لم يكن الانقلاب الجغرافي السياسي الذي ترتّب عن هزيمة دول المحور في الحرب العالمية الأولى وخسارة السلطنة العثمانية سلطتها في بلاد الشام والعراق لصالح دول الحلفاء، المملكة المتحدة وفرنسا، السبب الوحيد في ضياع البوصلة لدى النخب الوطنية، بل ثمة سبب آخر أكثر تأثيراً، هو ما عرفته الدول المشكّلة حديثا تحت سلطة الاحتلال، سورية ولبنان والعراق وفلسطين، من ردود فعل مجتمعية على وجود سياقين متعارضين: محلي عريق؛ له مفاهيمه وقيمه وتقاليده وأعرافه الاجتماعية وأسلوبه في الإدارة والحكم ومرجعيته التاريخية التي تستمد شرعيتها من جذر إسلامي، صحيحاً كان أو مزعوماً، وسياق محدَث فرضته سلطة الاحتلال، أساسه مفاهيم وقيم جذرها علماني، تعتبره المجتمعات المحلية كفراً وضد الملّة؛ أي ضد الإسلام الذي هو عقيدة إيمانية لديها. وقد عزّز المفاصلة بين السياقين انقسام النخب الوطنية وتكتّلها في جماعات وأحزاب إسلامية وقومية وشيوعية، بدلالة أحد هذين السياقين، واحتدام الصراع بينها على الشرعية، وسعي كل منها للإمساك بالسلطة وإدارة الدولة والمجتمع وفق رؤيتها، من دون التفاتٍ إلى الإشكال الذي أحدثه وجود سياقين متشابكين ومتنافرين في بوتقة واحدة، ودور كل سياقٍ منهما وتأثيره بالانسجام والاتساق في الفكر والممارسة، ما جعل المجتمع مجتمعَين، مع ميل الأغلبية إلى السياق المحلي، ومن دون العمل على حل هذا الإشكال بإيجاد نقطة توازن وتكامل بينهما.
تمسّكت فئاتٌ واسعة من النخبة المدينية المحافظة في مراكز المحافظات السورية بالموروث الثقافي والاجتماعي، وأسّست أطراً اجتماعية وفكرية للعمل على تدارس هذا الموروث وترويج دوره وجدوى الاعتماد عليه في الدولة والمجتمع، لتحقيق الأهداف الاجتماعية والأخلاقية، وحفظ المجتمع من الانحراف والضياع تحت تأثير الأفكار “الهدّامة” التي بدأت ذرّ قرنيها في المجتمع بدفعٍ من سلطة الاحتلال. وقد نما هذا التحرّك وتطوّر بتشكيل أطر أكثر تنظيماً وانضباطاً، فرع لجماعة الإخوان المسلمين، وجمعيات، جمعية شباب محمد، والدعوة إلى تحكيم الشريعة الإسلامية في الدولة والمجتمع، والانخراط في السياسة والترشّح في الانتخابات النيابية لتحقيق هذا الهدف.
جاء التزام السياق المحلي باعتباره أساس المجتمع ومفاهيمه وقيمه وأعرافه الراسخة منطقياً إلى حد كبير، حيث التقاطُع العميق والشامل مع السائد ثقافياً واجتماعياً، وحيث الخطوط المفتوحة مع الأغلبية الشعبية. لكن هذا الالتزام المبدئي لم يكن قاعدةً صلبةً وكافيةً لمسيرة ناجحة ومستمرة لاعتباراتٍ يتعلق أولها بفحوى الثقافة الإسلامية السائدة، فأفكار المسلم المعاصرة ومخياله خليطٌ من سير وحكايات تاريخية وتحيّزات مذهبية وتبنّ لمواقف ورجال وجماعات كانوا أطرافاً في صراعاتٍ على السلطة في الدول التي عرفها التاريخ الإسلامي، تنزّه شخصياتٍ وتقدّسها وتدين وتندّد بشخصياتٍ أخرى، ومن مذاهب فكرية واجتهادات فقهية وطرق صوفية ودعوات مشيخية. أفكار جبرية وقدرية وروحانية، قراءات للنصّ المؤسّس، حرفية ومؤولة، تنطوي على تصوّرات حول علاقات البشر بالخالق، جلّ شأنه، وعلاقات البشر بعضهم ببعض، زادتها الصراعاتُ المذهبية وفترات الجمود والانحطاط الطويلة وسيادة الجهل والأمية والمعارك الدامية، الداخلية والخارجية، ترهّلاً وتفكّكاً والتباساً، ضاعت الأصول والقواعد وتداخلت المفاهيم.
