تشكّل دولة “إسرائيل” نموذجاً مثاليًا لاضطراب علوم السياسة والاجتماع في إطلاق الأحكام وتعميمها، خاصّة عند مقاربتها توصيف حالة هذا الكيان. فمن جهة أولى قامت هذه “الدولة” على أنقاض شعبٍ هجّرته بعد أن احتلّت أرضه تحت رعاية كاملة وشبه مطلقة من المجتمع الدولي، وهي تمارس منذ ما قبل تاريخ إعلانها دولةً بشكل رسمي أبشع جرائم القتل والاستيلاء على الحقوق والممتلكات بحق الفلسطينيين، وكثيرٌ جداً من جرائمها هذه تستحقّ وصفها بجرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية وجرائم دولية خطيرة، لما فيها من عمومٍ وشمولية ومنهجيّة واضحة ونطاق واسعٍ تمارس فيه. لكنّها أي “إسرائيل” من جهة ثانية، تقوم نسبياً وفي حقول خاصّة بسكانها من اليهود والمستوطنين، بتطبيق مبادئ الديمقراطية من خلال تداول السلطة السياسية عبر الانتخابات الحرّة، ومن خلال الحفاظ على حرية التعبير وعلى حريّة الإعلام والصحافة، وهي، كما يصفها المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه بأنها ديمقراطية من حيثُ الطابع، لكنها يهودية من حيثُ الجوهر.
كان لشركات التقنيات الرفيعة (الهايتك) دورٌ كبيرٌ في تحذيرِ اليمين الإسرائيلي المتطرّف من المسّ بسلطة المحكمة الإسرائيلية العليا ومن التدخّل بسلطة القضاء
بسبب طبيعة هذا الكيان / “الدولة” الخاصّة التي تحددت منذ نشوئها بظروف الصراع الدائم والأزلي مع سكّان الأرض الأصليين وأصحاب الحقوق الشرعية من جهة، ومع شعوب دول المحيط العربي من جهة ثانية، فقد كانت بحاجة ماسّة ودائمة للعمل ضمن منظوماتٍ أمنيّة وعسكرية متطوّرة، تحفظ لها تفوّقاً معلوماتياً استخباراتياً وتقنياً وعلمياً على كلّ جيوش المنطقة مجتمعة وعلى أجهزتها الأمنية أيضاً. أدّت هذه الظروف الموضوعية الخاصّة، بالإضافة للهجرات الكبيرة التي رفدت المجتمع الإسرائيلي بخبرات واسعة في مجالات متعددة من العلوم المختلفة، خاصّة مع انهيار الاتحاد السوفييتي، والطبيعة الرأسمالية التنافسية للاقتصاد القائم فيها، إلى تركيز جهود مراكز البحوث والشركات الخاصّة على صناعات التسليح والبرمجيات الأمنية العاملة في مجالات جمع المعلومات والتجسس. خير مثال على ذلك أنظمة الدفاع الجوي وأنظمة اختراق الشبكات والتنصّت مثل نظام بيغاسوس الشهير، وقد كان لسرقة أرشيف البرنامج النووي الإيراني صدى كبيراً على مستوى العالم، دعَمَ هذا الواقعَ المحكي عنه أعلاه بشكل كبيرٍ جداً، ودفع بالكثير من المستثمرين (دول وشركات) للاستفادة من هذه القدرات الإسرائيلية المتطوّرة. لهذا، كان لشركات التقنيات الرفيعة (الهايتك) دورٌ كبيرٌ في تحذيرِ اليمين الإسرائيلي المتطرّف من المسّ بسلطة المحكمة الإسرائيلية العليا ومن التدخّل بسلطة القضاء، فوجّهت عقب فوز نتنياهو بالأغلبية البرلمانية مباشرة، رسالة بالغة الأهميّة، تستنكر فيها العواقب الوخيمة المحتملة على صناعات ال (High Technology)، وعلى مستقبل الاستثمار الأجنبي في هذا المجال، مما يسبب ضررًا بالغًا باقتصاد إسرائيل.
في الوقت ذاته، وبسبب الطبيعة الاستيطانية الاستعمارية العنصرية لهذه “الدولة”، فقد كانت عاجزة على الدوام، وستبقى، عن تعريف ذاتها بكلّ المستويات إلا بالتناقض والتضادّ مع سكان البلاد الأصليين وأصحاب الأرض والحقوق. جعل هذا كلّه منها دولة فصلٍ عنصري بالدرجة الأولى، قائمة على التمييز بين فئتين أساسيتين من السكان، تخضع كلّ منهما لمجموعة مختلفة من القوانين والأنظمة، الأولى وهي المعنية بالرعاية والحماية تتمتّع بكل امتيازات السادة المستعمرين، والثانية وهي المعنيّة بالاضطهاد والتهجير والترويع، وتخضع لجميع أساليب القهر والاستعباد والظلم. أثّر هذا بطبيعة الحال على شكل الدولة ذاتها، وعلى فلسفتها مع مرور الوقت، فأصبح الانزياح نحو اليمين المتطرّف هو السمة الملازمة لهذه “الدولة”، حتى باتت أسسها، التي قامت عليها عند نشأتها بمحاكاة لأنظمة الحكم الديمقراطية في الغرب، مهددة بالانهيار، ولعلّ أبرزها المنظومات المؤسساتية الموكل بها من حيث المبدأ حراسة أسس الديمقراطية، أي القضاء والمحكمة العليا.
