أعتقد أن أعداداً كثيرة من السوريين تابعوا باهتمام المسلسل السوري “ابتسم أيها الجنرال” الذي بثته قناتا “العربي” و”تلفزيون سوريا” في وقت واحد خلال شهر رمضان.. وهو أول عمل درامي يتجرّأ على تناول تلك الحقبة المظلمة من تاريخ سوريا، رغم الإمكانيات المحدودة، على أكثر من صعيد، وكأنّي به يمثل أو يعكس دوافع صيحات الحرية الأولى وفحواها التي أطلقها شباب سوريا فملأت شوارع المدن السورية الكبرى، وساحاتها! وربما، من هنا، ومنذ الحلقات الأولى للمسلسل أخذت الأحاديث عنه تتوالى متباينة، في تقييمها لذلك العمل الدرامي، بين مادح وذام، وبين من هو بَيْنَ بَيْن.. وليس جديداً القول:
إن الأعمال الفنيّة الصادقة لها تأثيرها في نفوس الناس وعقولهم، أكثر من أي بيان أو خطاب سياسيين، فكيف إذا كان العمل درامياً يتناول حقبة طويلة من تاريخ سوريا، تمتدّ على مدى أكثر من خمسين عاماً، ولا أحد يعرف متى وكيف ستنتهي كليِّاً؟! فما نراه اليوم هو تهافت بعض الحكام العرب على إطالة عمر ذلك النظام، رغم مسؤوليته عن الخراب الشامل الذي ألمَّ بسوريا وأهلها، إذ كان يمكن تلافي ذلك الخراب لمن يمتلك ذرّة من الوطنية والمحبّة للشعب الذي يحكمه.. لكن ذلك بَدَا مفقوداً بكلّ أسف، وسآتي على ذكره من خلال الحديث عن المسلسل..
إنَّ ميزة “ابتسم أيها الجنرال” استطاعته التركيز على تلك النقطة، (فقدان الثقة بين الحاكم وشعبه فما بالكم بالمودّة) وجعلها بؤرة رئيسة لمساره، إذ أظهر المسلسلُ الحاكم عارياً منها تماماً، ولعلّ هذه غايةٌ ذات دلالة للمسلسل الذي يطالب عنوانُه الحاكِمَ بالابتسام.. ويمكن القول أيضاً:
إنَّ ما ساعد على ذلك المسار (الرؤية) هو أنَّ روافع العمل الفني التقليدية (غير متوفرة) في المنفى ولذلك استخدم طاقم العمل الأساسي الشكل الفني الذي عرض، وهو أسلوب جديد بعيد عما هو تقليدي، ويتيح للمتلقي إعمال ذهنه في تفكيك رموز المشاهد المتداخلة والمتشابكة فيما بينها لكن جميعها يصبّ في تلك البؤرة..
أقول ذلك لأنَّ تغطية تلك الحقبة، تتطلب أعمالاً درامية كثيرة، ومتنوعة.. كما يحتاج إلى سنين من الزمن، وأولاً وأخيراً يتطلب أجواء من حرية الفكر والثقافة والسياسة.. ذلك إذا ما أراد كاتب أو مخرج أن يغوص في تفاصيل تلك الحقبة بحثاً وتنقيباً لاستيعاب طبيعة النظام، وفهم عمق ذلك الذي تسلّل إلى الحكم في غفلة من شعبها.. ولعلَّ هذا المسلسل يكون فاتحة طيّبة تمهّد السبيل للراغبين في التأريخ لسوريا فنياً، ولإشباع النهم السوري لا إلى تذوّق الفن فحسب، بل إلى فهم ما ارتُكب بحقّ سوريا وشعبها من جرائم على مدار تلك الحقبة..
إنَّ مسلسل “ابتسم أيها الجنرال” الذي كتب له السيناريو سامر رضوان، وأخرجه عروة محمد، وقام ببطولته مكسيم خليل وعبد الحكيم قطيفان ومحمد الأحمد وسوسن أرشيد وعزة البحرة وغيرهم كثر هو متطابق مع الهدف المرسوم له، بغض النظر عن المعايير الفنية المعتادة التي تقوم على حبكة مبنيّة وفق أحداث تساهم في نمو أبطالها.. رغم أن ذلك موجود على نحو أو آخر ومثاله “أنيس” و”عاصي، وبعض رجاله..”.
