يدفعني إلى إعادة نشر هذه المحاضرة التي أعددتها منذ 23 عاماً، مع إجراء بعض التعديلات لربط الماضي المنظور للثقافة العربية بحاضرها العربي البائس، الذي تمزقه الهويات والخصوصيات الثقافية، وتهدده ” الهويات القاتلة “.
III – مجالات التغيير المطلوبة للتكيّف الإيجابي مع معطيات المستقبل
إنّ حضور سؤال المستقبل في أية ثقافة هو دليل حيويتها، فبقدر حضوره في تكوينها تتحدد قابليتها للتطور، وقدرتها على التقدم، ورغبتها في الإبداع الذاتـي. إنّ الوعي المستقبلي يقيس على الحاضر في حركته إلى المستقبل، ولا ينشغل بالماضي إلا بوصفه عنصراً من عناصر الحاضر الذي يقبل التحوّل والتطور والمساءلة. وسؤال المستقبل عنصر تكويني في هذا الوعي وعلامة عليـه، سواء في حرصه على الارتقاء بالإنسان من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية، أو الانتقال بالمجتمع من التأخر إلى التقدم.
وهكذا، يبدو واضحاً أننا أحوج ما نكون إلى إعادة صياغة الخصوصية الثقافية العربية، بمعنى أننا في أمسِّ الحاجة إلى عملية إحياء ثقافي. فالثقافة العربية الراهنة تمرُّ في مرحلة انحطاط وردّة واضحين، فهناك تراجع عن الفكر العلمي لفائدة الفكر الخرافي، وهناك استفحال ظاهرة الخطاب الماضوي الذي يجهد في محاولة إرجاع العالم العربي إلى العصور المظلمة، ويحفّزه على التشبث بمرجعية ماضوية، وكأن الماضي ينبغي أن يحكم الحاضر والمستقبل.
وإزاء ذلك يبدو أنّ الخطوة الأولى في محاولة التعاطي مع أسئلة المستقبل تكمن في فهم لغة الخطاب العالمي المعاصر، التي يتمُّ التعامل بها بين أطراف هذا العالم الجديد، وخاصة القوى الغربية المؤثرة، وبالتحديد فهم توجهات هذا العالم نحونا. إذ إنّ البحث في الاعتماد المتبادل بين العالم العربي والخارج هو بحث في المستقبل، وأية دراسة للمستقبل لا بدَّ أن تنطلق من صورة العالم، ونماذج تطور النظام العالمي في أبعاده السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والثقافية.
ومن جهة المنظور، لا يخفى أنّ الدراسات المستقبلية ليست جديدة، ولكنها تشهد اليوم ازدهاراً واضحاً يستقطب اهتمام المفكرين والمنظّرين الاستراتيجيين. ومن المؤكد أنّ الاهتمام بالمستقبل لا يعني نفي الماضي، فالذي يحسن فهم حاضره يهيئ لمستقبله بقدر ما يحسن توظيف ماضيه. وتلك هي المعادلة التي تتيح لنا صوغ العلاقة بين الأزمنة بصورة متوازنة وخصبة، حية وراهنة، بقدر ما تتيح لنا التحرر من الأدلوجات التي تجعلنا أسرى ماضٍ يستحيل أن يعود كما كان عليه، أو التخلص من الطوباويات التي تغرقنا في أوهام مستقبل لا ينفكُّ يبتعد.
والفكر المستقبلي لا يمكن إلا أن يكون تعددياً، بمعنى انه يتغذى من جميع فروع المعرفة بقدر ما ينفتح على جميع وجوه الحياة، كما تتجلى في العلوم الاجتماعية، أو في ميدان التاريخ والحضارة، أو في مجال الفلسفة والأخلاق، أو في ميادين الفن والأدب، أو في علوم الاقتصاد والمال، أو في الدراسات السياسية والاستراتيجية، أو في العلوم الطبيعية والبيئية، أو علوم الوسائط والاتصال.
وهكذا فالتفكير من منظور مستقبلي يتوقف على العمل الكوكبي بعقل تواصلي، من هنا تتبلور اليوم شبكة جديدة من المفاهيم تتلاءم مع التحوّل الذي تشهده البشرية. بحيث تتركز الجهود الفكرية والعملية على تشكيل المجتمع الكوكبي التداولي، لمجابهة الداء الأعظم الذي يفتك بالبشرية، كما يتجسد في أنشطة العنف والأعمال البربرية التي تقوم بها قوات الجيش الإسرائيلي ضد أبناء الشعب الفلسطيني (والجرائم ضد الإنسانية التي مارسها النظام وحلفائه الروس والإيرانيين بحق الشعب السوري). وهذا أحوج ما يحتاج إليه العرب: المساهمة في تنمية المجال التداولي وتوسيعه وإتقان لغته، خاصة ما يتعلق منه بـ ” المجتمع المدني العالمـي ” ومنظماته غير الحكومية، لأنه الفاعل الجديد في العلاقات الدولية.
وانطلاقاً من المعطيات، الموصوفة أعلاه، ثمَّة أهمية كبرى لصياغة استراتيجية عربية للحوار والشراكة مع الثقافات الأخرى، مما يستدعي القيام بدور نقدي مزدوج:
(1) – الاستيعاب النقدي لفكر الآخر، بمعنى المتابعة الدقيقة للحوار الفكري العميق الذي يدور في مراكز التفكير العالمية، وفي العواصم الثقافية الكبرى.
(2) – النقد الذاتي للأنا العربية، بما يعنيه ذلك من ضرورة أن نمارس النقد الذاتي لممارساتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في عقود مرحلة استقلالنا الوطني على الأقل.
وهنا تبرز مهمة المثقفين بالتوجه إلى الحداثة كهدف وككل متكامل، بما ينطوي عليه ذلك من تبنّي لسلطان العقل على النقل، والفصل بين الخطابين الديني والسياسي، والتخلّي عن الشعارات والأوهام، وفهم اتجاه الحقبة التاريخية المعاصرة، والدعوة إلى التحديث السياسي باعتباره المدخل الحقيقي لأي تحديث آخر، والدفاع عن المواطنة التي قوامها المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، والتمسك باحترام الحق في الاختلاف انطلاقاً من نسبية المعتقدات والقناعات.
ومما لا شكَّ فيه أنّ عصر الحداثة لم ينغلق في نمط نهائي، بل هو في تطور متواصل، بهدف الإجابة على التحديات التي تواجهها المجتمعات البشرية، عبر عقلانيته النقدية. فهو العصر الذي حققت البشرية فيه أثمن مكاسبها وأعظم إنجازاتها في المجالات السياسية والاجتماعية والمعرفية.
وللخروج من الحالة الماضوية للثقافة العربية، خاصة في ظل ثقافة العولمة، لا بدَّ من التأكيد مع الدكتور محمد السيد سعيد على مجموعة جوانب مترابطة للتغيير الثقافي، الذي يمكّننا من القطيعة مع التأخر والانطلاق إلى مسارات النمو والتنمية الذاتية، والتحرر من المحنة العربية:
(1) – ثقافة الدور أو الواجب الحضاري، أي إحياء فكرة الإعمار التي هي من أهم الأرصدة الثقافية للحضارة العربية – الإسلامية، بما هي واجب الإنسان في الكون. خاصة وأنّ القول قد حلَّ محل الفعل في أداء رسالة الدور الحضاري في ثقافتنا العربية، حين اطمأن العرب إلى دورهم في الماضي، فعكفوا على تمجيده، دون الإضافة إليه.
(2) – ثقافة الامتياز والإنجاز، إذ إنّ الفائزين في المنافسة الحضارية هم مَنْ يسعون لتحقيق أعلى معدلات وأرقى مستويات الأداء في مجالات الحضارة المختلفة.
(3) – الانفتاح والمبادرة الإيجابية، حيث أنّ الانكماش واتخاذ موقف الدفاع حيال ما يسميه البعض بـ ” الغزو الثقافي ” هو استراتيجية بائسة وفاشلة تمامـاً، فلم تعد الاستراتيجيات الدفاعية والفصامية قادرة على إنقاذ الذات الحضارية من الهزيمة أو التبعثر، وإنما صار الأمل الحقيقي في الصمود رهناً بالتعلّم واستيعاب وإتقان ما لدى الآخرين من رصيد المعارف وفنون الإنتاج، ثم في الثقة بالذات والشعور بالواجب الحضاري، وإصلاح شؤوننا الداخلية بعدما فسدت وتدهورت بدءاً من أنظمة الحكم ومروراً بنظام الجامعات ومواقع الإنتاج والخدمات.
(4) – المؤسساتية، إذ تحتاج الثقافة العربية احتياجاً أساسياً وعميقاً لاستيعاب أهم منجزات الحداثة وهي المأسسة. التي تعني، قبل كل شيء، الاهتمام بتمييز الخط الفاصل بين الشخصي والعام، وخاصة فيما يتعلق بالدور، ولكن أيضاً فيما يتعلق بالملكية والسلطة. كما تعني شيئاً من الاتصال والتراكم والديمومة في أداء الوظائف.
(5) – التصحيح المستمر والنظر للمستقبل، فبسبب المساحة المهيمنة للمطلقات، والتعلق الشديد بالماضي، لا يحتلُّ المستقبل المساحة الجديرة به في الثقافة العربية، فالمستقبل ” ليس سوى مجرد استمرار للماضي، بل أنّ أفضل مستقبل هو ما يتقيد بأفضل ما في الماضي “، وكأن الزمن لا يفعل سوى إعادة إنتاج نفسه في نموذج مثالي سرمدي مطلق الصلاحية والحضور.
وهكذا، لم يعد مستقبل الثقافة العربية محصوراً في التعليم رغم أهميته، أو مقتصراً على مشكلة الكتاب رغم تصاعد دوره وتنوّع وسائل تيسيره وإشاعته، وإنما أصبح المستقبل أفقاً من الإمكانات المتعددة التي تتعدد فيها وسائط التثقيف التي وصلت إلى درجة هائلة من الانتشار الإعلامي الجماهيري بواسطة التلفـاز ووسائط التواصل الاجتماعي. وكان من نتيجة التعقد اللافت في علاقات العمل الثقافي وأدوات إنتاجه أن اتسع معنى التثقيف العام ليشمل جهود وزارات: التعليم، والثقافة والإعلام، والشباب، والعمل، والاتصالات، وغيرها. وتتناغم في هذه الجهود أدوار المؤسسات الحكومية وتنظيمات المجتمع المدني، بالقدر الذي تتشابك وتتقاطع فيه مصالح متعددة من الداخل والخارج، تستعين بأحدث منجزات الثورة المعلوماتية.
(*) – محاضرة في المنظمة العربية للثقافة والعلوم ” أليكسو ” – تونس في 14 كانون الثاني/يناير 2003.