بسبب هذا الانزياح الدائم نحو التطرّف الصهيوني، باتت “الدولة” ذاتها أداة بيد الفئات الأكثر تشدداً حتى مع اليهود ذاتهم باعتبارهم طرفاً واحدة وكتلة جامدة مقابلة للسكان الأصليين العرب الفلسطينيين. وبسبب الطبيعة الإقصائيّة لهؤلاء، وبسبب أنماط تفكيرهم غير القادرة على استيعاب الديمقراطية إلا بوصفها انتخابات تحدد الأجدر بالسلطة والحكم، فإنها تجد نفسها في صراعٍ مع المؤسسات الحارسة لمبادئ الديمقراطية ذاتها، أي القضاء والمحكمة العليا. المنطق الذي يستخدمه هؤلاء المتطرفون يقوم على مغالطة منطقية بسيطة، مفادها أنّه لا يمكن لمؤسسات غير منتخبة، كالمحاكم القضائية والمحكمة العليا، أن تتحكّم بأداء مؤسسات منتخبة، فتحدّ من سلطة مجلس النواب (الكنسيت) المشكّل بإرادة شعبية في استصدار القوانين التي تراها الأكثرية الحاكمة مناسبة للمجتمع. ينسى هؤلاء أنّ الإرادة الشعبيّة المتجسّدة في العقد الاجتماعي المؤسس للدول في الديمقراطيات الحقيقية، هي التي وضعت قواعد الديمقراطية ذاتها من خلال مبادئ فصل السلطات وتعاونها لتحقيق أفضل مستوى من تطبيق هذه الإرادة الشعبية. إنّ دساتير الدول، التي هي التعبير الحقوقي الأسمى عن الإرادة الشعبية لمجموع المواطنين، هي التي تنظّم العلاقة بين مؤسسات الدولة ذاتها. هذا يعني أنّه لا يجوز، من حيث المبدأ والمنتهى، حصر الديمقراطية بآليات الانتخاب فقط، فلطالما أخرجت الآليات هذه أسوأ ما في قعر المجتمع، ولنا في الانتخابات التي أوصلت الحزب القومي الاشتراكي الألماني وزعيمه هتلر إلى سدّة الحكم خير مثال.
هل سينتصر اليمين الصهيوني المتطرّف في صراعه مع طابع الديمقراطية الإسرائيلية، مما سيؤدي إلى تعزيز جوهرها العنصري؟
أمّا الآن، ومع تصاعد الاحتقان في إسرائيل بين يمينٍ متطرّفٍ لا يجد أفضل من هذه الفرصة للانقضاض على الدولة وصبغها بلونه الأقرب إلى لون طالبان، وبين بقيّة الإسرائيليين المتوزعين على الوسط واليسار، بما يشمل ذلك من شرائح واسعة من المجتمع المدني الإسرائيلي، مثل النقابات والاتحادات والمؤسسات الفنيّة والثقافية، مدعومة بشكل واضح من بعض الدول ذات العلاقة الخاصّة بإسرائيل مثل ألمانيا والولايات المتحدة، فإنّ التراجع لأيّ من الطرفين سيؤدي إلى شروخٍ عميقة في بنية المجتمع الإسرائيلي. ومع نزول أنصار الفريقين المتضادين إلى الشوارع، ومع بدء بعض المؤسسات باتّباع أسلوب الإضراب عن العمل، وكذلك اتجاه بعض السياسيين والدبلوماسيين لتقديم استقالاتهم، فإنّه ليس بالإمكان معرفة إلى أين يمكن أن تصل الأمور هناك. ورغم تأجيل نتنياهو مشروع حزمة قوانين الإصلاح القضائي مؤقتًا، يبقى السؤال مطروحًا: هل سينتصر اليمين الصهيوني المتطرّف في صراعه مع طابع الديمقراطية الإسرائيلية، مما سيؤدي إلى تعزيز جوهرها العنصري، أم سيجد الإسرائيليون مخرجًا من أزمة جوهرية لم يعد بالإمكان إخفاؤها؟ وما هو تأثيرُ ذلك على المحيط العربي، خاصّة ذلك الذي يهرول إلى التطبيع مع إسرائيل متبنيًا مقولة “واحة الديمقراطية” في صحراء الديكتاتوريات، مؤكدًا صحّة الوصف بمبتدئه رغم عدم صحّته بخبره، وهل سنكون أمام تغييرات جوهرية في طرائق عمل القوى السياسية الفلسطينية، أم إنها ستبقى رهينة قفص التفاهمات التي حوّلتها بعد اتفاقات أوسلو إلى حارس لحدود الدولة التي اغتصبت أرض شعبها الفلسطيني وشرّدته منها؟
المصدر: موقع تلفزيون سوريا