تعيدنا قراءة بيانات الدول التي تسعى إلى ردم فجوة القطيعة مع النظام السوري إلى القراءة نفسها لبيانات مسارات التفاوض المنشقّة عن مسار جنيف الأممي بين المعارضة والنظام، إذ جميعها تبرّر خطواتها الآنية بأنها “تسعى إلى حلّ سياسي للأزمة السورية، تحافظ من خلاله على وحدة سورية، وأمنها، واستقرارها، وتهيئ الظروف اللازمة لعودة اللاجئين والنازحين إلى مناطقهم”، ما يعني أننا أمام استمرارٍ للانشقاقات نفسها في مسارات التفاوض التي تهدف إلى الغايات نفسها، والتي انخرطت فيها كيانات المعارضة منذ عام 2017، في مسار أستانة ولاحقاً مسار سوتشي 2018، وجميعها تتغطّى بعباءة قرار مجلس الأمن 2254 الذي عجزت الأمم المتحدة عن إصدار أي خريطة طريق إلزامية له. فإذا كان هدف الدول التي تستعيد التقارب مع النظام السوري البحث عن حلٍّ وفق القرارات الدولية، فهي تضع نفسها من جديد أمام تعنّته ورفضه الذي استمر منذ المبادرة العربية 2011 مروراً ببيان جنيف 1 في 2012 وحتى ما بعد القرار 2254 الصادر عام 2015، ما يبدّد آمال البيانات في أعقاب اللقاءات السورية التركية، والسورية العربية، سواء الإماراتية أو المصرية والسعودية، بأن يكون لديها القدرة على تعويم القرار 2254 الأقسى على نظام الرئيس بشار الأسد، والذي بموجبه تساوى النظام والمعارضة أمام المجتمع الدولي، وألزم الطرفان بالبحث عن حل مشترك بينهما بالتراضي، في وقتٍ حمّل فيه القرار النظام مسؤولية تنفيذ بنود بناء الثقة التي لا تختلف في مضمونها عن مطالب الدول الراغبة في جسر الخلافات مع الأسد وإعادته إلى دائرة العمل العربي المشترك.
تتجاوز البيانات الختامية للقاءات الدولية المشتركة عادة موضوع الخبر وإيجاز ما جرى تداوله، لترتقي إلى أنها خريطة طريق غير تفصيلية بين الأطراف المجتمعة، وفيما يمكن السؤال عنه في البيانات العربية عن الآلية التي تمكّنها من العمل المشترك لتحقيق الحلّ السياسي، بعد أن عجز المجتمع الدولي عن الإسهام بقطع خطواتٍ جادّةٍ باتجاهه، خلال الأعوام العشرة السابقة من عمر القرارات الدولية، وعن المتغيّر الجديد في قدرات هذه الدول، أو جامعة الدول العربية، لتنفيذ مبادرتها التي تسعى إلى مكافحة الإرهاب بأشكاله كافّة، مع التذكير أن هذا “الإرهاب” هو وليد ظروف الفوضى التي أحدثتها حرب النظام على الشعب السوري، وفتح معتقلاته لخروج رؤوس إرهابية منها، ووليد فتح الجهات الإقليمية الحدود السورية.
جاء الاستعجال الشعبي السوري على الحكم على المبادرة العربية تجاه النظام السوري على خلفية الآمال المعقودة على الدول العربية، وتركيا، في ممارسة ضغط دولي تلزم فيه الدولتان الأكثر تأثيراً في الملف السوري، روسيا والولايات المتحدة، في وضع حدّ للصراع في سورية وإلزام النظام تنفيذ القرار 2254، على النحو الذي لا يأخذ القضية السورية إلى طي صفحة 12 عاماً من الجرائم التي ارتُكبت بحقّ الشعب السوري، والتعامي عن تضحياتٍ كبرى من أجل تحرّره من نظام أمني وراثي، وقمعي.
ورغم أن مضمون بيان جدّة عن اجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن والعراق يضع عراقيل التطبيع أكثر مما يرمّم جسوره، إذ إن أي دراسةٍ لأسباب القطيعة، بالتوازي مع أسباب العودة عنها، لن تؤدّي إلى تهادن أقلّ مما ذُكر، عن مطالب هذه الدول من نظام الأسد، والتي لا يستطيع تنفيذها أو حتى إعلان قبوله بها كاملة، ما استوجب على إعلامه تجاهل أهم بنودها، إنهاء وجود المليشيات المسلحة فيها، والتدخلات الأجنبية في الشأن السوري ومكافحة تهريب المخدّرات والاتّجار بها، ما يعني أن عدم الإعلان عنها بمثابة رفضها، أو القول صراحة إنها مطالب فوق قدرة النظام واستطاعته، وهذا يمهّد لنتيجة فشل مسار المبادرة العربية (إن صحّ تسميتها مبادرة وليس مصالحة) قبل أن تبدأ.
دور قيادي عربي في الجهود الرامية لإنهاء الصراع في سورية ضرورة ملحّة، بل واجب على كل الدول، بما تمثله سورية (البلد والشعب معاً)، لكن هذه الضرورة لا يصحّ أن تكون وليدة لحظة القرار بالتطبيع مع النظام، وفق مصالح قُطرية ضيقة، ربما على السوريين تفهمها من باب أن الدول ليست جمعياتٍ خيرية، وأن للتفكير بمراجعة المواقف أو الانقلاب عليها مبرّراته التي يفرضها واقع التحالفات الدولية الجديدة بعيداً عن المواقف الإنسانية، وبُعدها العربي العام، أي الإحساس بمسؤوليتهم تجاه مؤسّسات الدولة السورية ومهامّها. وهذا لا يعني أن الدول التي قاطعت النظام، ومستمرّة في مقاطعته، للأسباب التي لم تتغيّر عند اتخاذ قرار المقاطعة، أنها لا تقوم بدورها القيادي للحلّ في سورية، لأن “الأزمة” في سورية لم تنشأ نتيجة التقارب أو العلاقات الحميمة مع الدول العربية والدول الإقليمية، أو بسبب خلافات النظام مع جيرانه، بل كانت القطيعة بسبب استخدام النظام العنف ضد الشعب السوري، وتعنّته ورفضه أي مبادراتٍ عربيةٍ أو إقليميةٍ أو دولية، من شأنها أن تحقّق أي مطلبٍ شعبيٍّ يحدّ من سلطته وتسلّطه، وهو ما يمكن قراءته من تجاهل النظام سابقاً ولاحقاً أي مطلبٍ ينال من مكاسبه الاقتصادية أو من هيبة داعميه ووجودهم في سورية.
منذ تصاعد العنف في سورية، والحديث عن حلّ سياسي ممرّاً وحيداً لإنهاء الأزمة مقدّمة وخاتمة لكل البيانات، حتى الحربية منها، ما يجعل السؤال عن ماهية هذا الحل إن لم يكن يعني، فيما يعنيه، فقط الاستسلام للنظام بواقعه الحالي، سواء الحديث عن استسلام المعارضة والشعب، أو استسلام الدول المطبّعة لأدوار النظام من حليفٍ غير آمن إلى تاجر مخدّرات غير مكترث، وما بينهم من صفاتٍ كثيرة خبروها خلال حربه الظالمة على الشعب السوري.
المصدر: العربي الجديد