ارتبط الاجتياح الأميركي للعراق بعنوانين، واحد قصير الأمد هو “نزع أسلحة الدمار الشامل”، وآخر بعيد الأمد هو “بناء دولة ديموقراطية – ليبرالية متحالفة مع الغرب في العراق لتكون منطلق التغيير في الشرق الأوسط”… بعد عشرين عاماً من الحرب، يبدو أنّ العنوانين قد أثبتا خطأهما، ولكن ليس للأسباب التي يروّج لها معتنقو نظريات المؤامرة والكليشيهات المبسطة.
في كتابه الصادر حديثاً، يحاول المؤرخ الأميركي ملفين ليفلير، أن يقدم الرواية الأكثر شمولية لقضية الاحتلال الأميركي للعراق قبل 20 عاماً. عبر سنوات طويلة من البحث والتدقيق، قام خلالها بسلسلة مقابلات مع أركان إدارة جورج بوش الذين انخرطوا بقرار الحرب، ودرس فيها الأرشيف والوثائق المتعلقة به، يخلص ليفلير إلى أنّ قرار إسقاط صدام حسين لم يكن مبيتاً قبل 11 أيلول (سبتمبر)، وأنّ بوش صعد إلى الرئاسة وفي ذهنه أجندة سياسية محلية بالدرجة الأولى، وأنّ ظروف ما بعد 11 أيلول، والقلق المتفاقم من المخاطر الأمنية المحتملة ومن هجمات تدعمها حركات وأنظمة “مارقة” وتُستخدم فيها أسلحة الدمار الشامل، هو الذي خلق الجو السياسي والنفسي المواتي الذي جعل إدارة بوش تتخذ قرار الحرب.
يحاول ليفلير في كتابه تقويض فكرتين سادتا التصورات والانطباعات حول الحرب، الأولى هي أنّ القرار هو من صنيعة “المحافظين الجدد”، والثانية هي أنّ ديك تشيني، نائب الرئيس حينها، لعب الدور الأساسي في اتخاذه، وبما أغرى بوش للذهاب بهذا الاتجاه. الكتاب يجادل بأنّ بوش كان هو صاحب القرار، اتخذه بعد نقاشات وجدل وشد وجذب في أوساط الإدارة، وأنّ التأثير المزعوم لتشيني ولمجموعة “المحافظين الجدد” مبالغ فيه، وبالتالي فإنّ الكتاب يحاول أن يدحض فكرة هيمنة الدوافع الأيديولوجية في قرار الحرب، ويحاول أن يجعله وليداً لسياق معين أنتجته خاصة هجمات 11 أيلول التي غيّرت أولويات الإدارة، وخلقت ظروفاً لتبني مغامرات ما كان من السهل قبولها سابقاً، كاحتلال العراق.
قد لا ينهي كتاب ليفلير الجدل حول الحرب، لكنه يحاول تقديم مقاربة هادئة بعض الشيء بعد عشرين عاماً من تلك الحرب، لا تستسهل الاستسلام للتفسيرات المبسطة السائدة. ما لن يغيره الكتاب هو حقيقة أنّ هناك شعوراً عاماً سائداً في الولايات المتحدة حول أنّ تلك الحرب لم تكن تستحق الثمن الذي دُفع – أميركياً – وأنّها لم تكن قراراً صائباً. من الواضح هنا أن الولايات المتحدة قادرة – بعد كل شيء – على نسيان تجربة العراق، وبتعبير هال براندز، الأستاذ في معهد جون هوبكنز للدراسات الدولية، الذي كتب مقالة تتناول كتاب ليفلير، فإنّ الشيء الجميل حول كون الولايات المتحدة قوة عظمى، “هو أنّ أكثر أخطائها غباءً وتراجيدية لن تكون مميتة لها”.
الرواية التي يقدمها ليفلير تقوي في النهاية التصور الذي يرى أنّ الحرب كانت نتاجاً ظرفياً، وليست انعكاساً لمشروع متأن ومتكامل وبعيد المدى. لم يكن الخوف من “أسلحة الدمار الشامل” المزعومة لدى صدام حسين مجرد ذريعة، بل كان هاجساً حقيقياً. ذهبت الولايات المتحدة إلى العراق للتخلص من دكتاتور دموي ومهووس وخطر محتمل على أمنها، لكنها لم تكن مستعدة بما يكفي لخوض غمار عملية طويلة لبناء الدولة وإنتاج ديموقراطية عراقية متحالفة مع الغرب، كما كان يعتقد مؤيدو الحرب، سواء في المجموعة التي أطلق عليها اسم”المحافظين الجدد”، أو النخبة المفكرة التي دعمت “تثوير الشرق الأوسط” الساكن المقاوم للتغيير عبر العراق، كبرنارد لويس وفؤاد عجمي، أو أقطاب المعارضة العراقية الليبرالية مثل أحمد الجلبي وكنعان مكية. لكن إذا كنّا نعرف أن وهم “أسلحة الدمار الشامل” قد دُحض، فما زلنا بحاجة لفهم سبب تحول فكرة دمقرطة العراق ولبرلته، وجعله مفتاحاً للتغيير في الشرق الأوسط، إلى وهم هي الأخرى.
لقد استندت فرضية التغيير “الثوري” من الخارج، إلى أنّ غالبية العراقيين يرغبون في التخلص من صدام حسين ونظامه البغيض (وهي فكرة صحيحة)، وأنّ المجتمع العراقي ونخبه السياسية البديلة جاهزة لبناء نظام ديموقراطي، مؤسساتي، تعددي (وهي فكرة ثبت خطأها). في محاولة للإجابة عن سبب إخفاق هذه الفكرة يجب تذكر ثلاثة أمور:
الأول، هو أنّ معظم التيارات السياسية والأيديولوجية التي هيمنت على العراق وعلى عملية التثقيف السياسي فيه بعد عام 1958، وربما قبل ذلك التاريخ، كانت تيارات رافضة للفكرة الليبرالية ومناوئة للغرب، سواء اتخذت شكلاً شيوعياً أم بعثياً أم إسلامياً. وبينما لعب الجهاز الدعائي لنظام البعث دوراً كبيراً في نشر هذه الأفكار بعد توليه السلطة، فإنّ الأسلمة المتزايدة للمجتمع العراقي، أسوة بمجتمعات عربية أخرى، أنشأت مزاجاً عاماً ومنظومة قيمية لا تنسجم مع الديموقراطية الليبرالية بالشكل الذي تتبناه الولايات المتحدة.
الثاني، أنّ نحو ثلاثين سنة من الحكم القمعي المفرط بقسوته، ومن الحروب، و13 عاماً من الحصار الاقتصادي القاسي، قد أسهمت في إفراغ العراق من التنظيمات السياسية والأحزاب والنقابات الفاعلة، وفي تدمير الطبقة الوسطى في العراق، وتفكيك المجتمع المدني الحديث، وبالتالي في تغييب الحوامل الاجتماعية التي تتبنى فكرة الديموقراطية – الليبرالية وتستطيع تعبئة المجتمع حولها. بدلاً من ذلك، فإنّ الفراغ السياسي الذي خلّفه سقوط نظام صدام والبعث، ملأته أساساً تيارات إسلامية وحركات دينية (كالتيار الصدري بمشتقاته المختلفة)، والقوى الجهادية في المدن ذات الغالبية السنية. بمعنى آخر، إن “الثورة المفروضة من الخارج” لم تجد لها “كتلة تاريخية” داخلية تتعكز عليها في الداخل.
الأمر الثالث، يتعلق بطبيعة النخبة التي تسلّمت القيادة، ومعظمها من الأحزاب الشيعية الإسلامية التي عادت من المنفى، والأحزاب الكردية التي تركزت نظرتها المستقبلية على تأكيد استقلال كردستان عن العراق وليس إعادة بناء العراق من الداخل. اتسمت مطالب وتصورات هذه القوى بالطابع الفئوي، إذ هيمنت فكرة الدفاع عن “الجماعة الفرعية” وتأكيد حصتها العادلة من السلطة والثروة على سلوكها، بحيث لم يكن لديها مشروع دولتي بقدر ما كانت تتحرك وفق مشاريع جماعاتية، ولينتج من ذلك تكريس فكرة العراق كدولة “مكوّنات”، دولة لا وجود مستقل لها عن تلك “المكوّنات”، ولتصبح الديموقراطية معها تمثيلاً للمكوّنات لا للمواطنين، وهو تمثيل احتكرته تلك القوى وصارت تكرسه بالقوة والوسائل القانونية وغير القانونية في الوقت ذاته.
بعد عشرين عاماً … أصبحت الحرب ذكرى في الولايات المتحدة، لكنها لم تنته بالنسبة إلى العراقيين، بل أنتجت سلسلة من الصراعات والاستقطابات موضوعها الأساسي هو إعادة تشكيل السلطة وبناء علاقات القوة، وفي خضم هذا الصراع، كانت فكرة “العراق الديموقراطي الليبرالي” المتحالف مع الغرب قد أصبحت وهماً كبيراً آخر.
المصدر: النهار العربي