لقد عكس المسلسل، منذ مشاهده الأولى حتى نهايته، صوراً من “التراجيديا” السورية المستمرة فصولها الدمويّة خلال تلك الحقبة.. وقد جسدتها دراما المسلسل عبر لوحات متداخلة، على نحو متعمّد، ربّما لتلافى مسألة لها أهميتها، وهي إبعاد المتلقي عن مطابقة أدوار الممثلين بشخصيات حقيقية، تسكن في القصر الجمهوري، وحوله.. فالمطابقة قد تفسد عملية التخييل التي أرادها كاتب السيناريو بالتوافق مع مخرج العمل، حتى إنَّ بعض اللوحات كانت أقرب إلى “الفانتازيا” التي لا تفهم كمشاهد واقعيّة بل من خلال ما تحمله من رموز مثل اللوحة الأولى التي يفضح من خلالها “وضّاح فضل الله” زوجات كبار الضباط، وكتلك التي جعلت عاصي يتعرّى عندما أفلس وأُسقط في يده، بعد أن سقطت خطط تآمره، وأراد أن يوسّط زوجة أخيه فرات لمصالحته.. (ويذكِّر هذا المشهد بقصة للروائي المرحوم “عبد السلام العجيلي” يعرِّي فيها بطل الرواية خصمَه كلياً، ويدفعه إلى البرية إمعاناً في إذلاله واحتقاره في نوع من الثأر).
إنّ محاولة قراءة المسلسل على أنه قصة تعكس واقعاً محدّداً تاريخاً أو توثيقاً سوف يفتقد إلى قراءة صحيحة للخطّ الدرامي المحكوم بشروطه، كما أسلفت، وعلى ذلك فقد جاء التركيز على الأجواء العامة للحياة الفعلية لمن يسكن القصر الجمهوري، وما مشاغله واهتماماته وكيف تنعكس في ذهنية المتلقي الذي هو المواطن السوري منذ عام 1970 إلى اليوم دونما رتوش..
وإذا جاز لنا أن نشير إلى الكيفية التي أبرزها الإخراج الفني فيمكن القول: إنها بدت في أجواء العمل الفني بدءاً بأنواره الخافتة، والمعتمة أحياناً، وبإيقاع الموسيقا التصويرية التي تعكس نوعاً من الهواجس المرعبة، والترقّب الحذر.. إضافة إلى أصوات بعضهم المرتفعة في دفاعها عن مصالحها.. ولا يفوتنا ذِكْر العلاقة بين كلّ من ظهر إلا ما ندر، إذ هي علاقة بين آمر ومأمور وخضوع الثاني للأول على نحو مطلق.. فكلمة نفِّذ هي الوحيدة النافذة..
إن المسلسل لم يكن معنياً بإبراز صورة هذه الشخصية أو تلك، أما عملية الخلط بينها فمتعمّدة، وتشير إلى عدم تميُّز بعضها عن بعض في تطلّعها إلى الاستئثار بما تحوزه، وإلى المحافظة عليه بأية وسيلة كانت، ومحاولاتها الدائمة لنيل ما هو أكثر، ولعله اكتفى بقصص، وحكايا تناقلها الناس شفاهاً أو كتب عنها بعض الصحفيين.. وفي النهاية ما الذي قاله المسلسل:
أولاً: إن أخلاق العصابة هو المسيطر على تلك الفئة الحاكمة، فلا شرع ولا قانون يحكم، وإنما عصابة تتفرع عنها عصابات ممثّلة برؤوس قادتها ويمكن استبدالها عند الشطط (أنيس، عاصي).
ثانياً: لا يوجد شعب، ولا أحد من سكان القصر يحسب له حساباً، ولم يأت أحد على ذكره، أو ذكر مشكلة ما يعانيها، الشخص الوحيد الذي مثّل الشعب هو الشاب الذي دافع عن شهادة الزور التي يتعيش منها، فلا عمل ولا أيٍّ من مقوماته “لا كهرباء أو سواها”، وحتى هذا الشاب (الذي يمثل الشعب المقهور) اعتقلته الأجهزة في الليلة نفسها..
ثالثاً: أبرز المسلسل الفساد بأبشع صوره: قتلاً وسجناً لكل من يشكو أمراً سلبياً، وتجاوزاً للسلطات، بما في ذلك السلطة القضائية، وكم أفواه، وتعدِّياً على الممتلكات العامة والأثرية. وبرز الفساد الأخلاقي في الحلقة الأولى، وكانت لعبة ذكية شدت جمهور المتلقين للمتابعة..
رابعاً: ربما برزت شخصية فرات طيّبة أو بريئة، هذا لأنها ضعيفة، ليست صاحبة قرار، إلا فيما يخص كرسي الرئاسة، فالرأس المدبِّر في المسلسل هو “حيدر” الذي يعرض ما لديه، ويأخذ الموافقة.. وقد لعبه عبد الحكيم قطيفان بكفاءة عالية..
خامساً: العلاقة مع الدول علاقة للمحافظة على كرسي الرئاسة أو تآمر عليه.. فليست لأجل مصالح البلد والشعب وتنميتهما، بل هي علاقة تآمر المسؤولين بعضهم على بعض..
أخيراً أقول إنه عمل جيد قياساً للدراما السورية ووفقاً للشروط التي خضع لها.. وأعتقد أن الجمهور تابعه بمتعة، ويكفي عنوانه الذي يطالب الحاكم بالابتسام، إذ فيه راحة للنفس، وانفتاح على الآخر، والابتسامة ما كانت إلا عربون محبة وسلام..
المصدر: موقع تلفزيون سوريا