يسمع المسلم اليوم أقوالاً وأحاديث لا يعرف مدى صحتها ودقّتها، يسلّم بها لأنها مسبوقة بقال الرسول أو قال العلماء، ولا يُحسِن التمييز بين الغثّ والسمين في عالم الأفكار والدعوات، شخصيّته هشّة؛ متواكلٌ إلى حدود مأساوية؛ جعله جهلُه متقلباً سهل الانقياد والتأثر بالادّعاءات، يميل إلى تصديق الخرافات والخوارق، يُكثر من الصلوات والتسبيح والأدعية لضمان الحياة الأخرى، ويعجز عن كسب السبق في الحياة الدنيا، كما وجّهه القرآن الكريم إلى إعمار الكون وإقامة العدل والمساواة بين الناس. انساقت النخبة المثقفة المسلمة، هي الأخرى، خلف السائد وروّجته من دون تدقيق وتمحيص وإعادة نظر، فالكتّاب والمشايخ في العموم يروّجون أفكاراً وتصورات قديمة ومكرورة، غالبيتها أشعرية المصدر، نسبة إلى أبي الحسن الأشعري المعتزلي المنشقّ، تربط كل ما يحدُث في الكون بتدبير إلهي لحظي وفق قراءة تبسيطية لفحوى المشيئة الإلهية التي وردت في آيات الذكر الحكيم، تحوّل الإنسان إلى منفذٍ سلبيّ لقضاء إلهي حاسم، ما كرّس ضعف رد فعل المسلمين وعمّقه في مواجهة الظروف والتطورات والكوارث الطبيعية.
لم يكتف كتّاب هذا التوجّه ومثقفوه بالنقل والتقليد، بل ذهبوا إلى المبالغة في تأويل بعض الآيات والتوجيهات الدينية، دكتور في التغذية من الذين يقدّمون نصائح على قنوات التلفزيون ربط بين القيمة الغذائية الفائقة في زيتون الدول العربية، قال فيه 79 فائدة أكثر من زيتون بقية العالم، وبين قوله تعالى “الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ” الوارد في الآية الأولى من سورة الإسراء، “سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ”، واعتبر جودة زيتوننا بركة من الله خاصة بهذا المكان. لم يسأل العالم الفذّ نفسه لماذا لم يمتد أثر البركة على بقية المزروعات والبشر وليس على الزيتون وحده؟ دكتور آخر من الفصيلة ذاتها ربط قول المؤذن في صلاة الصبح “الصلاة خير من النوم” بإنقاذ المسلم من خطر محقّق، قال إنها ذات فائدة عظيمة حيث شرايين الإنسان تبدأ بالتضيّق خلال النوم ويبلغ تضيّقها ذروة خطيرة يصبح بها الجسم عرضة لجلطات عند الصبح وقيامه لأداء الصلاة تعيد شرايينه إلى وضعها الطبيعي فينجو من الجلطات. لم يسأل الدكتور نفسه سؤالاً وجيهاً: لماذا خصّ الله المسلمين من بين كل عباده في الديانات السماوية بهذه الدعوة الإنقاذية، أهي تمييز وانحياز أم تقصير إلهي؟ واللافت أن مقدّم البرنامج في الحالتين كان يصيح “الله أكبر”.
ويتعلق ثانيها بضخامة الإرث الفكري والفقهي الذي خلفته التجربة الحضارية الإسلامية وغناه وتنوعه، والذي بات عبئاً ثقيلاً على كاهل المسلمين لما فيه من تبسيطات مخلّة، تفسير المشبّهة والمجسّمة للقرآن الكريم، وجمود مذهبي حوّل المذاهب إلى دوائر مغلقة لا تقبل المراجعة، بحيث أصبحت هي الدين وليست قراءة له قابلة للجرح والتعديل، وتضخّم الفقه، نتيجة اتساع التجربة الإسلامية مكاناً وزماناً، ما رتّب حالة يمكن وصفها بـ”قابلية التذرّر” الفقهي، وبالتالي المجتمعي، حيث صار بإمكان كل منا أن يدعم موقفه الراهن بالاستناد إلى رأي فقهي لفقيه أو أكثر، فصار المسلمون موحّدين في العنوان مختلفين في البيان.
ويتعلق ثالثها بفترات الجمود والانحطاط الحضاري والمعرفي وسيادة التقليد التي عاشها المسلمون، ما جعلهم يحنون إلى الماضي العريق ويحوّلونه، بإيجابياته وسلبياته، إلى كعبة ومقدّس غير قابل للنقد والتمحيص، ويتبنون نظرة نكوصية إلى الواقع، تجعل الماضي خيراً من الحاضر، وتحكّم الأموات في الأحياء، وتميل بالكفّة لصالح الموروث على حساب الاجتهاد والإبداع. وهذا منع التفكير في نقاط القوة والضعف في الإرث الحضاري وتقدير نوع (ومستوى) التطور الذي كان يمكن تحقيقه لولا الجمود والانحطاط المديدين، وتبنّي خيارات بديلة مبنية على توجّه أكثر منطقية وعملية.
أما رابعها، فيتعلق بعجزها عن حل مشكلاتها الصناعية والتقنية، المدنية والعسكرية، والعلمية والمعلوماتية وحجزها مكاناً مناسباً في ساحة التنافس العلمي والتقني، واعتمادها على علوم الدول الغربية وخبراتها واكتشافاتها وصناعاتها وقدراتها الفائقة، حيث التطوّر والتفوق في كل المجالات وبفارق كبير ونوعي، في علاقة تبعية تفقدها الكثير من سيادتها وإمكاناتها.
لقد منحت كثافة حضور الإسلام وثقله في حياة المسلمين، لدوره التكويني والبنيوي في تشكيل شخصية المسلمين، الحركات الإسلامية مبرّرات الوجود والانتشار، فالتطابق والاتساق مع عقيدة المجتمع جعلتها قادرة على التواصل والتفاهم مع المواطنين واستقطابهم وحشدهم، لكنها لم تمنحها إمكانية النجاح في إقامة مجتمع متطور ومزدهر، فهذا يحتاج إلى توفير شروط النجاح والنمو والازدهار، فالمكاسب التي ينطوي عليها تبنّي المرجعية الإسلامية دقيقةً وحساسة، لأنها كما يمكن أن تكون نقطة قوة يمكن أن تتحوّل، إذا لم يدرك أصحاب هذا الخيار ما يكتنف خيارهم من عقبات ومصاعب، إلى نقطة ضعف قاتلة، بسبب سيطرة الجمود والتقليد، فالإسلام، في أذهان غالبية المسلمين، خليط مركب من عناصر أصلية وقراءات ومفاهيم متعارضة، بعضها بعيد، على نحو أو آخر، عن جوهر الهدي الصحيح، ما جعل التباين والاختلاف بين القراءات والتفسيرات والتكييفات عامل تفتيت وتشتيت. وهذا ما كان يستدعي من الحركات الإسلامية وضعه في مقدمة جدول أعمالها، وإعطاءه أولوية مطلقة بالعمل على تنقية الإسلام من الروايات المدسوسة والأحاديث الموضوعة، وتنقيته من القراءات الخاطئة، والحسم في بعض القضايا الفكرية العالقة، وأولها حل الإشكال المنهجي حول العلاقة بين الله عّز وجلّ والإنسان، وتقديم بديل للتأويل الأشعري السائد للمشيئة الإلهية، بديل يتأسّس على اعتبار الله عزّ وجل علة العلل، كما قال الفلاسفة وعلماء الكلام، فمشيئته تفعل فعلها من خلال السنن والنواميس التي صاغ بها الكون، وليس من طريق تدخّله المباشر واللحظي في الكون، وعلى الحرية والمسؤولية التي وضعها الخالق في جبلة الإنسان وجعلها أساس تميّزه في الكون، وثانيها الشورى ملزمة أم معلمة، وثالثها القضاء والقدر، إلخ، ووضع معيار منهجي للحكم على وقائع التاريخ الإسلامي وشخصياته، يسمح بتمييز الصح من الخطأ، وتحرير العقل المسلم من الجمود والنمطية والتصوّرات المسبقة وطرح حلول للمشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يواجهها المسلمون وعدم الاكتفاء بالمقولة التعبوية: الإسلام هو الحل. من أجل الانسجام والاتساق ومواجهة التحديات على أرضيةٍ صلبةٍ من وحدة الفكر والموقف.
وهذا يضع الحركات الإسلامية أمام اختبار جدّي لقدرتها على تجاوز العقبات الموضوعية والذاتية، ومواجهة واقع المسلمين في ضوء منهجية راسخة ورؤية واضحة وبرامج عملية. فإذا كان الدين في البلاد الإسلامية من شروط الوجود، حسب محمد عابد الجابري، فانه، كما قال، “شرطٌ غير كاف، ويحتاج كي ينجح إلى طرح أهداف سياسية واجتماعية واضحة وقادرة على معالجة مشكلات أوسع الجماهير الشعبية، وإلى أخذ قضية التحديث بكل مظاهرها السلبية والإيجابية في الاعتبار وتوظيف الدين في قضية العدل الاجتماعي والحكم الديموقراطي والتحديث الفكري والحضاري وتحريك الخريطة الاجتماعية وتوازناتها”.
لقد فشلت الحركات الإسلامية في التعاطي الناجح مع ملفين في غاية الأهمية والخطورة: العمل داخل الفكر الإسلامي والمخيال الاجتماعي لتخليصه من التناقضات والتعارضات وتحرير المسلمين من الجمود والسلبية، والعمل داخل الحداثة ومعطياتها لتوظيفها في خدمة المسلمين.