تونس إلى هبّة شعبية مرجّحة

عمار ديوب

اعتقلت شرطة الرئيس التونسي، قيس سعيّد، رئيس البرلمان الشرعي في البلاد، راشد الغنوشي، وقياديين في حركة النهضة التي يترأسها، وهي أكبر الأحزاب، وأكثر الأحزاب مشاركة في النظام السياسي منذ ثورة 2010 من أجل الانتقال الديمقراطي. وفق الناطق باسم الحرس الوطني التونسي، جرى الاعتقال بسبب تصريحات للغنوشي. وقد أوردت تقارير صحافية كلمة ألقاها الرجل في اجتماع لجبهة الخلاص الوطني، أكد فيها عدم تجاهل أيّة قوى في تونس: “إن تونس… دون يسار، أو دون النهضة، ودون إسلام سياسي، أو أيّ مكون من المكونات، هي تؤسّس للحرب الأهلية”. يحذّر هذا الكلام من انعدام الحريات، والاعتقال، وإلغاء الأحزاب والحياة السياسية. بعد اعتقال الغنوشي، قرّر النظام إغلاق مقارّ حركة النهضة، وكذلك أغلق المقر الرئيسي لجبهة الخلاص، ويبدو أنّها ستطاول قوى أخرى؛ إذاً أعلن نظام قيس سعيّد الطلاق الكامل مع الديمقراطية، وأصبح ديكتاتورية عارية.

مشكلة سعيّد أنّه يقوم بذلك في ظلِّ أزمة متعدّدة الأوجه في هذا البلد، وفي ظل انفضاض أغلبية التوانسة عن نظامه. وجود شريحة هامشية داعمة له، وحتى أجهزة الأمن والجيش والشرطة، لا يعني القول إن الوضع في هذا البلد استقر له. لا أبداً. سياسياً، بالكاد تجد قوى وشخصيات وازنة تدعم الحكم. انفضّ عنه الاتحاد التونسي العام للشغل، ومن كان بعيداً عن حركة النهضة، كرئيس جبهة الخلاص أحمد الشابي، أطلق تصريحاتٍ رافضةً الاعتقال، وهذا سيكون موقف أغلبية القوى السياسية التونسية.

هناك إرث ثوري منذ 2010، وهناك رغبة تونسية شديدة للانتقال إلى الديمقراطية، وهناك عقلية ديمقراطية تتصرّف وفقها أغلبية القوى السياسية والشخصيات المستقلة، رافضة أيّة ممارسات استبدادية، والقوى التي كانت تتحفّظ على إسلامية حركة النهضة، تبدو مصمّمة على حقّ الأخيرة بالعمل السياسي. وفي المجمل، تبدو القوى السياسية التونسية في حالة صحوةٍ، ورفضٍ كبيرٍ لكل ما فعله قيس سعيّد، وكذلك أغلبية الشعب التونسي الذي لم يتوقف عن التظاهر ضد أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية. ويبدو أن الأوضاع السياسية أصبحت هي كذلك سبباً للاحتجاج، ولا نقصد فقط رفض الدستور والانتخابات البرلمانية، بل مجمل سياسات قيس سعيّد؛ فمن طرد زين العابدين بن علي في 2010 لن يقبل شخصيةٍ تعيد مجد ذلك المطرود.

أهمية الغنوشي في أنه رئيس البرلمان الشرعي. لم يقبل حل البرلمان، وهو محقّ بذلك. دفعت مكانتُه هذه سلطة الانقلاب إلى استجوابه غير مرة ثم اعتقاله أخيرا بحجج غسيل الأموال، والإرهاب، وإرسال الجهاديين إلى سورية وليبيا والعراق، وتقويض أمن الدولة، وهكذا دواليك، وكلّها تهم كاذبة. وليست التهم المعلنة أخيرا ضده وإغلاق مقارّ حركة النهضة بعد الاعتقال، إلا إضاءة على سياسة نظام سعيّد بأن صفحة الحريات انتهت بالكامل، وهذا إنذار علني وواضح لكل القوى السياسية، وقد اعتقِلت أكثر من 30 شخصية وازنة في تونس، أضيفت إليها أخيرا مجموعة جديدة.

يعلن الغنوشي، جهاراً نهاراً، أنّه سياسي، ولن يتخلّى عن السلمية. ورغم الانتقادات متعدّدة الأسباب لممارساته، ولسنواته في زعامة حركة النهضة، ولمحاولة استئثاره بالسلطة مع شخصيات من النظام القديم وقوى سياسية محدّدة وانقسام حركته ذاتها، فإن ذلك لم يصل إلى التنديد به باعتباره ضد النظام الديمقراطي، أو إلغاء الحرّيات. وبالتالي، لم تكن كل ممارساته تلغي الديمقراطية، وكان كل نقد له ينطلق على أرضية تطوير النظام الديمقراطي، وأن الغنوشي وحركته جزء منه، وليس كما حاول قيس سعيّد وصحفيوه وصف الرجل بأنه يدعو إلى الحرب الأهلية.

سياسات الرئيس التونسي، ووضع السلطات بين يديه، وتهميش كل مؤسّسات الدولة والسلطات، هي وصفة فعليّة للحرب الأهلية، ليس في تونس فقط، وربما في مصر التي نجت من ذلك المصير. الاستقواء الجيش وأجهزة الأمن والشرطة لن يُخرِج تونس من الأزمة السياسية، فكيف إن كانت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في أعلى مستوياتها. وأسباب وصول قيس سعيّد إلى السلطة لم تعد قائمة، وأصبحت البلاد كلّها متأزمة، وضد استمراريته.

تعاني تونس أزمة اقتصادية شديدة، ولم يعطِ البنك الدولي نظام سعيّد شيكاً على بياض، ويبدو أن التفاوض بينهما لم يصل إلى حصول النظام على تلك المليارات. وفي حال الوصول إليها، سيضطر النظام إلى تقديم تنازلاتٍ تخصّ التخلي عن بعض الدعم الحكومي والإنفاق العام، وهذا سيضاعف من الأزمة الاجتماعية وليس العكس. في مصر، الأزمة ذاتها تتفاقم، وحصول نظام السيسي على بعض المليارات منذ عدة سنوات ومساعدات من دول الخليج لم توقف انهيار العملة، وأوضاع الأغلبية، وأصبحت الديون الجديدة من أجل إيفاء القديمة، وهكذا الأمر في تونس.

أصبحت حجّة تدعيم العلمانية في تونس، عبر اعتقال الغنوشي وإغلاق مقارّ حركة النهضة، مستهلكة عند التوانسة، سيما أن محاكمات الغنوشي السابقة بخصوص الإرهاب وتقويض أمن الدولة فشلت. وبالتالي، أصبح التوانسة على وعيٍ كاملٍ بأن نظام قيس سعيّد لا يعمل من أجل المحافظة على الدولة، أو العلمنة، بل ويهدّد الديمقراطية، ويعمل على إدخال الجيش إلى السلطة، بينما كان من قبل مهنياً ووظيفياً، وميزانيته قليلة قياساً بأجهزة الأمن.

تعاني تونس حالياً من أزماتٍ متعدّدة، ومن طلاقٍ بائنٍ بين النظام ومختلف القوى السياسية والنقابية. وإذا كان قيس سعيّد قد استفاد من الأزمة السابقة لانتخابه في 2019، ومن هزال النظام الديمقراطي حينها، وكان المجلس النيابي هو مكان ذلك الهزال حينها، ونقصد المناقشات التي كانت تتزّعمها رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي، فإن الأخيرة ذاتها أصبحت رافضة سياساتٍ كثيرة في نظام سعيّد. وبذلك، تونس ذاهبة نحو التأسيس لجبهة سياسية واسعة وقيادة العمل السياسي المناهض لنظام قيس سعيّد؛ الوضع حالياً على أهبة هبّة شعبية وسياسية جديدة، فهل سيستمر إلى لحظة الانتخابات الرئاسية المقبلة، أم سيطيح الشعب الرئيس الشعبوي، وقد وعى خطورة الشعبوية على مستقبل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية، واحتمال إدخال البلاد في حربٍ أهلية.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى