لم يكن إعلان الاتفاق الإيراني السعودي على إعادة العلاقات الدبلوماسية خلال شهرين مفاجئاً، إلا في صدوره وتوقيعه برعاية صينية، حيث سبق وحصلت لقاءات أمنية وسياسية إيرانية سعودية في العراق وعُمان، بحثت نقاط الخلاف وهواجس الطرفين الأمنية والسياسية وسبل إزالتها. وكان دافع الطرف السعودي احتواء المخاطر واستغلال الفرص في ضوء حاجته لتحقيق تطلّعات وبرامج وطنية في مجالات التنمية والتطور الاقتصادي لمواجهة احتياجات المجتمع عبر توفير شروط تنمية مستدامة لا تعتمد على النفط ومشتقاته. في حين كان دافع الطرف الإيراني كسر العزلة والانفتاح على دول الجوار، لاحتواء التطوّرات الأخيرة وما تنطوي عليه من أخطار.
انخرطت إيران مع السعودية في حوار أمني، على ضوء التطورات التي حصلت في الإقليم في السنوات الأخيرة، بدءاً باتفاقيات أبراهام بين إسرائيل والإمارات والبحرين؛ والتنسيق الأمني الإسرائيلي مع دول عربية وضم إسرائيل إلى ساحة عمليات القيادة المركزية الأميركية؛ وتصاعد الحديث عن تشكيل تحالف عربي إسرائيلي لمواجهتها؛ يبدأ بإقامة شبكة دفاعية مخصّصة لمواجهة صواريخها البالستية ومسيّراتها؛ ونجاح إسرائيل في تأسيس قواعد تجسّس في أذربيجان؛ واختراقها الأراضي الإيرانية وتنفيذها عمليات اغتيال وتفجير دقيقة وخطيرة؛ وتصاعد التنسيق الأميركي الإسرائيلي ضدها الذي جسّدته المناورات الكبيرة متعدّدة الأهداف والاتفاق على تزويد إسرائيل بأربع طائرات لتزويد الطائرات بالوقود في الجو للتغلب على بعد المسافة التي ستقطعها الطائرات الإسرائيلية خلال عملية قصف محتملة ضد منشآتها النووية، خصوصا أن هذه التطورات جاءت بعد توقف المفاوضات بشأن برنامجها النووي واستمرار فرض العقوبات الأميركية، وتفاقم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي نجمت عن هذه العقوبات، وانهيار سعر صرف العملة الوطنية، إذ بلغ الدولار 580000 ريال وتراجع بعد الاتفاق مع السعودية إلى 501300 ريال، والتضخّم والانكماش وانهيار القدرة الشرائية للمواطنين؛ وعدم نجاح الاتفاق الاستراتيجي مع الصين في تفعيل الاقتصاد الوطني، حيث لم تستثمر الصين في هذا الاقتصاد سوى 185 مليون دولار منذ وصول الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، إلى سدّة الرئاسة قبل عامين؛ ولم تفرج عن الأموال الإيرانية المجمّدة في مصارفها، 20 مليار دولار، استجابة للعقوبات الأميركية وتخفيضها كمية النفط التي تستوردها منها، وانفجار الاحتجاجات الشعبية الكبيرة والواسعة على خلفية مقتل المواطنة الكردية مهسا أميني على أيدي شرطة الأخلاق، وما كشفته الاحتجاجات من احتقان اجتماعي وقومي ضد النظام، عبّر عن نفسه باستهداف القيادة العليا، رفع شعار الموت لخامنئي، ورموز النظام، تكسير وحرق صور مؤسّس الجمهورية الإسلامية، الخميني، وإلقاء قنابل مولوتوف على منزله، وتمزيق صور خامنئي وقاسم سليماني وإسقاط عمائم رجال الدين في الطرقات وخلع النساء الحجاب الذي اعتبرته السلطة رمزا لنظامها، وحرقه، وحصول انقسامات سياسية عميقة داخل الطبقة السياسية بشأن سبل التعامل مع الاحتجاجات وإجراء تغيير في السياسات استجابة لمطالب المحتجين.
وقد زاد الطين بلّة الدفع نحو تصوير الاحتجاجات مؤامرة قومية، يقف الكرد والبلوش وراء انفجارها، لشدّ العصب الفارسي، وانعكاس التصوير السلبي على صورة الإجماع الوطني على النظام الإسلامي وهشاشة الاندماج الوطني، وصدور عقوبات أميركية وأوروبية جديدة، على خلفية القمع الشديد الذي استخدمته ضد المحتجّين، قتل في الشوارع واعتقالات واسعة ومحاكمات وأحكام بالإعدام، وخسارتها التعاطف الأوروبي مع مطالبها وشروطها وتوسّطها لحل الخلافات مع الإدارة الأميركية في المفاوضات النووية، على خلفية اعتقالها إيرانيين يحملون جنسياتٍ أوروبية، وإعدامها الإيراني بريطاني الجنسية، علي رضا أكبري، الذي شغل منصب نائب وزير الدفاع الإيراني عام 2019، بتهمة التجسّس لصالح المملكة المتحدة.
وقد أضافت عودة بنيامين نتنياهو، المعروف بتوجّهه إلى مواجهة برنامجها النووي بالطرق العسكرية، إلى منصب رئاسة الوزراء الإسرائيلي، وتشكيله وزارة مع أحزاب صهيونية شديدة التطرّف، عاملا إضافيا يُنذر باحتمال إغلاق فرص العودة إلى المفاوضات بشأن برنامجها النووي وبقاء العقوبات، إن لم تُضف إليها عقوبات جديدة، بما في ذلك العودة إلى عقوبات الأمم المتحدة التي رُفعت بُعيد عقد اتفاقية العمل المشتركة الشاملة.
أدركت القيادة الإيرانية حجم (وطبيعة) المخاطر التي تحيط بها، فلجأت إلى الرد بخطة مركّبة، هدفها تخويف الولايات المتحدة من نتائج التضييق عليها ومحاصرتها اقتصاديا وعسكريا؛ وذلك لدفع الأخيرة إلى العودة إلى المفاوضات، والقبول بالمطالب والشروط الإيرانية، بدءا بزيادة نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 60%؛ ومراكمة كميات منه، بات لديها 70 كيلوغراما منه. ولمّا لم تفلح المحاولة في استدراج الإدارة الأميركية للعودة إلى التفاوض، لجأت إلى تخصيب كمية صغيرة من اليورانيوم إلى نسبة 83.7%، نسبة تنذر باقترابها من تحقيق تخصيب بنسبة 90% اللازمة لإنتاج سلاح نووي، ووضع الكمية تحت أنظار مراقبي الوكالة الدولة للطاقة الذرية، لرفع درجة التوتر وتسريع العودة إلى المفاوضات، وعقد اتفاق يرفع العقوبات الاقتصادية. وكانت خطوتها الثانية للضغط على الإدارة الأميركية للعودة إلى المفاوضات النووية والقبول بمطالبها وشروطها الانخراط في دعم الجهود العسكرية الروسية في عدوانها على أوكرانيا بتزويدها بمسيّرات انتحارية، استخدمت في ضرب المدن والبنى التحتية الأوكرانية، محطات إنتاج الكهرباء والطرق والجسور والمشافي. هذا بالإضافة إلى العمل على تعزيز العلاقات مع روسيا والصين، لإعطاء دور أكبر للتنسيق الثلاثي في مواجهة الولايات المتحدة ونظامها الدولي، والعمل على إقامة نظام دولي متعدّد الأقطاب.
لم تحدث الخطة الأثر المطلوب، أثارت رد فعل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودفعتهما إلى فرض عقوبات إضافية، فلجأت القيادة الإيرانية إلى اعتماد سياسة التهدئة باستقبال مدير وكالة الطاقة النووية، رافائيل غروسي، والاتفاق معه على السماح بإعادة تركيب كاميرات المراقبة وعودة المفتشين الدوليين للكشف على المواقع، وتقديم تفسير لوجود ذرّات يورانيوم عالي التخصيب في منشأة فوردو، والدعوة إلى ترسيم الحدود البحرية مع الكويت، والاتفاق مع السعودية على إعادة العلاقات الدبلوماسية وفتح السفارات ضمن اتفاق سياسي شامل، اعتبره الناطق باسم الحكومة، علي بهادري جهرمي، تراجعا عن السياسة العدائية تجاه السعودية وتصحيحا لخطأ استراتيجي في سياسة إيران الخارجية، مدخلا لكسر الجمود وتحفيز التحرّكات الدبلوماسية والسياسية مع اعتماد مقاربة لحفظ ماء الوجه، قائمة على تضخيم النتائج المترتبة على الاتفاق مع السعودية، واعتباره انتصارا على المحور الأميركي الصهيوني، عبر كسر الحصار واحتواء موجة التطبيع الخليجي مع إسرائيل، وقتل فكرة التحالف العربي الإسرائيلي في مهدها، وأعلنت عن استعدادها لتوسيع نطاق التطبيع بإعادة العلاقات مع البحرين ومصر، والعمل على الوصول إلى بيئة إقليمية آمنة، تدفع إلى المطالبة بإخراج القوات الأميركية من الشرق الأوسط.
غير أن الشيطان يكمن في التفاصيل، كما يقال، والعقدة الرئيسة أمام تحقيق أهداف إيران بكسر الحصار واحتواء التطبيع الخليجي الإسرائيلي وإخراج القوات الأميركية من الشرق الأوسط هي النظام الإيراني ذاته، فهذا النظام، بتوجهاته القومية العنصرية المغلفة برداء إسلامي مهلهل، وتركيبته السياسية والعسكرية المتشدّدة غير قادر على الوفاء بتعهداته بموجب الاتفاق مع السعودية والتراجع عن سياسات اعتمدها واستثمر في تنفيذ خططها المال الكثير، عشرات المليارات، والرجال، وتأسيس بنى عسكرية مليشياوية وفتح جراح قديمة بين السنة والشيعة في دول الجوار، لتفكيك مجتمعاتها وتمزيق استقرارها الهشّ من أجل بسط نفوذه وهيمنته عليها، خصوصا إذا اكتشف أن اتفاقه مع السعودية لن يؤدّي إلى تمهيد الطريق لعودة المفاوضات مع الولايات المتحدة بشأن البرنامج النووي ورفع العقوبات الاقتصادية، فالعقوبات لن تُرفع من دون تحقيق المطالب الأميركية التي نقلها وزير الخارجية العراقي، فؤاد حسين، إلى القيادة الإيرانية بعد عودته من واشنطن، وخصوصا الالتزام بمسوّدة اتفاق مارس/ آذار 2022 بشأن البرنامج النووي في فيينا، والتفاوض في الخلافات غير النووية، وخفض التعاون العسكري مع روسيا والصين، والالتزام باستئناف الحوار مع دول مجلس التعاون الخليجي، وتبادل السجناء مع الولايات المتحدة. طلبات تؤدّي، في حال الالتزام بها، إلى إضعاف النظام وتشجيع قوى المجتمع الإيراني على المطالبة بتنفيذ تغيير سياسي واقتصادي عميق تحت ضغط احتجاجاتٍ جديدةٍ أسبابها قائمة. فتنفيذ الاتفاق مع السعودية، وخصوصا بند “احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية”، سيعني خسارة النظام الإيراني ورقة القوة الرئيسة، الأذرع الشيعية التي أسّسها ودرّبها وموّلها وسلّحها في عدة دول عربية تحت راية محور المقاومة، التي منحته قدرة على الضغط والابتزاز ليس ضد دول الجوار فقط، بل وضد الولايات المتحدة وإسرائيل والاتحاد الأوروبي، وتنفيذ الطلبات الأميركية سيفقده بقية أوراق القوة، الصواريخ البالستية والمسيّرات والظهير الدولي.
تشير المعطيات السابقة إلى الموقف الدقيق الذي دخله النظام الإيراني بتوقيعه الاتفاق مع السعودية برعاية صينية وخطورة تنفيذه بنوده على إنجازاته السابقة واستثماراته الضخمة في بنى سياسية وعسكرية في دول الجوار، فرعاية الصين الاتفاق جعلتها ضامنة له ما سيفرض عليها مراقبة تنفيذ بنوده، حفاظا على صورتها ونفوذها في الشرق الأوسط ومصالحها مع دول الخليج العربية، وعدم تنفيذه أو التلاعب في تحديد مضامينه سيضعه في مواجهة مع الصين وخطر خسارة علاقته مع القوة الرئيسة في الترويكا التي جمعته مع الصين وروسيا.
المصدر: العربي الجديد