لقد أيدتُ منظمات المعارضة السورية في الداخل والخارج منذ بداية ظهورها, وانهمكتُ في نشاطاتها السياسية, ولا زلتُ , وهو موقف مبدئي بالنسبة لي أبرر به وجودي على قيد الحياة , واتساقا مع تجربتي الشخصية كمعارض لنظام البعث – الاسد منذ باكورة شبابي بعد هزيمة 1967 , إذ انتسبت لأحد الأحزاب الوطنية السرية عام 1968 وكنتُ في السادسة عشر من عمري , واستمريتُ على ذلك داخل وخارج سوريا بلا انقطاع . ومثلت ثورة 2011 بالنسبة لي حلما شخصيا كبيرا ظلّ يراودني وأخططُ حياتي بالقياس عليه , وظللتُ أنتظره وأتمنى أن أراه وألمسه قبل أن أفارق الحياة , وهذا ما يفسر اندفاعي الكبير , وانفجار بركاني الداخلي تعبيراً عن مشاعري تجاه هذه الثورة التي لم أتخيلها مسبقا بهذا الزخم والعنفوان , ولا بهذا الجبروت والعمق , ولم أتوقع مطلقا أن تؤدي لأنهار من الدماء الزكية .
لم أحدد موقفي من منظمات المعارضة السورية وطواقمها بناء على موقعي فيها أو حصتي أو دوري , مع أني أعتقد اعتقادا جازما وبلا تواضع زائف أن 70 % ممن تسلقوا أكتاف الثورة والثوار لم يقدموا 10% مما قدمتهُ طوال 45 سنة من النضال داخل وخارج سوريا , نضال كان بالنسبة لي ( نمط حياة ) و( منهج فكر وعمل ) . ولا أطرح هذا من باب الشكوى والتحسر على (حصرم ذقته في حلب) , بل لأوكد حقيقة باتت معروفة للجميع , وهي أن نسبة كبرى من الذين امتطوا صهوة المعارضة بعد الثورة لم يكونوا قبلها معارضين , ولم يضحوا بشيء مما ضحيناه , وربما ظل بعضهم عسسا للسلطة وعواينية إلى ما بعد انفجار الثورة , واعتبروا انشقاقهم أو انسحابهم من مائدة السلطة صنيعا عظيما لا بد أن يؤجروا عليه فورا وبأحسن منه , أي أنهم يريدون أن (يكسبوا) سواء كانوا في معسكر النظام أو في معسكر الثورة والمعارضة , ولا مجال للخسارة عندهم , وهذا ما حصل .
أنا أعرف كثيرين من هؤلاء المعارضين الذين طفوا على أمواج الثورة معرفة وثيقة منذ عشرات السنين , ولكم كنا نستجدي منهم كلمة واحدة ضد النظام , فكانوا يبخلون بها علينا , ثم أصبحوا فجأة في الصفوف الأولى للمعارضة , يتأبطون معهم ملفا يوزعونه على الاعلاميين والعوام يحوي تاريخا مزيفا لنضالات وهمية اصطنعوها لأنفسهم بمفعول مسبق دون حياء .
وكان بإمكاني أن أخوض مع الخائضين في فضح هؤلاء ومواضيهم المخجلة , لكني لم أفعل واخترت نهجا يقوم على مبدأ : الثورة تجبّ ما قبلها , والمهم هو توحيد الطاقات والصفوف من أجل الانتصار في المعركة مع النظام وقوى الاحتلال التي استولت على بلادنا لني اعلم أنها معركة قاسية تتطلب حشد الطاقات وتوحيد الصفوف .
تبنيتُ موقفا ايجابيا من كل منظمات المعارضة , هيئة التنسيق في البداية وقبل أن نتبين أنها بنيت على باطل ,ثم المجلس الوطني , وأخيرا الائتلاف. ركزتُ على الايجابيات والتمستُ المبررات والاعذار للأخطاء والسلبيات , ورفضتُ في أي يوم وعلى الرغم من كثرة ما أكتب أن أنجرّ إلى طقوس الردح والشتم ومباريات التخوين والاتهام الجزافي الرائجة , ولا سيما على صفحات التواصل الاجتماعي , بل ودافعتُ باستماتة عن منظماتنا ومعارضينا وهاجمت من يهاجمها , باعتبار أن الأخطاء والسلبيات هي بمثابة ظواهر ونتائج طبيعية إن لم نقل حتمية لتجربتنا الوليدة التي بدأت من الصفر وبدون تجارب وخبرات سابقة , وبسبب عوامل موضوعية كشح الامكانات والحاجة لتوسل الدعم من الدول الشقيقة والصديقة . وعبرتُ دائما فيما كتبتُ عن روح الامل الذي يحدونا في أن تتعلم المعارضة من تجاربها وتقوم بالتصحيح وتجاوز العثرات والثغرات بسرعة , وأن تستلهم روح الثورة وترتقي الى مستوى تضحية المواطن السوري(سين) الذي بهر العالم بقدرته على الصبر والعطاء والصمود والقوة .
لكنني للأسف بعد 30 شهرا من ولادة منظمات المعارضة ومؤتمراتها , وبعد ما يقارب ثلاث سنوات على الثورة أرى بكل موضوعية وتجرد أن محصلة التجربة مخيبة للآمال ومخجلة ودون المستوى المأمول , ولا تتناسب أبدا مع ما تتطلبه الثورة , ولا تناسب ثقة شعبنا بنا , وأرى أن الخط البياني لأداء وسلوك المعارضة السورية ينحدر بدل أن يرتفع , مما يعني أنها لم تتعلم من أخطائها , ولا تريد أن تصحح وتصلح , كما يعني أن رهاننا المتفائل على نضجها السريع ووعيها قد خاب وأنه كان خاطئا من البدء .
ولا بد من الاتفاق على أن الخطأ الذي كان مقبولا في سلوك المعارضة عام 2011 لم يعد مقبولا ولا مغفورا في 2014 .
اجتماع الائتلاف في الدورة الأخيرة في استانبول 5-7 من الشهر الجاري يوحي بأن هيئة الائتلاف بكاملها توغل في الانحراف والفساد عن سابق وعي وعمد . وهو أمر لا يشرفنا بل يخزينا ويخجلنا , ويشكل عارا وفضيحة لنا جميعا نحن كمعارضة ونخبة تنطعت لحمل مسؤولية التعبيرعن مطالب الثورة وتمثيل شعبنا , وهو أيضا شهادة دامغة على انهيار جديد في أدائنا وسلوكنا السياسي والاخلاقي , بل لا بد ان نتصارح وأن نقول إنه بمثابة فشل ونكسة في صراعنا مع النظام ستتجير الى مكسب له يطيل في عمره , ويضعف مناعة قوى الثورة وقدرتها على المواجهة التي تزداد استعارا .
وللأسف فالفشل وسوء الأداء والفساد لا تقتصر على الائتلاف , بل تمتد الى ما يسمى معارضة الداخل , وتمتد الى القوى العسكرية المقاتلة حيث الفوضى الضاربة أطنابها , والصراعات , وروائح الخيانة , والفساد , لا تقل عن مثيلتها السياسية , كما أخذت تمتد إلى أول حكومة للمعارضة وأجهزتها , ومنظمات الاغاثة والدعم والتمويل .
الانحراف والفساد يتوسعان للأسف على حساب الاستقامة والطهارة . وبعض المعارضين تحولوا من هواة الى محترفين في القفز على الحبال , والتنقل بين المواقع , والاتجار بالولاءات , وتقديم الخدمات للدول والقناصل والأجهزة السرية , والبعض صارت له مصلحة في أن تستمر الحالة على منوالها الحالي (لا نصر ولا هزيمة) لأن مكاسبه الخاصة تتأتى من توالي الاجتماعات والمؤتمرات إلى ما لا نهاية , وكما أن معظم شعبنا المسكين خسر كل شيء وتحول لاجئا ومشردا بين المخيمات فإن بعض معارضينا تحولوا أثرياء حروب وأصحاب ارصدة عامرة , ونجوما على الفضائيات وضيوفا على العواصم فلماذا يخسرون ويضحون .. ؟ ولماذا يستعجلون نهاية هذا الموسم الطويل ما دامت ثماره دانية قطوفها على يديه وجيوبه ..؟
الدول الشقيقة والصديقة بقناصلها وسفرائها وأجهزة استخباراتها وأموالها وضغوطها تتحمل بلا شك قسطا هاما من المسؤولية عن هذه السقوط التراجيدي غير القدري لمعارضتنا السياسية والعسكرية ولكن المسؤولية الكبرى عنه تتحملها معارضتنا التي استمدت من النظام أسوأ سيئاته , وأتقنت حيل الفساد . فالدول تخدم مصالحها التي قد يكون إفسادنا وحرف ثورتنا جزءا منها , أما نحن فمن وماذا نخدم ..؟
للأسف أشعر في هذه اللحظة أن هؤلاء الذين كنت أسميهم رعاع الفيسبوك ورداحيه تفوقوا عليّ وعلى مقالاتي الرصينة تجاه معارضة تستحق الرجم والجلد .. ربما على طريقة داعش !!
************************************************************
هذا المقال منشور في العدد 204 من مجلة الشراع اللبنانية الصادر في بيروت بتاريخ 10 / 1 / 2014 .