّن له، أو يُوحى بها إليه من قِبل الآخرين والتي ربّما تفتقد المنطق في جزءٍ كبيرٍ منها؛ في النهاية الإنسان لا يحيا بالحقائق وحدها كما يرى غوستاف لوبون في كتابه (سيكولوجيا الجماهير).
يكاد الكلام السابق أن ينطبق إلى حدّ كبير على الحالة السوريّة؛ يُضاف إليه كثرة الجهات الملقّنة للأفكار والتوجّهات وتضاربها، في ظلّ غياب شخصيّة قياديّة مؤثّرة تستطيع أن تجذب السوريين إلى موقف أو رأي موحّد، وتتمتّع بقدرٍ من الهيبة الشخصية تُمكّنها من تحقيق التأثير المطلوب؛ وبذلك نوشك أن نفقد يومًا بعد يوم إمكانيّة تشكّل رأيٍ عام يجمع السوريين؛ فما حصل خلال السنوات العشر الماضية كان كافيًا لانحلال وتفتيت قناعاتٍ كثيرة، الأمر الذي أدّى إلى نوعٍ من اللامبالاة المتزايدة لدى السوريين جماعاتٍ وأفراد فيما يخصّ قضيّتهم وثورتهم التي يخفت صوتها تدريجيًّا، لتتحوّل إلى مساراتٍ ومآلاتٍ تبتعد يومًا بعد يوم عن الهدف الأساسي الذي خرجت من أجله.
ينشغل السوريون في مجتمعاتهم البديلة بين الحين والآخر ببعض القصص العابرة على وسائل التواصل الاجتماعي والتي لا نستطيع أنّ نقرّر أنّها هامشيّة وساذجة؛ فنحشرها في خانة التفاهة قياسًا إلى القضيّة الأساسية للسوريين، لكننا نستطيع أن نصنّف بعضها على أنّها آثار مباشرة للحرب السورية التي تجاوزت عامها العاشر وأفرزت كثيرًا من الظواهر التي بات بعضها من خلال التضخيم الإعلامي المقصود أن يحوّلها إلى ما يشبه الظاهرة السلبية المؤرّقة للسوريين في مجتمعاتهم البديلة؛ ليواجهوا في أحيان كثيرة دعاية منظّمة تستهدف وجودهم في تلك البلدان.
في الشهر الماضي حدثت مجزرة في أريحا ذهب ضحيّتها عشرات المدنيين وجلّهم من الأطفال الذاهبين إلى مدارسهم في الصباح المبكّر؛ قبيل المجزرة بقليل كان خبر افتتاح جمعية تعدّد الزوجات في اعزاز الشغل الشاغل للسوريين الموزّعين في كلّ بقعةٍ من العالم، مرّ خبر المجزرة مرور الكرام؛ إذ تبع خبر الجمعيّة خبرٌ آخر انهمك فيه السوريون عن آخرهم مجدّدًا، وهو مقطع مصوّر تهاجم فيه امرأة تركيّة طالبة سوريّة؛ نجت من مجزرةٍ محتملة فيما لو أنّها بقيت في سوريا، لتجد نفسها في شراك مجزرةٍ من نوعٍ آخر؛ تتجلّى في رفض شريحة من المجتمع الجديد وجود اللاجئين فيها؛ وبدلًا من اللجوء إلى الوسائل المنطقيّة في الإقناع لتلك الفئة الرافضة لوجود اللاجئين على أرضها ـ والذي يُفترض أنّه قد بدأ منذ زمنٍ طويل بطرق منظّمة وفعّالة وعبر قنواتٍ إعلاميّة متخصّصة، فلا تجد تلك الفتاة السوريّة نفسها مضطرّة لنقاشها الفرديّ ذاك ـ انخرطت فئاتٌ سوريّة كثيرة في موجة سخرية هائلة من ذلك المقطع، وكأنّهم وجدوا أن أسلوب السخرية ممّا حدث وتحويله إلى دعابة قد يحقّق نتائج أفضل بكثير من اللجوء إلى المنطق الذي بات العالم بأسره يفتقد إليه ولم يعد يلقى آذانًا مصغية، أو أنّها مجرّد محاولة للتنفيس عن الغضب المكبوت الذي يكتنف حياة السوريين في كلّ بقعةٍ من العالم هاجروا إليها بمجرّد إجماعهم على رأي واحد، بالرّغم من إدراك الكثيرين منّا أنّ السخرية لا يمكن أن تكون حلًّا ناجعًا في القضايا المصيريّة، وأنّها لا تعدو كونها أسلوبًا من أساليب التخدير والتحوّل باتّجاهٍ آخر يمعن في تجاهل المأساة الحقيقية لنا كسوريين.
تنشغل في وقتنا الحاليّ كثيرٌ من الحكومات والصحف بمتابعة الرأي العام الذي كانت تقوده فيما مضى وتوجّهه بشكل كامل، أمّا اليوم فقد تجد نفسها في بعض المواضع مضطرة للتوافق ـ وإن ظاهريًّا ـ مع آراء الجمهور وأن تبدي خضوعًا لها، لذلك تصرف جهدًا لا يُستهان به لمعرفة الأثر الذي يتركه حدثُ ما على الرأي العام للجمهور، بالرغم أنّه لا يوجد شيء أكثر تغيّرًا من آراء وأفكار الجمهور؛ إلّا أنّ تلك الحكومات تدرك أنّ الطريقة الأفضل للسيطرة على الجمهور والتحكّم به؛ هي معرفة روحه، ومن خلال هذه المعرفة تستطيع أن تنفذ إلى أعماقه، وتحدث التغيير المناسب في طريقة تفكيره، وكلّما كانت تلك المعرفة دقيقة وموثوقة، أصبحت إمكانية السيطرة على الجمهور والتحكّم به أكبر.
بالعودة إلى الحالة السوريّة قبل الثورة؛ نستطيع القول: إنّ السوريين امتلكوا رأيًا عامًا فيما يخصّ قضايا العالم والمنطقة العربيّة كلّها، باستثناء الوضع الداخلّي لبلدهم وكلّ ما يمتّ لحياتهم بصِلة، فالسوريون حكومةً وشعبًا دعموا وأيّدوا قضايا الشعوب بأسرها؛ بينما أيّ نقدٍ للوضع الداخليّ ينمحي أمام حالة الاستنفار الدائم التي يعيشها النظام المقاوم والممانع، كل نضال في العالم نحن جزء منه، كلّ تقصيرٍ من قبل النظام الحاكم بحقّ الشعب يصفح الشعب عنه، مادام النظام يقف شوكةً في حلق العدوّ التاريخيّ للأمة العربية ممثّلًا بأميركا وحليفتها إسرائيل، ومن خلال التكرار أحدثت فكرة المقاومة المزعومة تلك سطوتها في نفوس معظم السوريين.
استطاع النظام من خلال هالة المقاومة المزعومة التي ألصقها بنفسه؛ أن يصرف نظر السوريين عن استبداده والوضع المزري لحياتهم من خلال حروب مزيّفة ميدانها الوحيد الإعلام، استطاعت مكنته الإعلاميّة عبر التكرار في فترة زمنيّة طويلة، ومن خلال أدواتٍ قوامها الدعاية والتحريض أن تلهب حماس السوريين وتزجّهم في معارك وهميّة مع العدوّ خارج أسوار البلد، وبالطرق ذاتها استطاعت أن تقنعهم أن سوريا رأس الحربة في ما يُسمّى “محور المقاومة والممانعة”، وفي سبيلها لا بدّ أن يغضّ السوريون بصرهم عن الممارسات الظالمة والمجحفة للسلطة بحقّهم، فالحرب التاريخيّة بين النظام السوريّ الحاكم والعدوّ الإسرائيلي الغاشم تسوّغ تلك الممارسات، لكنّها في الوقت ذاته لا تعني أبدًا أن يغضّ النظام طرفه عن بعض الممارسات الفردية للسوريين، ولا أن يتخلّى عن حيطته وحذره إزاء نوايا خبيثة يستطيع التقاط رائحتها قبل أن تظهر للعلن، وفي حرب مقدّسة كحربه تحدث بعض التجاوزات والأخطاء الفرديّة التي قد تمتد وتطول مدينة متآمرة وعميلة للعدوّ التاريخيّ المتربّص بأمن وأمان سوريا، وفي وقتٍ لاحق تفرّخ المؤامرة وتمتدّ لتشمل البلد كلّه.
لقد بلغت المؤامرة على النظام مداها المجدي عام 2011 ليتمّ توصيفها من قبل النظام وإعلامه بالمؤامرة الكونية؛ وبلغت ذروتها حين توحّدت كلمة معظم السوريين، وتشكّل لديهم رأي عام يجمع على ضرورة رحيل النظام؛ ليكون رأيهم ذاك سببًا في رحيلهم عن البلد؛ فالنظام متمرّسٌ وعريقٌ في مواجهة المؤامرات عبر الحرب الطويلة التي خاضها ضدّ إسرائيل والتي بدأت بالقائد الأب وحمل لواءها الابن.
دأب النظام على تفريغ الثورة من محتواها من خلال تجريدها من لبوس سلميّتها وتمزيق الرأي العام للسوريين الذين أجمعوا على رحيله؛ من خلال اختراق الجمهور الثائر ضدّه، واستطاع أن يظهر كلّ من شارك في الثورة بأنّه جزء من المؤامرة الكونية التي تستهدف سوريا معقل المقاومة، ولقد منحته دولٌ وعوامل كثيرة الوقت الكافي ليقنع العالم بنظريّة المؤامرة تلك؛ خصوصًا أن الجمهور الثائر مع مرور الوقت بدأ يتلقّى بطيبة خاطر كلّ الاقتراحات والأوامر التي تصله من أطراف عديدة ومتنازعة، إضافةً إلى غياب شخصيّة قياديّة مؤثّرة تستطيع أنّ تلمّ شتات الرأي السوري من جديد وتعيده إلى جادة الثورة.
سنوات عشر من عمر الثورة كانت كافية للنظام ليمتصّ زخمها ويبرّدها في ثلّاجة تجاهل العالم المتحضّر للمأساة السوريّة، وفي وقتٍ لاحق استطاع أن يظهرها للعالم على أنّها موجة إرهاب مفتعلة قد تمتدّ لتضرب أجزاء كثيرة من العالم، وأن لا بديل عنه في محاربة تلك الموجة الخطيرة التي يمكن أن تؤرّق العالم بأسره، وتحت ذريعة محاربته للإرهاب استطاع أن ينفرد بالمناطق الثائرة والساخنة تباعًا ويجد طرق التبريد والامتصاص الملائمة.
يبدو العالم اليوم أكثر اقتناعًا أنه لا بديل للنظام، ولم يعد تنحّي النظام ـ مولّد الأزمات ومنبع الخراب ـ عن السلطة من أولويات العالم المتحضّر الذي ينشغل بمعالجة الكوارث التي نجمت عن بقاء النظام؛ ومنها أزمة اللاجئين وقضايا أخرى كثيرة أفرزتها الحرب، بينما يخشى السوريون في كثيرٍ من الأحيان أن يزجّوا بأنفسهم في تلك القضايا لاعتباراتٍ كثيرة لم تعد تخفى على أحد، وهكذا يجد السوريون أنفسهم من جديد قد فقدوا بوصلتهم؛ يحاذرون تلك القضايا المصيريّة التي تمسّ وجودهم في الصميم، ويدورون في فلك قضايا أخرى جانبيّة، يشكّل الإمعان فيها في مواضع كثيرة مجلبةً للضرر؛ لأنّها تجري بشكل فوضويّ ومنفلت.
من المؤلم أن نجد أنفسنا ـ نحن السوريين ـ بعد خساراتنا التي طال أمدها وتشعّبت لتطول تفاصيل حياتنا كلّها عاجزين عن توحيد شتاتنا، وتحديد أولوياتنا واختيار ممثّلينا، ويبدو أن بوصلتنا الضائعة لن تهتدي إلى وجهتها على المدى القريب على الأقلّ.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا