“اذا اردتم السلام، فاستعدوا للحرب”، بهذه الكلمات لخص تقرير صدر مؤخراً عن معهد القدس للدراسات الاستراتيجية والأمنية في إسرائيل، الأحوال والتحديات التي تواجهها الدولة العبرية. فإسرائيل تواجه اليوم وضعاً لم تشهده من قبل. هي تواجه انقساماً داخلياً أفقياً بين اليمين المتديّن المتشدد واليسار الليبرالي. وهذا الانقسام أخذ بعداً خطيراً بعد قرار الحكومة اليمينية ادخال اصلاحات ستؤدي الى تقليص صلاحيات القضاء وتحديداً المحكمة العليا وتحويل إسرائيل من نظام ليبرالي ديموقراطي الى نظام الأكثرية الديموقراطية حيث الحزب الحاكم أو تحالف السلطة يستطيع أن يشرّع ويفعل ما يريد من دون أي حسيب أو رقيب من قبل السلطة القضائية. وهذا قد يمهد الطريق الى تحول إسرائيل الى نظام أوتوقراطي لن يتعايش بوئام وانسجام كما هو الحال اليوم مع الغرب. وتشير التقارير الاسرائيلية الى تلقي الحكومة رسائل عدة من قيادات أوروبية وأميركية تحذرها من عواقب اقرار التغييرات التي أقرها الكنيست، ولكن الحكومة جمدتها نتيجة ضغوط أدت الى فتح حوار مع أحزاب المعارضة حول هذه القوانين.
يدعو التقرير الأخير إسرائيل الى الاستعداد لدخول حرب من دون مساعدة أميركا، وهو أمر خاضته اسرائيل خلال العقدين الأولين من عمرها. فالدعم العسكري الأميركي المفتوح بدأ منذ ولاية الرئيس ليندون جونسون. قبلها كان هناك دعم أكبر لاسرائيل من القوتين الأوروبيتين حينها: بريطانيا وفرنسا. وبدأ السلاح الأميركي الحديث يصل إسرائيل في منتصف ستينات القرن الماضي، وتطورت العلاقات الى ما هو الحال عليه اليوم. وعندما انهار الاتحاد السوفياتي وأصبح النظام العالمي أحادي القطب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية تحوّل الشرق الأوسط الى منطقة أحادية القطب تهيمن عليه إسرائيل – بدعم أميركي، فلم يُسمح لغيرها باقتناء سلاح نووي ولا حتى لأي جهة بتناول موضوع ترسانة إسرائيل النووية. ولا تزال إسرائيل تتصدر دول المنطقة من حيث نوعية الأسلحة التي تمتلكها، وذلك بفضل أميركا والغرب أيضاً.
لكن إسرائيل تشهد صراعاً داخلياً على هوية النظام وشكله في وقت يشهد العالم متغيرات وتطورات متسارعة. ويُظهر التقرير الإسرائيلي الأخير أن بعض الاستراتيجيين الإسرائيليين، خاصة من التيار المحافظ، بدأ يستشعر خطر لم تشعر به إسرائيل منذ عقود، وهو تآكل هيبة الردع. وقد يكون هذا الشعور مبالغ فيه، لكن هناك من يتحدث عنه اليوم، ما يعني أنه وجهة نظر يتم تداولها في الدولة وتتحدث عن حاجة إسرائيل للإتكال أكثر على نفسها وأن لا تضع ضمن خططها وجود تعاون عسكري مع أميركا المنشغلة في مشاكلها الداخلية وفي حرب أوكرانيا وتنامي التهديد الصيني في آسيا. ويتحدث التقرير تحديداً عن التهديد الإيراني، إن كان عبر برنامج إيران النووي أو ميليشياتها المنتشرة على حدود إسرائيل والمدججة بالصواريخ والأسلحة المتنوعة.
العقيدة العسكرية الإسرائيلية هي هجومية بامتياز ومبنية على المبادئ التالية:
– شن ضربات استبقاية لمنع تهديد العدو من التأثير على التفوق العسكري الاسرائيلي.
– نقل المعركة الى عمق أرض العدو بسرعة وابقاءها بعيدة عن الجبهة الداخلية الإسرائيلية.
– امتلاك تفوق استخباراتي يمكن إسرائيل من رصد تحركات العدو العسكرية في الأماكن كافة من أجل استباق خطواته ومنعه من مفاجأتها.
– ابقاء المواجهات العسكرية مع العدو سريعة ومحدودة وضمن هامش زمني قصير.
– منع أي دولة في الشرق الأوسط من امتلاك برنامج نووي يمكن أن يستخدم لأهداف عسكرية.
استراتيجية الردع الاسرائيلية قائمة على تنفيذ هذه المبادئ، وهي تهدف اساساً لمنع أعداء اسرائيل من تهديد وجودها. فغاية السلاح النووي الإسرائيلي كانت وما زالت منع أعداء الدولة العبرية من شن هجوم كبير يهدد كيانها ووجودها. وبما أن السلاح النووي يشكل تهديداً وجودياً على دولة صغيرة بحجم اسرائيل، فانها قررت أيضاً اعتبار محاولة امتلاكه خطاً أحمرَ يجب عدم السماح بتخطيه. ولقد ترجمت إسرائيل ذلك في تدميرها للمفاعل النووي العراقي عام 1981 والمفاعل السوري في دير الزور عام 2007. واليوم تواجه مشكلة البرنامج النووي الإيراني الذي أحرز تقدماً لم تصل اليه أي من دول المنطقة سابقاً وبات بحسب تقديرات مسؤولين عسكريين في أميركا وإسرائيل قريب جداً من بناء سلاح نووي – خلال اشهر قليلة اذا ما قررت طهران ذلك.
اذا ما أرادت أن تتصرف إسرائيل وحدها من دون دعم أميركي، ستواجه تحديين أساسيين: الأول كيف ستصل طائراتها الى إيران لشن غارات مع افتقارها لعدد كاف من طائرات التزويد بالوقود جواً الحديثة. أميركا تماطل حتى الآن بتسليم طائرات طراز KC-46 كانت وافقت على بيعها لإسرائيل. وتتحجج واشنطن بأولوية سد حاجات القوات الأميركية من هذه الطائرات. وهناك عدد كبير من التدريبات الجوية المشتركة مع الولايات المتحدة تحاكي هجوماً على ايران تضمنت توفير الطائرات الأميركية الوقود جواً. فإسرائيل تملك عدداً كافياً من الطائرات الهجومية مثل اف-35 واف-15 واف-16، لكنها تحتاج للتزود بالوقود جواً أكثر من مرة للذهاب الى الأجواء الايرانية وضرب أهداف في عمق البلاد والعودة منها.
التحدي الثاني، هو كيفية التعامل مع التهديد المتنامي لليمليشيات التابعة أو الحليفة لايران على حدودها شمالا وجنوباً. فهي اليوم تتكل على منظومة القبة الحديدية لصد الصواريخ، وتتكل على منظومة دفاع جوي متكامل للتعامل مع الطائرات من دون طيار والصواريخ البالستية والجوالة. لكن السؤال الذي يُسأل في اسرائيل كيف يمكن لها أن تواجه وحدها هجوماً شاملا ومنسقاً من جبهات جنوب لبنان والجولان وقطاع غزة؟ هل تملك إسرائيل ما يكفي من صواريخ القبة الحديدية لحماية مدنها ومستوطناتها ومطاراتها العسكرية كافة؟ ماذا لو تمكنت ايران من ايصال منظومات دفاع جوي أثرت على السيطرة الجوية الاسرائيلية؟ تعمل اسرائيل على استبدال منظومة القبة الحديدية بمنظومة الاشعاع الحديدي، وهي منظومة تستخدم الليزر لاسقاط الصواريخ والطائرات المسيرة وكلفته التشغيلية أقل بكثير من القبة الحديد ولا تنفذ ذخيرته اذ يعتمد على الطاقة الكهربائية لتوليد الطلقات الاشعاعية الحارقة. لكن لا تزال منظومة الليزر في مرحلة التطوير والتجارب ولم تدخل الخدمة.
هل سيؤدي تنامي الخوف في اسرائيل لاقدامها على مغامرة عسكرية منفردة؟ وهل ستتمكن من التعامل مع التهديدات على حدودها وبأي ثمن؟ أم أن تنامي حجم المخاطر وضعف الوحدة الداخلية وانعدام الدعم العسكري الأميركي سيجبر اسرائيل على تعديل عقيدتها العسكرية لتكون دفاعية محض ولتتعايش مع الواقع الجديد حولها والذي قد يتضمن وجود ايران نووية؟ كيف ستتعامل مع الدور الصيني الذي يحاول انهاء خلافات إيران مع العرب لترسيخ منظومة أمنية جديدة في المنطقة؟ يجب على الجميع أن لا يستهين بحجم الخيارات التي تواجه إسرائيل اليوم وهي تشعر بالرفض المتزايد للمجتمع الغربي لسياساتها العنصرية ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. حكومة بنيامين نتنياهو أمام مفترق طرق على أكثر من محور ستحدد مستقبل الدولة العبرية ومعه شكل النظام الاقليمي للسنوات المقبلة.
المصدر: النهار العربي