عوالم النشأة وأثر التعليم في إحياء الانتماء الوطني

أيمن أبو هاشم

من المتعذر تناول حياة المخيم في مختلف مراحله وأطواره، وما طرأ على الأجيال التي تعاقبت عليه، من تحولات فارقة في أنماط تفكيرها ومعيشها، دون الإضاءة على ما اتخذته قضية التعليم، من أولوية تتصدر اهتمامات وشواغل الناس في مجتمعنا ذاك. لم يقتصر دور التعليم على محددات ومضامين وظيفته التعليمية والتربوية، وإنما كان له دور محوري في بناء مداميك التنشئة الوطنية، وتنشيط ذاكرة الانتماء للوطن، وتأصيل روح الارتباط بالقضية، التي كنّا نحن اللاجئين عمادها الأساسي. في حقيقة الأمر كان فقدان جيل النكبة على حين غرّة، لأرضه، وأرزاقه، وركائز استقراره، ومرارة الواقع الجديد الذي واجهه في محنة لجوئه، وخشيته من ضياع أبنائه في دروب الفقر والشقاء، والحرص على تأمين مستقبل كريم، يضمن لهم مكانة لائقة في المجتمع. جميعها أسباب ودوافع حاسمة، في نظرة الآباء والأمهات للعلم، كسلاح يُمكّن أولادهم إناثاً وذكوراً من مواجهة عثرات الزمن. لم يكن محض صدفة، أن تُسمّى المدرستان، اللتان تأسستا في السنوات الأولى من وجود المخيم، على أسماء قرى محفورة في الذاكرة الفلسطينية، وهي إعدادية ناصر الدين للذكور، وإعدداية الزيب للإناث، ثم رام الله المختلطة للتعليم الأساسي، التي افتتحت في مراحلة متأخرة. تتبع مدارس المخيمات الفلسطينية، التي تُغطي تلك المراحل، إلى وكالة الأونروا “unrwa”، التي نشأت بقرار أممي لإغاثة وتشغيل اللاجئين، بعد عام من النكبة، وتتميز عن سواها من المدارس الحكومية، بالكفاءات التعليمية والإدارية، ورواتب موظفيها الأفضل من نظرائهم في الدولة.

في مدرستي ناصر الدين، التي أصبحتُ تلميذاً في صفّها الأول عام 1975، وبقيت فيها حتى نهاية المرحلة ألإعدادية، يبدأ دوامنا الصباحي فيها، على كلمات نشيدنا الوطني الحماسي “فدائي” الذي ألفّه الشاعر الفلسطيني سعيد المزيّن، ولحنه الموسيقار المصري علي إسماعيل، والذي رددناه وحفظناه عن ظهر قلب. قبل أن يُستبدلَ نهاية الثمانينيات بنشيد “حماة الديار”. لا يغيب عن ذهني ومخيلتي، تلك الاحتفالات التي كانت تنظمها الإدارة والمعلمون، لإحياء ذكرى النكبة، ويوم الأرض، ومعركة الكرامة، وغيرها من مناسباتنا الوطنية، التي يتم فيها تزيين الصفوف وباحة المدرسة، بأعلام فلسطين الورقية والقماشية. لا أحد من الأجيال التي علّمها أستاذنا القدير نظام فاعور في الصف الثامن، إلا وحفظت منه كمثال توضيحي، على إعراب أداة النداء والمنادى، كلمات أغنية ” أنا يا أخي آمنت بالشعب المكبل والمضيع، وحملت رشاشي لتحمل بعدنا الأجيال منجل.. “. لم يفوّت معلّمونا أيضاً، استحضار أحداث تاريخية من قضيتنا، كوعد بلفور، والانتداب البريطاني، وذكرى التقسيم، وغيرها، دون دأبهم على شرحها لنا، وتقديم صورة وافية عنها. لطالما عَرجوا في أحاديثهم، أثناء إعطاء الدروس، وحتى في أوقات الفراغ بينها، على تاريخ ومعالم بلادنا، وثقافة وتراث أهلها، ومحطات اللجوء والثورة. كأنها مهام كفاحية تنكبتها ثّلّة من المعلمات والمعلمين الأوائل في المخيم، اللواتي والذين كانوا في غالبيتهم من أهالي المخيم، قبل انتقال بعضهم/نّ للإقامة في المدينة في سنين لاحقة. يرون في التعليم؛ رسالة تربوية ووطنية وتثقيفية، بكل ما تحمله من معانٍ ودلالات، ولديهم/نَّ سلطة أدبية على طالباتهنّ وطلابهم، بحكم صلات القرابة والجيرة التي تربطهم/نَّ بأهالينا. تلك الصلات التي سهّلت من أدوارهم/نَّ التوجيهية، في تنبيه ولفت أنظار الأهل، في حال تقصير أي من أبنائهم أو تراجعه الدراسي. لطالما وبعد انصرافي من المدرسة، وأثناء اللعب والتسكع مع أولاد الحارة، كانت نظرة اللوم والتوعد التي يرمقنا بها، جارنا وأستاذنا المعطاء أحمد أبو حسان، لاسيما حين يشاهدنا من سطح داره، وقد تأخرنا في لهوّنا لوقتٍ متأخر من المساء، كافية كي ينفضُّ جمعنا، ويهرع كل منّا إلى بيته على عجل، لتأدية ما عليه من واجبات مدرسيّة. كان استخدام الضرب في مدراسنا وقتذاك، من الأساليب الدارجة في معاقبة من يُصنفون ب” الكسالى”، أو بحق المشاغبين داخل المدرسة، وحتى من يرتكبون تصرفات طائشة خارجها، في حال تناهت أخبارهم إلى آذان المدير أو المعلمين. لم يكن الضرب مما يثير رفض أو استياء ألأهالي، لاسيما أنه ظاهرة منتشرة في سلوك مجتمعاتنا. إذ شهدتُ حالات كثيرة، كانت الأمهات أوالآباء، هم من يطلبون من مديرنا الصارم الأستاذ روحي فاعور معاقبة أولادهم، وهم يقولون له:” اللحم إلك والعظم إلنا”.

أتذكر سيرة البعض من زملاء صفي والصفوف الأخرى، الذين تركوا مقاعد الدراسة، لأسباب شخصية واجتماعية مختلفة، زادها من عزوفهم عن ارتياد المدرسة، نفورهم من تلك الأساليب، التي تجاوزتها أزمنة التعليم في طورها الأحدث، وقد ثَبُتَ لا جدواها في تحويل ” الكسالى” إلى طلاب مجتهدين. إذ اضطر هؤلاء وأمثالهم العمل مبكراً في مهن جسدية شاقة، ما لبثوا حينما كبروا أن ندموا بشدّة، على ما آلت إليه مصائرهم الشخصية.

من أصعب وأجمل مواعيد تلك السنين، حين يبدأ إعلان نتائج شهادة التاسع، ثم بعدها بأسابيع نتائج شهادة البكالوريا، حيث تبلغ ذروة توتر أعصاب الأهل أكثر ربما من أولادهم المخصوصين بالإعلان عنها. تصدحُ بيوت من نجحوا/نَّ بناتهم أو أبنائهم، بزغاريد الجدّات والأمهات والأخوات، وهي تمتزج مع مواويل الفرح الفلسطينية، التي تُطلقها قريباتهنّ وجاراتهنّ، كأن عرساً كبيراً متنقلاً يلف أرجاء المخيم. فيما يغتنمُ الأطفال نصيبهم الوافر مما تجود به بيوتات الحارة التي غمرتها فرحة النجاح، من قطع البقلاوة والملبّس وبيض الحمام وهو” لوز معجون بالسكر الناعم وماء الزهر”،. أما الأسر التي لم يحالف الحظ أولادها، فينكسر خاطرها، ويخالجها شعورٌ بالحزن، يخفف منه مواساة جيرانهم وأحبتهم، ودعواتهم بنجاح من رسب  في العام المقبل.

تَعدّى أثر التعليم مجتمع المخيم، إلى جيراننا السوريين القاطنين على أطرافه، وفي تجمعاتهم المحيطة به، وهم من خلفيات قرويّة وعشائريّة. تزاملنا على مقاعد الدراسة، مع الكثير من أبناء مقطعيّ الشاهر والبكارة، وقريتي حندرات وتل جبين، ومع جيراننا الأكراد، ممن تجمعّت عوائلهم في الجهة الغربية من المخيم، منذ أواسط السبعينيات، ولم يسكنوا لأسباب لا أعرفها، في حارة الأكراد الواقعة في الطرف الشمالي للمخيم. في بداية الأمر كانوا جميعاً يرسلون أولادهم الذكور فقط، للتعلّم في مدرسة المخيم، فيما يستغربون من إرسال “الفلسطينية” بناتهم للمدارس، وهي ظاهرة لم تكن مقبولة في عاداتهم السائدة آنذاك. أول من تشجّع وكسر تلك القاعدة الذكورية، عائلتان كان لديهما أراضٍ زراعيةٍ، في السهل المقابل لحارة ترشيحا “أبو نورا البدوي وأبو حسين الرجب”  فأرسلوا بناتهم إلى مدرسة الزيب للإناث. تدريجياً انتقلت العدوى إلى غيرهم من العائلات التي رغبت بذلك، وكان ذلك قبل إلزامية التعليم، وافتتاح مدراس حكومية لتخديم القرى والتجمعات المحيطة بالمخيم.

من تعلّموا من أجيالهم في مدراسنا، أطلّوا عن كثب على حياتنا وطرائق عيشنا، وما أدركناه سوياً بفضل معلمينا، من حقائق ومعلومات عن تاريخ وطننا وقضيتنا، وقد عرفوا عن فلسطين وأهلها، أكثر مما يعرفون عن وطنهم السوري. تخطّت علاقتنا بهم حدود الزمالة المدرسيّة، وتوطّدت صداقات وشيجة بيننا، تبادلنا خلالها الخبز والملح في بيوت بعضنا بعضاً. منذ بداية المرحلة ألإعدادية، كنت أزور بيت صديقي ” عبدالله البسوتي”  في قرية حندرات، وكان والده وعائلته، تربطهم علاقة صداقة قديمة، مع خالي سمير الذي سافر للكويت وأسرته بقصد العمل. تعلّمت ركوب الخيل في حقول قريتهم، بعد أن درّبني صديقي، على امتطاء أحد الأحصنة التي يملكونها، وكان يصطحبني إلى”أرض الصيفي” وهي أرض بعليّة يزرعون فيها البطيخ بنوعيه، الأخضر” الجبس” والبطيخ الأصفر. في بعض نزهاتنا البرية، يحمل على كتفه المائلة، ولم يتجاوز منتصف عقده الثاني، بارودة الجفت ذات العين الواحدة، التي يقتني مثلها غالبية أهالي القرية، من ذوي الأصول العشائريّة، فنتناوب على اصطياد عصافير الدوري والحجل البري، ثم نقوم بأكلها بعد وضعها في أسياخ، وشويّها على نار الحطب. استمرت صداقتنا حتى بعد أن كبُرنا وتزوجنا، وأصبح لكل منّا أسرته، لكن اختلاف مواقفنا وخياراتنا من الثورة السورية، أدى إلى انقطاعها نهائياً، كحال العديد من علاقاتي الاجتماعية في الوسطين الفلسطيني والسوري، التي طرأت عليها تبدلات جذريّة منذ ذلك التاريخ الفارق. كثيرون من أبناء جيلي وغيرهم، جمعتهم مثل تلك الصداقات مع أقراننا السوريين، التي قامت على روابط متعددة ، لم تكن مدراس المخيم مصدرها الوحيد، وإن كانت المرآة التي تعكس أثر التعليم في المخيم علينا وعليهم. إذ تقاسمنا سوياً صروف الأزمنة التي حقّبت أعمارنا، وأقمنا بيننا جسور لحفظ أواصر الجيرة والمودة، رغم اختلاف بعض طباعنا وعاداتنا. تشاركَنا اللعب والشقاوة في أماكن قابعة في ذاكرتنا البعيدة، كالسباحة في نهر قويق “الدوم” المحاذي للمخيم، مكان لهوّنا الأثير في عطلات الصيف، ولا يزال طعم أكواز الرمّان، التي كنا نسرقها من البساتين أيام الشقاوة على أضراسي.

من تتلمذوا على أيادي روّاد مسيرة التعليم في المخيم، ما برحوا يكنّون مشاعر الاحترام والعرفان، لمن بقيت أسمائهم/نَّ في أعماق تلافيف وعينا وذاكرتنا. تواترت الأجيال التي أعقبتنا، على جيل آخر من المدرسات والمدرسين، لهم/نَّ مكانتهم/نَّ وأثرهم/نَّ في نفوس طالباتهنَّ وطلابهم. غير أن سياق زمني آخر، بدأ بصورة فجّة منذ أواسط التسعينيات وما تلاها، مع تدخّل “البعثيين” في شؤون التعليم، كتنطعهم لتقييم الانتماء السياسي للكادر التدريسي، والتدخل في التعيينات الوظيفية، التي فتحت نوافذ الواسطة والمحسوبية، من خلال مؤسسة اللاجئين التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وما يملكه مديرها العام وتابعيه من حظوة أمنية، منحتهم نفوذاً على أقسام الوكالة وأعمالها في المخيمات، مما انعكس سلباً على أداء المدارس وسمعتها تدريجياً. تزامن ذلك مع تحولات وطنية وسياسية واجتماعية، لاسيما بعد اتفاق أوسلو، طالت اللاجئين وقضيتهم حيثما كانوا، ولم يكن المخيم بمنأى عنها، كما سأتناول تفاعلاته وتداعياته بتفصيل أكبر في محطات قادمة.

والدي “فهمي أبو هاشم” كان يجيد القراءة والكتابة، بحكم دراسته حتى الصف الخامس في مدرسة ترشيحا الأميرية، وانقطاعه عن إكمال تعليمه، بسبب لجوئه وعائلته إثر النكبة. تزوج والدتي ” بهية يوسف” في آواخر عقد الخمسينيات، وأنجبت أسرتنا الكبيرة، جرياً على سنّة المجتمع الفلسطيني في كثرة الإنجاب، كنّا ثمانية أولاد، ثلاثة إناث “حياة الأخت الكبرى، وحنان، وإيمان شريكتي في بطن أمي تسعة شهور” وخمسة ذكور ” محمد الأخ الأكبر بيننا، ومروان، وأنا أوسطهم، وأحمد وصبري”.

كان والدي مُعيلنا الوحيد في سنيّ طفولتنا، وطيلة مراحل تعليمنا. أتيحت له بعد سنوات من العمل، في ورشة لصناعة الألبسة في المدينة، وظيفة ضمن قسم الإغاثة بوكالة الأونروا في منتصف الستينيات. فرضت عليه الوظيفة التي تقوم أغلب مراسلاتها باللغة الإنكليزية، تعلّم ما يعينه منها، على فهم متطلبات عمله. يساعده شقيقي الأكبر محمد، ولم يزل وقتها في المرحلة ألإعدادية في حمل وتوضيب مواد الإغاثة، في مستودعات أقامتها الوكالة في مخيمي النيرب وحندرات والمدينة، بغرض توزيع حصص “الإعاشة”، من طحين وسكر وزيت ورز ومواد أخرى على عوائل اللاجئين. شهرياً وبصورة دورية، كان يجوب والدي في سيارة الأونروا برفقة زميليه في العمل، وجارينا في المخيم، عمر البوباح “أبو محمد” ومنيب سليم “أبو صالح” على تجمعات من اللاجئين الفلسطينيين، التي أقامت بعد النكبة، في عدد من أرياف مدينة حلب، لتوزيع مخصصاتها من “الإعاشة”. كنت أترصد مواعيد سفرهم في عطلتنا الصيفية إلى تلك ألأنحاء، وأطلب منه بعد طول إلحاح أن يأخذني معه، فيوافق بعد تردد، وهو يقول مشترطاً: “إذا نمت بكير باخدك معي”. في أعماق نفسي كان ركوب سيّارة الأونروا التي يقودها “أبو صالح”، ويعرفها كل أهالي المخيم، متعة في حد ذاتها، في زمن كان عدد السيارات في المخيم، لا يتجاوز الخمسة على أبعد تقدير. اكتشفت في تلك الجولات الترفيهية بالنسبة لي، وقد تكررت في صغري وسنوات من يفاعتي عدة مرات، قرى وبلدات: تل رفعت، اعزاز، الباب، سرمدا، جسر الشاغور، معرة النعمان. يتخالطُ في كلٍ منها، بضع عائلات فلسطينية، مع سكانها السوريين، كجماعات تآلفت مع واقعها، حتى غدت جزءاً من نسيجه الاجتماعي، الذي يشبه أصولها الفلاحية في فلسطين. حافظ  كبارهم على لهجتهم الخاصة بأهالي الشمال الفلسطيني، فيما تشرّبت ألسنة صغارهم، لهجات أبناء القرى والبلدات التي ولدوا فيها. في إحدى تلك الجولات، وكانت وجهتنا منطقة الباب، طلب مني والدي بعد إنهاء مهمته، في أحد ساحات المدينة، التي كان يتم فيها توزيع المؤن على العائلات الفلسطينية، أن أجلس في السيارة، ريثما يعود وصديقه أبو صالح، من جولتهم لشراء لبن الغنم والجبن البلدي من سوقها المسقوف. شعرتُ وقد طال غيابهم، بالملل من بقائي وحيداً في مكاني، فذهبت وراءهم إلى السوق الذي يبعد حوالي مئتي متر عن الساحة. جرّتني قدماي إلى مداخل السوق، وضعت كأنني في متاهة متشعبة، دون أن أعثر على والدي. حاولت العودة من حيث أتيت، فإذ بي تائهاً في مكان أجهله. أصابتني نوبة من البكاء، فرآني رجل من جيل أبي، واقترب مني واضعاً يده بحنو على رأسي، وسألني، عن سبب بكائي؟ ومن أكون؟ ومن أين أتيت؟ تلعثمت في أجوبتي، ولكنه عرف منها، أنني طفل فلسطيني من خارج الباب، وأتيت برفقة والدي الذي أضعته، ولم أكن أعرف يومها اسم الساحة التي ركنوا السيارة فيها، كي يُعيدني إليها. أمسكني من يدي باحثاً في أرجاء السوق، عن والدي ورفيقه دون جدوى. تصادف أثناء ذلك مرور شاب في مقتبل العمر من عائلة فلسطينية تقيم هناك، وبدا أن مُرشدي كان على معرفة بالشاب وأهله. أخذ يشرح له قصتي، فأصاب تخمين الشاب بخصوص المكان الذي كان عليَّ الانتظار فيه، وهو ساحة الراهب. أوصلني الرجل الشهم إلى الساحة، وحين رآني أبي، بعد أن عاد ولم يجدني، كانت علامات القلق والتجهم بادية على وجهه. في تلك الأثناء ألحّ الرجل علينا، وكان من عائلة الشهابي، كما فهمت لاحقاً، على عزيمتنا للغداء في بيته، بعد أن رفض كل اعتذار أو تهرب. في طريق العودة، كنت خائفاً من ردة فعل أبي، بعد ان كظم غيظه مني أمام مضيفنا، وما أن بدأ يصرخ في وجهي حالما ركبنا السيارة، حتى قاطعه صديقه ” أبو صالح ” وهو يضحك من صميم قلبه، قائلا له ” روّق يا فهمي، أنا من غير ابنك ما عدت أسافر معك، ما بكفي تغدينا بجريرتو، خليه كل مرة يضيع مننا، ويطلعلنا ابن حلال يلاقيه ويغدينا عندو”.

 أكثر ما بقيّ عالقاً في ذهني من تفاصيل تلك الجولات، التي كانت تضم أحياناً، زميل والدي في العمل، وجارنا الطيب عمر البوباح “أبومحمد”،  ما كان ينتظرنا من حفاوة العائلات الفلسطينية، التي كانت تسكن قرية “تل أرفاد”، التي سميت لاحقاً “تل رفعت”، وكانت قرابة الثلاثين عائلة تعود أصولها إلى قرية عين غزال الفلسطينية. تلبس نساؤهم بأغطية رؤوسها وأثوابها الطويلة، نفس الزي الذي ترتديه نساء القرية، ويمتدح الرجال في أحاديثهم، علاقتهم الطيبة بأهلها، مذّ سكنوا بيوتها عندما كانت قباباً من الطين. يأخذني أولادهم خلال فترة توزيع المؤن، إلى بيادر القرية أيام الحصيدة، وتنتابني الدهشة، وأنا أرى الفلاحين يضعون حزم الحنطة والشعير، في الدرّاسة من أجل فصل حبيباتها عن قشورها، ثم غربلتها وتذريرها. أما إذا جاءت جولتنا في آواخر الصيف، نهرول إلى كروم العنب التي تشتهر بها القرية، فيشتهون لي من ثمارها أكثرها نضجاً واستواءً. أظل مستغرقاً باللعب والدوران في تلك الأرجاء الفسيحة، حتى يأتيني صوت أحدهم من بعيد، وهو يستعجلني لأعود إلى جماعتي استعداداً للمغادرة. في كل مرة وبعد عودتي للمخيم، أروي لأهلي وأصدقائي، ما شاهدته في تلك الرحلات المشوّقة، واستمتاعي بالمناظر الخلّابة على جانبي الطريق خلال ذهابنا وإيابنا، كأنني أقصُّ حكايات عن عوالم سحريّة، يمتزج فيها الواقع بالخيال.

 نادراً ما كان يتحدث أبي عن حلمه، في تعليم بناته على قدم المساواة مع أبنائه، لكن سلوكه نحونا كان يفيض بحرصه على توفير كل متطلبات معيشتنا وتعليمنا على حدٍ سواء، كحال أقرانه من جيل النكبة. سمعته أكثر من مرة وهو يقول: “إن شهادة الابتدائي في فلسطين زمن الانتداب، تعادل شهادات أعلى منها في الدول الأخرى”. جاء ما يؤكد صدق مقولته تلك، عندما بدأ يذيع صيت الجيل الأول من المعلمين الفلسطينيين في مخيمات حلب، ومدارس مدينتها وأريافها، وأغلبهم جرى تعيينه على الشهادات الابتدائية أو الإعدادية التي حصلوا عليها من فلسطين، حينما كانت حاجة سوريا للمعلمين، في عقدي الخمسينيات والستينيات، أكبر من أعداد حملة الشهادات فيها.

والدتي، التي خرجت طفلة من فلسطين، كانت أميّة التعليم، لكن دورها اللصيق في رعايتنا وتربيتنا، وهي المتفرغة لإدارة شؤون البيت، كان جلياً في إصرارها الشديد، على تعليمنا حتى أعلى المراحل. تُحذرنا بطريقتها المعهودة في تشجيعنا وتحفيزنا للتعلّم، من المصير البائس لمن يحيدون عن طريق المدارس. عندما كبرنا وتزوجنا، كانت تتباهى أمام حفيداتها وأحفادها، وفي مجالس أقربائنا وجيراننا ومعارفنا، بحصول جميع أبنائها الإناث والذكور على شهادت متوسطة وجامعية. لأمي حضورها الآسر في البيت، فهي صاحبة القرار في تدبير شؤونه، ومتابعة تفاصيل معيشنا اليومي، ولم تكن أستثناءً عن ربات البيوت في مخيمنا من هذه الناحية، فما كانت أدوارهنّ ومكانتهنّ تقاس في واقعنا ذاك، بعملهنّ خارج المنزل، كما تبدّى في أزمنة لاحقة، حينما أصبح زواج شباب المخيم من الصبايا المعلمات أو الموظفات، أحد البواعث غير المعلن عنها لطلب الزواج منهنّ.  كان يسلم أبي راتبه الشهري كاملاً بيدها، وهي المسؤولة عن الصرف والإنفاق طيلة الشهر، ولا تخلو تلك المعادلة المادية، كلما اختلت الميزانية كما كان يحدث في أحايين كثيرة، بسبب عدم التناسب بين مستوى الدخل ومتطلباتنا المتزايدة، من مشاجرات زوجية بينهما، تنتهي مع عناد أمي وهي إحدى صفاتها، في بقاء إمساكها بزمام الأمر كما كان عليه.

ثمة صفات مشتركة بين أبي وأمي، انعكست على تربيتنا وخياراتنا في الحياة، فكلاهما يألفان معاشرة الناس، واستقبال زوار وضيوف بيتنا بالتهليل والترحاب، في محيط إجتماعي عامر بالمودة بين الأقرباء والجيران. لامواعيد محددة للتزاور فيه، وأبواب البيوت مشرعة على مصاريعها أغلب الأوقات. تلتم نساء الحارة كطقس يومي، عند هذه الجارة أو تلك، وغالباً كان بيتنا ركناً محبباً لديهنّ في جلساتهنّ الصباحية، بعد خروج الرجال لأعمالهنّ والأولاد إلى مدراسهم. في مواسم “الملوخية” وهي الأكلة الفلسطينية المحببة عندنا، وقد عرفها جيراننا السوريين بعد وجودنا بينهم. تنعقد لمّات النسوة بعد شرائها من العربات الجائلة بين الحارات، ونزعهنَّ الأوراق عن عيدانها، فيعرف الجميع أن طبخة الحارة هذا اليوم هي الملوخية. يتسامر أبي في المساء وأيام العطل، مع شلّة من أصدقائه في العمل والمخيم، يتحدثون بصوتٍ خافت عندما يطرقون أبواب السياسة، بينما يتعالى صياحهم في لعبة التريكس أو الطرنيب، ورغم عصبيّة مزاج أبي، غير أن طيبة قلبه التي يعرفها من حوله، ولهفته لمساعدة كل من يقصده بحاجة أو طلب، أكسبته مكانة محببة بين أقربائه ومعارفه.

في الزيارات العائلية بين الجيران، أو أهالي المخيم، لا ينفصل الرجال عن النساء، وإن شعروا بطمأنينة تجاه ضيوفهم الأغراب عن المخيم، سرعان ما تتلاشى الحواجز، كلما توطدت العلاقات بينهم. كانت شقيقاتي لا تتحرجنّ دعوة زميلاتهنّ وصديقاتهنّ لزيارة بيتنا، وكذا أشقائي وأنا مع زملائنا وأصدقائنا، فقد كان أبوينا يلاطفان ضيوفنا، ولا يبدون نفوراً أو انزعاجاً من قيامنا بذلك، خلافاً لبعض الأهالي الذين كانوا يفرضون قيوداً على أولادهم، تحدُّ من حريتهم في دعوة أقرانهم إلى بيوتهم. من عادات أبي التي كنا نتبرم منها أحياناً، رغبته في مجالسة ضيوفنا، وتبادل الأحاديث معهم، فنرى ارتباك بعضهم، ممن يشعرون بالخجل من محادثة الكبار. عندما كان يزور بيتنا زملائي في الصف من قرية حندرات أو تل جبين، تأخذني أمي جانباً وتقول بصوتٍ هامس: إعزم على اصحابك، لا تخليهم يروحو بيوتهم قبل ما ياكلو لأنو مشوارهم بعيد ..

 

……. يتبع في الحلقة الثالثة من سلسلة تجربتي بين ثورتين ……..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى